قانون الاثبات المعمول به لدى العدالة ومبدأ عدم جواز الشخص أن يصطنع دليلاً لنفسه
1995 الحاسوب والقانون
الدكتور محمد المرسي زهرة
KFAS
قانون الاثبات مبدأ عدم جواز الشخص أن يصطنع دليلاً لنفسه العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
إن حق الخصم في الاحتجاج بأي دليل يخوله له القانون مقيد – قانوناً – بألا يكون هذا الدليل صادراً عنه هو نفسه . فالأصل أن من يقع عليه عبء الإثبات لا يجوز أن يصطنع لنفسه دليلاً ضد خصمه.
والدليل المقدم ضد الخصم يجب أن يكون صادراً منه حتى يكون دليلاً ضده. وأفضل دليل في الإثبات هو – قطعاً – ذلك الذي يصدر عن الخصم.
والقول بغير ذلك يعني التسليم بكل قول أو ادعاء يصدر عن المدعي بدون إقامة الدليل عليه والتثبت من صحته . فالأصل إذن هو عدم جواز أن يكون الدليل المقدم من الخصم مجرد أوراق صادرة عنه، أو مذكراته دوّنها بنفسه .
ولم ينص المشرع، في مصر والكويت وفرنسا ، على هذا المبدأ نظراً لبداهته . إذ يمكن استنتاجه من قواعد العدالة ، روح القوانين ، ومن قواعد الإثبات ذاتها . فضلاً عن أن الوقاعد العامة للقانون تؤكده.
فالعدالة تأبى أن يدّعي شخص على خصمه ادعاءات ويتقوّل عليه بأقوال ليس لديه دليل عليها سوى ورقة صادرة عنه هو . وإلا انفتح الباب على مصراعيه أما الادعاءات الباطلة والأقوال الزور فتكون دليلاً لمن ألطقها ضد أناء شرفاء . وصدق رسول الله حين قال : " لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم".
كما أن قواعد الإثبات هي الأخرى تؤكد هذا الأصل. فالمادة الأولى من قانون الإثبات الكويتي تقرر أن "على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلص منه.
وهذا النص يعتبر تطبيقاً للقاعدة الشرعية التي تقرر أن : "البينة على من ادّعى". ومقتضى هذا النص ، أن من يدّعي أمراً يجب أن يقدم دليل على صدق ما يدّعيه . فلا يكفي إذن مجرد أقوال مُرسلة، أو أوراق دوّنها بنفسه ، وإنما يجب أن يقدم دليلاً يكن نسبته إلى خصمه .
كما أن المادة (41) إثبات كويتي تنص على أن المقصود بمبدأ الثبوت بالكتابة هو " كل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف القانوني المدعى به قريب الاحتمال". فالكتابة التي يُعتمد بها كدليل إثبات هي تلك التي تصدر عن الخصم ، وليست ما يصطنعها الشخص ، ويدوّنها بنفسه ولنفسه .
وأخيراً ، فإن مبدأ عدم جواز أن يصطنع الشخص دليلاً لنفسه لا يقتصر نطاق تطبيقه على قانون الإثبات فقط ، وإنما يشمل معظم فروع القانون .
وتطبيقاً لذلك نص المشرع في المادة (910) مدني كويتي على أنه : " ليس لمن يجوز باسم غيره أن يُغير بنفسه ولنفسه صفة حيازته ، ولكن تتغير هذه الصفة إما بفعل الغير ، وإما بفعل من الحائز…" .
ومن هذ القبيل أيضاً ما نصّ عليه القانون ، في مصر، على براءة ذمة المؤمن من مبلغ التأمين إذا تسبب المستفيد من التأمين في وقوع الخطر المؤمن منه عمداً ، أو بتحريض منه . ويتضح من ذلك أن هذه التطبيقات وغيرها ، ما هي إلا إعمال لمبدأ عام مقتضاه ؛ أنه لا يجوز للشخص أن يخلق لنفسه وبنفسه سبباً لحق يدّعيه ، سواء كان هذا السبب دليل إثبات، أو حيازة أو غير ذلك .
لكن مبدأ عدم جواز أن يصطنع الشخص دليلاً لنفسه لا يعني، حتماً وجوب صدور الكتابة عن الخصم حتى يُعتد بها كدليل إثبات .
وإذا كان صدور الكتابة من الخصم يُعتبر – إذا لم ينكرها – ضماناً أكيداً لصدقها ودلالتها على الحقيقة ، فإن تدخل شخص من " الغير" يُعد ايضاً ، وربما بدرجة أكبر ، ضماناً لصدق الدليل.
ولعل أصدق مثال لذلك هو الورقة الرسمية . فهي ليست صادرة عن الخصم ، لكن وجود الموظف العام ، وهو من الغير بالنسبة لطرفي العلاقة ، ليثبت ما يتلقاه من ذوي الشأن يمثل – دون شك – مضاناً كافياً على صدق ما تتضمنه الورقة من بيانات .
لكن هذا المبدأ الذي يستمد أساسه، أصلاً، من قوعد العدالة قد يقف عقبة – على الأقل في بعض الحالات – في سبيل الاعتراف لمخرجات الحاسب الإلكتروني بحجية قانونية في الإثبات .
فالحاسب الإلكتروني يخضع تماماً لإرادة من يستعمله . كما أن البرنامج " المعد" بوضع في الحاسب لصالح الجهة المستفيدة ، ويخضع لإشراف وتوجيهات هذه الجهة .
وإذا كن الحاسب يؤدي مهمته تنفيذاً للتعليمات والإيعازات التي يتم تخزينها عليه، فإن هذه التعليمات يمكن التحكم فيها من قبل المبرمج ، وبالطريقة التي يريدها .
ولذلك قد يقال أن المعلومات الناتجة عن الحاسب هي من صُنع مستعمله . فهي إذن صادرة عنه ، ومن ثم لا يجوز له – قانوناً – الاحتجاج بها كدليل إثبات .
ويبدو أن هذا التحليل هو الذي انتهت إليه محكمة Sept بفرنسا وتتتلخص وقائع القضية في أن شركة / Credicas قد وافقت على فتح ائتمان للسيدة P. Brisson في حدود مبلغ أربعة آلاف فرنك.
وقد حصلت السيدة P. Brisson على مبلغ الائتمان بواسطة الموزع الآلي التابع للشركة المقرضة . وفي تاريخ الاستحقاق طالبت الشركة السيدة المقترضة الوفاء بما عليها .
وقدمت الشركة تاييداً لمطالبها نسخة الشريط الورقي الذي يبقى في جهاز الصرف الآلي نتيجة للسحب النقدي الذي قامت به المدّعى عليها ؛ وقد رفضت المحكمة طلب الشكرة على أساس أن من يطالب بتنفيذ التزام يجب عليه ، طبقاً لنص المادة 1315 مدني إثباته.
وأن إثبات التزام المقترض بالدفع لا يكون ، طبقاً لنص المادة 1322 مدني ، إلا بدليل موقع من المدين يبت استخدامه لجزء أو لكل مبلغ الائتمان المتفق عليه.
وأن هذا الدليل الموقع من المدين لا يُغني عنه ما أسمته الشركة "التوقيع المعلوماتي" Signature iformatique والذي يصدر ، ليس عمن يراد الاحتجاج به في مواجهته ، وإنما عن "آلة" macine تخضع كلية لإرادة المدعي .
فالدليل الموقع توقيعاً إلكترونياً ، كما يسميه البعض، لا يقبل كدليل إثبات لصالح الشركة المدعية ، أو البنك عموماً ،
لأنه – باختصار – من صُنعها . فهو – أي الدليل – صادر عن الحاسب الإلكتروني ، وهذا الأخير يخضع في استعماله لمطلق حرية البنك.
فما يصدر عن الحاسب الإلكتروني يُفترض أنه صادر عن مُستعمل الحاسب ، وبالتالي لا يستطيع هذا الأخير الاحتجاج بالسند الصادر عن الحاسب كدليل في الإثبات .
وقد يُعزز هذا القول الذي ذهبت إليه المحكمة أن الحاسب الآلي لا يُعتبر – في مثل هذا الفرض – من " الغير" بالنسبة للبنك مستعمل الحاسب .
فقد سبق أن رأينا أن تدخل شخص من " الغير"، كما هو الحال بالنسبة للورقة الرسمية ، يُعتبر ضماناً كافياً لصدق دليل الإثبات . فإذا أمكن اعتبار الحاسب من "الغير" بالنسبة للبنك ، فإن هذا الأخير قد لا يُعتبر – في الفرض الذي نحن بصدده – قد اصطنع الدليل لنفسه . لكن القول "باستقلالية" الحاسب عن مستعمله يبدو محل شك من الناحيتين الفنية والقانونية على السواء.
فمن الناحية الفنية ، يبدو ما يصدر عن الحاسب الإلكتروني ، يفترض صدوره عن مستعمله ، ومن ثم فليس لهذا الأخير أن يتمسك بمخرجات الحاسب ، وهو خاضع لإرادته أصلاً ، في الإثبات . فهو – في الواقع – الذي اصطنعها لنفسه .
ومن الناحية القانونية فمن الخطورة أن نقرر ولو بطريق غير مباشر ، "استقلال" الحاسب بالنسبة لمن يستعمله . فالقول "بالاستقلالية" التامة يؤدي ، منطقياً ، إلى عدم مساءلة مستعمل الحاسب في حالات الغش والخطأ وهي نتيجة يرى البعض استحالة التسليم بها قانونا ً.
والحقيقة إن التحليل السابق قد اخذ بظاهر الأمور ، ولا يستقيم ، من ثم ، عند التعمق في النظر . ولتوضيح ذلك نذكر المثال الآتي : في نظام الصرف الآلي المعمول به حالياً في كافة البنوك تقريباً يحصل حامل البطاقة عليها طبقاً لعقد يبرمه مع لجهة المصدرة لها .
ويحدد هذا العقد الإجراءات التي يجب على حامل البطاقة اتباعها حتى يستطيع إتمام عملية الصرف ، وهي تتلخص في : إدخال البطاقة في جهاز الصرف ، ثم إدخال الرقم السري للعميل ، ثم تحديد ماهية ما يُريده حامل البطاقة : سحب نقدي ، استفسار عن الرصيد ، طلب دفتر شيكات وهكذا .
ويعمل البنك مثصدر البطاقة على "برمجة " جهاز الصرف بطريقة معينة حتى يستطيع الاستجابة لطلب العميل حسب تعليمات هذا الأخير .
في ضوء ذلك ، هل يمكن القول ، ببساطة ، أن الشريط الورقي الصادر عن جهاز الصرف الآلي نتيجة لعملية السحب ، يُعتبر صادراً عن البنك وحده ؟
فحامل البطاقة هو الذي يضع الإجراءات المتفق عليها موضع التنفيذ ، ثم يُعبر عن طلبه على وجه التحديد . حقاً إن هذا الطلب تتم بعد ذلك معالجته معالجة الكترونية .
لكنه يصعب – مع ذلك – القول بأن الشريط الورقي يعتبر صادراً عن البنك وحده . فهو ، أي الشريط ، " انعكاس" لطلب حامل البطاقة ، بناء على الخطوات الصادرة عنه ، ومعالجة هذا الطلب ، من خلال جهاز الصرف ، معالجة إلكترونية .
بعبارة اخرى ، يمر الشريط الورقي بمرحلتين : الأولى وهي اتباع الإجراءات المتفق عليها ، وتخضع هذه الإجراءات لإرادة حامل البطاقة ، والثانية ، وهي معالجة طلب حامل البطاقة معالجة إلكترونية ، وتخضع هذه المرحلة لإرادة البنك .
فهو الذي يتحكم في "برمجة" جهاز الصرف الآلي . فالشريط إذن هو محصلة طلب صادر عن حامل البطاقة ، ومعالجة إلكترونية لهذا الطلب تخضع لسيطرة البنك .
وإذا لاحظنا أن تاثير البنك على الحاسب الإلكتروني ، في ظل نظام "البرمجة"، يكاد يكون منعدماً من الناحية العملية، أمكن القول – كما يرى البعض – بأن الإجراءات أو التعليمات التي يقوم حامل البطاقة بإدخالها – عن طريق لوحة المفاتيح Clavier، ثم ترتد أو تنعكس على "دعامة" معينة ، تعتبر صادرة عن حامل البطاقة نفسه وليس عن البنك .
ويعيب هذا الرأي – في نظرنا – أنه قد يؤدي إلى الاعتقاد بعدم إمكنية الاحتجاج بالشريط الورقي على البنك ذاته . فالقول بأن هذا المستند يصدر عن البنك لخضوع الحاسب لسيطرته يؤدي ، كما ذهبت إلى ذلك محكمة Sept، إلى عدم إمكانية الاحتجاج بالشريط الورقي على حامل بطاقة الصرف الآلي .
وبالمنطق نفسه ، فإن القول بصدور الشريط عن حامل البطاقة وحده دون البنك قد يعني عدم إمكانية الاحتجاج بالشريط على البنك . وهي نتيجة غير مقبولة عملاً وقانوناً .
والحقيقة – في اعتقادنا – أن الذي جعل البعض يذهب إلى حد اعتبار أن الشريط الورقي صادر عن البنك هو إمكانية التلاعب في أجهزة الصرف الآلي .
فالحاسب الإلكتروني عموماً يخضع في "برمجته" لسيطرة من يستعمله . وقد يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن من يستعمل الحاسب يستطيع إذن أن "يتلاعب" في المعلومات المسجلة على الحاسب بما يحقق مصلحته هو دون حامل البطاقة .
والواقع أن هذه المشكلة تربط – من ناحية – بمدى إمكانية هذا التلاعب من الناحية العملية ، ومن ناحية أخرى بعبء إثبات هذا التلاعب .
فهناك في الحقيقة ، علاقة لا تقبل التجزئة ، بين مسألة الإثبات وبين "مصداقية" أو "اعتمادية" fiabilité أنظمة الحاسب الإلكتروني المستخدمة في التعامل .
ونرى أن الشريط الورقي ما هو إلا نتيجة لمجموعة من الإجراءات اشترك فيها كل من حامل البطاقة والبنك في الوقت ذاته . فالعميل حامل البطاقة هو الذي قام بإجراءات السحب المتفق عليها ، ثم عبّر عن طلبه صراحة .
وبعد ذلك ، يتولى الجهاز معالجة البيانات المدخلة معالجة إلكترونية ، مما يؤدي في النهاية ، إلى إتمام عملية السحب ، وإثبات ذلك على الشريط الورقي .
فعملية السحب إذن عملية مشتركة بين الطرفين ، ساهم فيها كل منهم بجانب من الإجراءات . ولذلك يبدو صحيحاً في نظرنا القول بإمكانية الاحتجاج بالشريط الورقي على الطرفين ، على فرض توافر الشروط الأخرى التي قد يتطلبها القانون .
ويؤكد ذلك أن الشريط ليس من صنع طرف دون الآخر ، بل هو نتيجة لاشتراكهما معاً في الإجراءات التي أدت إليه . وبالتالي لا يُعتبر أيّ منهما قد اصطنع هذا الشريط لنفسه .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]