أمثلة على علماء تحملوا الشدائد خلال حياتهم
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
علماء تحملوا الشدائد خلال حياتهم العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
كم قاسى العلماء من ويلات شخصية، ولكنهم كانوا دائماً يتحلون بالقدرة على الثبات ورباطة الجأش؛ والاستمرار في مواصلة مسيرتهم العلمية السامية ورسالتهم الإنسانية النبيلة .
ومن معلمي الإنسانية، نذكر ابن سينا الذي واجهته في باكورة حياته نوائب ثلاث: موت صديقه الأمير نوح، واحتراق مكتبة القصر الأميري عن آخرها واتهامه – ظلماً – بحرقها، وموت أبيه. وقد تحمَّل الصدمات الثلاث بروحٍ ثابتة وإيمانٍ راسخ وعزمٍ لا يلين .
كما عانى – فيما بعد – الأمرين من المرتزقة المحيطين بأولي الأمر، فقد تسببت مكائدهم في دخوله السجن مرتين: الأولى في عهد شمس الدولة البويهي حاكم همذان، والثانية في عهد علاء الدولة أمير أصفهان.
كذلك سرقة كتبه النفيسة، وفي مقدمتها موسوعته الضخمة "الإنصاف" التي تقع في عشرين مجلداً. وفوق كل هذا اتهامه – ظلماً أيضا – بالزندقة التي هو منها براء .
ومن بناة الأكوان، نذكر كبلر الذي كانت حياته كلها من المهد إلى اللحد سلسلة متصلة الحلقات من الضعف الصحي والقلق المالي والنكد العائلي. ولكنه مع ذلك تحمَّل الشدائد من موت شريكة الحياة، واتهام أمه بالسحر، وموت نصيره الملك.
بيد أن كل هذه المتاعب لم تصرفه عن تأمله في النظام الشمسي تأملاً جعله يخرج بقوانينه الثلاثة المعروفة التي ضمنَّها كتابه "الفلك الجديد".
وصراع جاليليو ومأساته مع الكنيسة الكاثوليكية أمرٌ معروف. عشرون عاماً من الألم ، ومع ذلك تحمَّل الشدائد في سبيل ما آمن به، فإذ به بعد شهورٍ أربعة من سجنه يُرسل نسخة من "المحاورات" لتُنشر ترجمة لاتينية له، كما كان يُبطن خلاف ما يُظهر عن تخليَّه عن نظرية كوبرنيكوس .
واذكر في مكتشفي الحياة الجاحظ ، فكم عانى من حُساده الذين تعرضوا له بالتجريح وكالوا له الاتهامات. وقد عاش في أخريات حياته عيشة جد قاسية، حيث طاردته العلل المستعصية وألمت به.
فقد أصابه الفالج، غير أن هذا المرض الذي أقعده لم يُثن همته السامية عن التأليف ولا ذهنه الصافي عن التوقد، فواصل التأليف حتى ربت مصنفاته على الثلاث مائة وخمسين كتاباً في شتَّى فروع المعرفة، كما استمر في النقاش والمجادلة والمحاورة والمناظرة، ودأب على التحصيل والإطلاع، حتى فاضت روحه وعلى صدره وفوق رأسه كتابٌ بل كتب! .
ومن مكتشفي الحياة أيضا، نذكر هارفي، فقد لحقت به كارثة كبرى، إذ فقد معظم مؤلَّفاته أثناء الحرب الأهلية عندما هاجم المتظاهرون منزله في لندن، وأتلفوا النفيس من أوراقه ومخطوطاته.
كما نذكر مندل الذي كان يشكو من صغره العوز والفاقة. فقد ظل يكافح طوال السنوات الست التي قضاها في المدرسة الثانوية وهو يتغذى نصف تغذية ويشبع "نصف بطن"؛ لأن والديه لم يكن بمقدورهما تمويله بما يكفي وجباتٍ ثلاثاً في اليوم! .
وقد أدى به الجوع ذات مرة إلى مرضٍ خطيرٍ أقعده عن الدراسة أشهرا! ومع ذلك تحمَّل وتحمَّل حتى أدى رسالته وكشف قوانينه التي أرسى بها دعائم علم جديد: علم الوراثة .
ومن قاهري الأمراض، باستير، الذي طالما تحمل الشدائد التي واجهته. من معارك فرضت عليه، وموتٌ لبنيه بالجملة، وداء مسَّه.
وإن ننس لا ننس دوره الفذ في قهر مرض الكلب معرضا نفسه للهلاك. كيف منظره وهو يلعق السم الزعاف ، قطرة قطرة ، في أنبوبٍ بهدوء من بين فكي كلبٍ مسعور، كما لو كان غير مدرك أنه بذلك يخطب للموت ودَّاً ! .
واذكر في رواد الفيزيقا أمبير ، صدماته قاسية ، فقد أُجبر وهو شاب في الثامنة عشرة على أن يشهد إعدام والده! وكانت الصدمة الثانية موت شريكة الحياة بعد سنواتٍ خمس فقط من زواجهما!.
وفاراداي ، تحمل شدة الفقر . فقد كانت جرايته في الأسبوع رغيفاً، يحصل عليه من إعانة الفقراء التي تدفعها الحكومة لأسرته، وكان يوزع رغيفه اليتيم على أيام الأسبوع، كسرتان للإفطار والعشاء وأما الغداء فلا! منتهى الفقر.
كما تحمَّل شدَّة أخرى، نفسية، فكم عانى من سوء معاملة زوجة استاذه ديفي، إذ لم تكن تنظر إليه على أنه عضد لزوجها ومساعد وإنما مجرد خادم له!
ومعاناة ثالثة، فكثيراً ما تعرَّض وأستاذه لأخطارٍ من جراء إجرائهما التجارب، وخاصة التجربة التي انفجر فيها مخلوط الكلور والنيتروجين وكادت أن تودي بحياتهما .
وأما بلانك، فكانت مآسيه بالجملة! ماتت زوجته الأولى، وتزوج بثانية، وأنجب من الزوجتين أطفالا سبعة ماتوا جميعاً على عيني أبيهم.
الأكبر قتلته الحرب العالمية الأولى والأصغر أُعدم!. وبعد هذه المآسي لم يعد يهم الأب المكلوم كثيراً أن ينهدم له بيت، أو تُحرق له مكتبته أثناء الغارات على ألمانيا، أو أن يكون أحد من قهرهم هتلر لكرههم النازية ! .
واذكر في رواد الكيمياء بريستلي، فقد تعرض لخسارة كبيرة ومرارة أثَّرت على مسيرته العلمية. فنتيجة انغماسه في السياسة وتورطه فيها إبان الثورة الفرنسية التي تحمَّس لها وبشَّر بها، هاجم الدهماء بيته، وحطموا محتوياته وأشعلوا النار في أغلى ما كتب، مخطوطاته القيَّمة التي قضى في إنتاجها زهاء أعوامٍ عشرين من البحث المضني والمتواصل.
وكانت هذه وحدها صدمة قاسية ظلَّ عالمنا يعاني منها ويتألم حتى لقي ربه. ولما اتجهت الثورة إلى حكم الإرهاب ازداد الحنق على بريستلي وضاق عليه الخناق، ولم يجد بُدَا من الهروب إلى العالم الجديد – أمريكا حيث أكمل بقية إنجازاته .
وكم تعرض لافوازييه ، فضلاً عن مأساته الكبرى، لأخطار أثناء عمله، وخاصة التجربة التي كان يجريها على ملح كلورات البوتاسيوم لدراسة إمكانية استخدامها كأحد المفرقعات، إذ حدث انفجار في المعمل أدى إلى وفاة اثنين من العاملين ونجا عالمنا وزوجه من موتٍ محققٍ! .
وكم تحمَّل وهلر بعد وفاة زوجه التي ماتت بعد عامين فقط من زواجهما .
وكاد حزنه الشديد عليها والألم الذي يعتصره لفراقها بثنيانه عن أبحاثه، لولا أن قيضّ الله له ليبج، صديقٌ صدوق فرَّج كربته وكَفكَف دمعته وشاركه بقية سيرته ومسيرته .
واذكر في رواد الكيمياء كذلك ماري كوري. كم قاست من عضات الجوع في شبابها ، وكم سقطت مغشياً عليها بسببه والجهد، فقد كان غذاءها في الغالب قبضة من فجل وكمية من كريز.
ولما تزوجت، ومع الحمل والولادة والقيام بشؤون المنزل، كانت تدرس للدكتوراه. مجهود مضنٍ وعملٍ متواصل .
هذا مع وجود علَّة في رئتها اليسرى، العدوى المتوارثة في عائلة سكلودوفسكا، وكم حذَّرها الأطباء ونصحوها بضرورة الذهاب إلى إحدى المصحات، ولكنها لم تعرهم اهتماماً بسبب انشغالها في البيت والمعمل .. ويا له من "معمل"، بارد رطب تنخفض حرارته شتاء إلى ما دون الثماني درجات، وهو في مجمله بالعشة أشبه! .
وأثناء محاولات استخلاص العناصر المشعة من خام البتشبلند كانت، هي وزوجها، يمسكان بجاروف ويقذفان بالنفايات داخل فرن قديم ذي أنبوبة صدئة.
واستمرا أعواماً أربعة في عملهما هذا كما لو كانا وقَّادين يعملان في جوف سفينة، يجرفان ويلهثان ويسعلان من أثر أبخرة ضارة، متناسين كل هذا العذاب ، ومركزين فكرهما في هدفٍ واحد، الحصول على العنصر الجديد .
والسؤال : ما الذي يجعل العلماء يتحمَّلون الشدائد والأهوال الجسام ومع ذلك يُبدعون ؟ .
في معرض الإجابة، يرى بعض علماء النفس أن أفضل أعمال الإنسان تتم عادة في ظروف عسيرة متحدَّية. وأن الإجهاد العقلي بل والألم الحسي قد يقوم بدوره الحافز الذهن .
ولولا معاناة كثير من الرجالات البارزين من شدَّةٍ معينة لكان من المحتمل الا يبذلوا الجهد الذي أدَى بهم إلى تفوقٍ أو ظهور! .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]