الشركات وتكاليف التعاملات في تنظيم مجتمع السوق
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
في البداية، كانت الديناميكيات الداخلية للشركة مُهمَلة من قبل الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد الذين كانوا يفترضون أنَّ الشركات تجمع "عوامل الإنتاج" (Factors Of Production) بما يتماشى مع الظروف السائدة في السوق، من دون إعطاء الاهتمام الكافي لكيفية حصول ذلك. ولكن مع نمو الشركات في الحجم والأهمية ضمن الاقتصاد، بدأ الاقتصاديون شيئاً فشيئاً يبحثون عن كثب في سير عملها. ولقد شكَّلت الطبيعة الهرمية للشركة تحدِّياً مفاهيمياً هاماً بالنسبة إلى علماء الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. فخلافاً للتداولات في السوق، حيث يتمتَّع المشترون والبائعون بالحرية والاستقلالية في التفاوض بشأن الصفقات، غالباً ما يخضع العمَّال في الشركات للمدراء والمالكين الذين يتعاملون معهم على أساس سُلطوي، وليس من خلال التفاوض والاتِّفاق الصريحَين.
وفي مواجهة هذا الواقع في الثلاثينات من القرن الماضي، أراد الاقتصادي رونالد كوس (Ronald Coase) حلَّ التناقض القائم بين الطبيعة الهرمية للشركة والالتزام الكلاسيكي الجديد بالتعاقد الطوعي في السوق. ولكنَّه أراد أن يفعل ذلك من دون التخلِّي عن الافتراض الكلاسيكي الجديد القائم على المصلحة الذاتية الفردية والنفعية. فصاغ كوس (1937) تفسيراً تحوَّل في ما بعد إلى أساسٍ للنظرية الكلاسيكية الجديدة للشركة ولمدرسة الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد الناشئة.
ويقوم الحلُّ الذي طرحه كوس على أنَّ الشركات هي وسيلة عقلانية للأفراد للتغلُّب على "تكلفة استخدام آلية الأسعار" (The Cost of Using The Price Mechanism)، أو ما أصبح لاحقاً يُعرَف باسم" تكاليف التعاملات". فإنَّ كوس يعتبر أنَّ علمية شراء وبيع السلع تنطوي على جميع أنواع التكاليف المباشرة وغير المباشرة، بما في ذلك تكاليف البحث عن المعلومات حول ظروف السوق أو التفاوض على العقود. وكانت العقود أيضاً ناقصةً بطبيعتها، لكونها غير قادرة على تحديد كلِّ الاحتمالات مسبقاً.
وبحسب كوس، تساهم الشركات في التقليل من هذه التكاليف عن طريق استدماجها. على سبيل المثال، من خلال تقديم عروض توظيف واسعة النطاق ومرنة على المدى الطويل، لم تعد الشركات بحاجة إلى التفاوض بشأن كلِّ خدمةٍ مطلوبة من الموظَّفين على حدة، أو التفاوض بشأن العقود المنفصلة مع المورِّدين. وهذا النهج نفسه يفسِّر أيضاً لجوء الشركات في بعض الحالات إلى التعاقد مع "مصادر خارجية"، لتأمين أجزاء من عملية الإنتاج، بدلاً من استدماجها.
وتتعدَّد الأمثلة على ذلك، ومنها: شراء المكوِّنات، أو الاستعانة بمتعاقدين مستقلِّين لإنجاز مهامٍ معيَّنة. وبحسب نظرية "تكاليف العمليات" (Transaction Cost) تلجأ الشركات إلى القيام بذلك عندما تكون تكلفة التعاقد من خلال السوق أقلّ من تكلفة الاستعانة بالطاقة الداخلية للشركة، كتوظيف العاملين الدائمين. وفي الأساس، تعتبر هذه النظرية أنَّ الشركات هي جهات فاعلة تسعى إلى زيادة الربح والتقليل من التكاليف، باستخدام الأسواق والتسلسلات الهرمية على حدّ سواء لتحقيق أهدافها.
وانطلاقاً من الأساس الذي وضعه كوس، ذهب الخبراء في مجال الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد إلى أبعد من ذلك، مُعتبِرين أنَّه ينبغي لنا أن ننظر بعمق إلى المؤسسات مثل الشركات (والدول) لفهم كيفية اتِّخاذ القرارات الاقتصادية (Williamson 1987). في هذا الإطار، يقول واضعو نظريات الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد إن الناس، في تفاعلهم، يطوِّرون اختصارات أو قوالب لأنواع خاصة من التفاعلات. وهذه القوالب تصبح مُمَأْسَسة مع مرور الوقت. فنعتاد على طرقٍ معيَّنة للقيام بالأمور، ونميل إلى تكرارها. وبسبب ذلك، تؤثِّر الأعمال السابقة في القرارات الحالية من خلال الشكل المُمَأسس الذي تمَّ تشكيله. وليست الشركة سوى أحد الأمثلة على ذلك، حيث إن القرارات القانونية والإدارية السابقة حول كيفية تنظيم الإنتاج تؤثِّر الآن في طريقة اتِّخاذ القرارات الاقتصادية الحالية.
ومع ذلك، انتقد البعض نهج الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد لكونه غير متَّسق. فافتراض الفردية المنهجية الذي يعتبر أنَّ العمل الفردي يُبلوِر المؤسَّسات، لا ينسجم مع تركيز الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد على المؤسَّسات كعاملٍ مؤثِّر على العمل الفردي. ولقد حاول العديد من واضعي النظريات في مجال الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد حلَّ هذه المسألة، بافتراض وجود "حالة طبيعية" قبل المؤسَّسات. فكتب مثلاً وليامسون (Williamson) (1975, p. 21) "في البدء كانت الأسواق". غير أنَّ هذا الكلام عرضة للانتقادات، إذ إنَّه يُعطي أفضليةً عشوائية للأسواق، فضلاً عن كونه غير دقيق من الناحية التاريخية. ومع ذلك، من خلال تركيز الاهتمام على تكاليف العمليات، يفتح الاقتصاد المؤسَّساتي الجديد خطّاً بحثياً قد يكون قيِّماً في مجال عمليات الشركات.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]