البيولوجيا وعلوم الحياة

دور الصحافة في نشر العلم وتفسيره

2013 لمن الرأي في الحياة؟

جين ماينشين

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

البيولوجيا وعلوم الحياة

يوم الأحد، نشرت صحيفة أبزرفر (Observer) البريطانية خبراً وضعه الكاتب العلمي الرئيسي فيها روبن ماكي (Robin McKie).

وقد أقرّ معهد روزالين لاحقاً أن خبر ماكي كان متوازناً قدر الإمكان و"قاوم الميل إلى المعالجة المثيرة". وزعم ماكي لاحقاً أنه اعتمد على مصادره ولم يخرق حظر نيتشر من الناحية التقنية.

أدرك الباحثون في معهد روزالين على الفور أن الخبر كبير، واستعدوا للعمل على تلبية الهجمة الصحفية المحمومة. وقد أشاروا إلى أن دولي بارتون (Dolly Parton) أبلغتهم بأنها تشعر "بالتكريم" لأننا أسمينا وليدتنا باسمها وأنه ليس هناك ما يدعى "دعاية سيّئة".

مع أن الباحثين هلّلوا لانضباط صحيفة الأبزرفر، فإنهم أشاروا إلى أن خبر ماكي أثار شبح الاستنساخ البشري وعبّر عن قلقه. وكان ظهور "دولي" في أميركا في طبعة مساء يوم الأحد من صحيفة نيويورك تايمز أقل انضباطاً.

فقد أذاعت جينا كولاتا (Gina Kolata) الخبر بعد قراءة النشرة الصحفية لمجلة نيتشر والتحدّث مع رئيسها. وقرّرا أن يعدّا خبراً في حال انتهك أحد الحظر الذي يمتد حتى يوم الأربعاء، لكنهما لن يكونا أول المنتهكين.

وبالنظر إلى أن ذلك خبر عاجل، فقد كان على كولاتا أن تكتب بسرعة وتستعدّ لأي شيء. وعندما لم يحدث شيء في وقت متأخّر من يوم السبت، افترضت أن الحظر صمد، ما يمنحها حتى بداية الأسبوع القادم على الأقل. بيد أنها أعدّت خبراً من المواد التي بين يديها، وفجأة أصبحت هناك حاجة إليه عندما انتهكت صحيفة أبزرفر الحظر ونشرت روايتها.

 

كان خبر الصفحة الأولى يوم الأحد مشكلاً. فكولاتا كاتبة علمية جدية عميقة التفكير عادة، وكانت تُعتبر من أفضل الكتاب في ذلك الوقت. مع ذلك، نظراً إلى أن الخبر استُعجل كثيراً، أو ربما لأن البحث الذي نشرته نيتشر نفسها جاء متحفّظاً وجافاً جداً، فقد اعتمدت كولاتا نهجاً تخمينياً وشائعاً.

ويمكن القول إن طريقة تقديمها الخبر – أول اطلاع الأميركيين على فكرة الاستنساخ – أثّرت على ما حدث لاحقاً.

قدّمت كولاتا القليل من العلم، ربما لأن البحث القصير والمقتضب نسبياً الذي كتبه إيان ويلموت (Ian Wilmut) وزملاؤه في مجلة نيتشر لم يقدّم الكثير من التفاصيل أو لأنها أرادت أن تقدّم كثيراً من التفاصيل أو لأنها أرادت أن تلتقط الصورة الأوسع لهذا البحث ونتائجه.

لكنها وجدت قليلاً من "الخبراء" الذين تقابلهم رغم ضيق الوقت في نهاية الأسبوع. وكان من الطبيعي أن تتصل بأشخاص علّقوا على البيولوجيا الوراثية والجزيئية ونتائجها في السابق، لأنها أرادت إيجاد ناطق قوي لتقديم اقتباسات قوية في المواقف المتطرّفة.

وكان اختصاصي البيولوجيا لي سيلفر من برنستون أحد هؤلاء: لاحظت كولاتا أن سيلفر كان ينهي كتابه "إعادة صنع جنة عدن" (Remaking Eden) وأنه يقوم بإيضاح لماذا يعتبر مثل هذا الاستنساخ مستحيلاً عندما وصلته الأخبار.

وصلت هذه الأخبار في الوقت المناسب ليقوم بالمراجعة الضرورية. وقد علّق سيلفر بسرور ظاهر: "إنه أمر لا يصدّق. إنه يعني أساساً عدم وجود أي حدود. ويعني أن الخيال العلمي صحيح. قالوا إنه لا يمكن إجراؤه، وها هو يتحقّق، قبل سنة 2000".

إن مَنْ يتحدّث منا إلى المراسلين الصحفيين ليجد بعد ذلك أن ما قاله أسيء فهمه أو شوّه، ربما يعتقد أن سيلفر لم يقل أي شيء متطرّف أو سخيف. لكنه كرّر التعبير عن هذا الشعور في المقالة أكثر من مرة. ومن الواضح أن اختيار الاستشهاد بسيلفر، وبتلك الطريقة، أحدث تأثيراً ملهباً للمشاعر – سواء أكان ذلك متعمّداً أم لا.

 

على الرغم من استشهاد كولاتا بمفكّرين عاقلين ومتوازنين مثل لوري أندروز (Lori Andrews) والعالم إيان ويلموت نفسه، فإن الصور التي تبرز هي الصور المتطرّفة.

 وهكذا لم يذكر قرّاء يوم الأحد دعوات ويلموت الموزونة للحذر والإقرار باحتمال إساءة استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة. وبدلاً من ذلك فإنهم ربما تذكّروا كلام اختصاصي الأخلاق الطبية لويس مونسون (Lewis Munson): "لقد خرج الجني من القمقم. هذه التكنولوجيا لا تمكن مراقبتها من حيث المبدأ".

كما أوردت كولاتا فكرة قالها مونسون ذات مرة حيث "يحصل عالم على بقعة دم من صليب المسيح. ثم يستخدمها لاستنساخ رجل هو المسيح – أو ربما لا يمكن ذلك". هذه الصورة ظهرت في المقالة، ولا يمكن هضمها أو تفسيرها.

التقط المراسلون والصحف في جميع أنحاء البلد هذه الصورة، من دون تقدير المعاني الدقيقة التي كانت تقصدها كولاتا من دون شك. هل ذلك الرجل الخيالي يسوع المسيح؟ من الواضح أنه ليس كذلك، ويجب علينا أن ندرك أن الاستنساخ لا يمكن أن يعمل بتلك الطريقة، لكن كولاتا لم تشر إلى ذلك.

في اليوم التالي، قدّمت كولاتا خبراً آخر، ركّز على القضايا الأخلاقية بصراحة. واستشهد بسيلفر ومونسون ثانية، وكذلك بمن يدركون ما يعنيه الاستنساخ ويشيرون إلى أن "التنسّخ ليس إنجاباً". لكننا لم نبلّغ بما يعنيه ذلك.

ومن المعقول الافتراض أن كولاتا، مثل المراسلين الآخرين، بذلت ما في وسعها للإفادة عن خبر مثير، لكنها قدّمت القليل من المعلومات أو الأفكار الحقيقية عما تُعنى به البيولوجيا بالضبط. ولم يوفّر خبرها أو الأخبار التي أوردها سواها مناقشة عميقة للنتائج الأخلاقية والاجتماعية التي ربما تشكّل خطراً أو كيف تفسّر.

واعترفت مقالة افتتاحية في اليوم التالي بالاستياء الذي شعرنا به جميعاً عندما سمعنا عن دولي، وهي نعجة مستنسخة بتقنية مصمّمة لتحسين الإنتاج الزراعي لكنها ذات تأثيرات بعيدة الأثر وغامضة جداً على التطبيقات البشرية.

جاء الخبر الرئيسي في صحيفة تايمز بعد عدة أيام في 3 آذار/ مارس، وكتبه مايكل سبكتر (Michael Specter) وجين كولاتا بمثابة تقرير خاص. أوضح هذا العرض الطويل والممتاز بكثير من التفاصيل العلم الذي ينطوي عليه البحث وتناول النتائج المترتّبة عليه.

 

وكان ذلك تقريراً رائعاً يستحق إعادة القراءة والحفظ باعتباره نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه الصحافة العلمية. وقد حددت تقارير ريك ويس (Rick Weiss) في صحيفة واشنطن بوست معايير عالية مماثلة.

في إطار تفسير المساهمات العلمية والتقدّم التقني، قدّم سبكتر وكولاتا العالم الرائد إيان ويلموت، وهو رجل يتسم برجاحة العقل والاحترام والاهتمام، لكنه يشعر بالضجر من وسائل الإعلام المحمومة والقليلة المعلومات.

قال ويلموت أنه سئم سماع "قلق الجميع من الفاتيكان إلى الرئيس كلينتون بحيث لا يستطيع استجماع مزيد من الغضب".

وشعر بالحزن لأن الناس يستعجلون الاستنتاج بأن في وسعهم استخدام الاستنساخ لاسترجاع أبنائهم المتوفّين. "إنه أمر محزن جداً. لا يمكنك استرجاع ابن، ذلك أمر مختلف. عليك أن تفهم البيولوجيا. الناس ليسوا جينات، إنهم أكثر من ذلك بكثير". كان يجب أن يُحدث هذا التأمّل العاقل أثراً في تصويب الخبر ومساعدة من لديهم الإرادة الطيبة في فهم ما ينطوي عليه ذلك علمياً وما لا ينطوي عليه. وبدوره يجب أن يساعد مثل هذا الفهم في تقليل المخاوف من استنساخ البشر.

لا شك في أن بعض الصحف والمجلات تضفي الحماسة والإثارة على كل خبر وتزدهر على المبالغة. لكن الضرر وقع بالفعل حتى بالنسبة للمراسلين الجديين الذين يحاولون تقديم رؤية أكثر توازناً.

ففي مواجهة الأمية البيولوجية الواسعة الانتشار، لم يكن هناك إلا القليل من الكتاب الذين لديهم الخبرة الكافية لفهم العلم من دون تفسير، وفي مواجهة رد الفعل الجماهيري الشديد، كانت صور النسخ التي لا تنتهي لهذه النعجة الجميلة الصادمة – ولنا – شديدة الإغراء في الظاهر.

 

تثير هذه الرواية أسئلة عن دور الصحافة في تقديم العلم وتفسيره. في الولايات المتحدة اليوم، تقوم الجمعية الوطنية لكتّاب العلوم بدور جيد حيث توفّر المعلومات وشبكة من الكتاب للمساعدة في إبقاء بعضنا بعضاً على اطلاع على المصادر المتاحة وما هي القضايا الساخنة. وفي عشرينات القرن العشرين، كانت ساينس سيرفيس (Science Service) مصدراً رئيسياً للمعلومات عن الأخبار العلمية.

وقد انتخب إدوين إ. سلوسون (Edwin E. Slosson) ، وهو كيميائي وصحافي ومحرّر، أول رئيس تحرير لها في سنة 1921. نشأت هذه المطبوعة عندما أقام المحسن إ. و. سكريبس (E. W. Scripps) تعاوناً مع الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم، والأكاديمية الوطنية للعلوم، ومجلس الأبحاث الوطني لتوفير مصدر للمعلومات العلمية الموثوقة وإشاعة العلم في أوساط الجمهور العادي.

وتظهر السجلات التاريخية لهذه الخدمة المهمة، وهي متاحة الآن عبر أرشيف معهد سميثسونيان وموقعه الإلكتروني، أنها استخدمت العلم لتقديم الحجج الاجتماعية. على سبيل المثال، أيّدت التطوّر في أثناء محاكمة سكوبز (Scopes).

ويظهر السجل، عند مراجعته تاريخياً، بوضوح أشدّ مما هو بيّن اليوم، كيف أن الصور التي تنقلها وسائل الإعلام، عندما نكون وسط أحداث دراماتيكية، تؤثّر في استقبال الجمهور للأفكار وتطبيقاتها ونتائجها.

إنني لا أزعم بالطبع أن جينا كولاتا وصحيفة نيويورك تايمز وحدهما تسبّبا في الصخب الأميركي بشأن الاستنساخ، لكن التقرير المبكّر عن الحدث لم يساعد أيضاً في تخفيف ردّ الفعل المبالغ فيه. فقد استحضرت مجلات تايم، ونيوزويك، ويو إس نيوز، ووولرد ربورت، وذا نيويوركر والصحف ومحطات التلفزة في جميع أنحاء البلد صوراً عن العوالم الجديدة الشجاعة ونُسخ الحيوانات والبشر المتطابقة.

 

وأعلنت شركة كانون عن مكنات النسخ التي تنتجها بصورتين لنعجتين متماثلتين مع شعار "إننا نصنع نسخاً منذ سنوات".

واجتاحت الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية وحشود الزائرين المصرّين على الدخول الباحثين في معهد روزالين. أراد الزوّار أن يشاهدوا صوراً لدولي ويحصلوا عليها، وأن يحصلوا على صور لإيان ويلموت، لسماع المزيد وكتابة مزيد من الروايات الدراماتيكية.

جفل معظم المراسلين عاطفياً من "الأطفال المستنسخين" المتصوّرين. وفي غضون ذلك، كافح العلماء الجادّون والصحافيون الحريصون من أجل إيضاح أن الاستنساخ عند الرغبة ليس القضية الحقيقية على الإطلاق. ثمة عدد من العوامل التي أثّرت في طريقة استقبال القصة. لكن لتقدير أهمية الردود، علينا أن ننظر أولاً عن قرب على العلم المستخدم.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى