نبذة عن حياة العالمة “ماري كوري” وأهم الصعاب التي واجهتها
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
ماري كوري صعوبات ماري كوري شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
في 20 مايو عام 1921 وقف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هاردنج ، في ردهة الاستقبال في البيت الأبيض يحف به سفير فرنسا ووزير بولونيا المفوض وأعضاء حكومته ورجال العلم والقضاء.
وكانت تقف أمامه سيدة نحيفة البنية وديعة المنظر مرتدية ثوباً أسود، خاطبها الرئيس قائلاً: "كان من حسن حظك أنك قمت بخدمة للإنسانية مجيدة وخالدة.
ولقد عُهِد إلي أن أقدِّم لك هذا القدر الضئيل من الراديوم – جراماً واحداً. فنحن مدينون لك بمعرفتنا له وملكنا إياه.
لذلك نرفعه إليك واثقين أنه وهو في حوزتك لا بد أن يكون وسيلة لتوسيع نطاق العلم وتخفيف آلام الناس". تلك السيدة كانت مدام كوري ( شكل 232 ) .
فقد … أم
ولدت ماري سكلودوفسكا، التي نعرفها اليوم باسم مدام كوري، في فرسوفيا ببولونيا في 7 نوفمبر عام 1867، وهي قد أنحدرت من أروقة شريفة من الفلاحين.
وكان والدها قد ارتفعا فوق مستوى الفلاحين، ووصلا إلى ذلك المستوى الذي يضم الصفوة وهم المتعلمون تعليماً عالياً. وكان والدها استاذاً لعلم الفيزيقا في المدرسة العالية بوارسو، وكانت والدتها عازفة بيانو ماهرة.
وكانت مانيا، وهو اسم التدليل بدلاً من ماري، قد ورثت عقل والدها ويدي أمها. وأظهرت كفاءة مُبكِّرة وحباً عظيماً للعلوم التجريبية، ولكن والديها لم يسمحا لابنٍ من أبنائهما الخمسة بإرهاق نفسه في المذاكرة. فقد كانت هناك شائبة لمرض السل تسري في الأسرة .
وكان الأطفال، أبناء سكلودوفسكا، يضيفون إلى صلاتهم كل مساء : "… ونرجوك يا رب أن تعيد لوالدتنا صحتها" . لقد كانت الأم مريضة بالسل وقد أراد الله – ولا رادَّ لقضائه – أن يأخذ مدام سكلودوفسكا من بين أبنائها.
وكانوا آنذاك أربعة فقط لأن خامسهم كان قد مات مريضاً بالتيفوس، وكان عمر مانيا عشر سنوات فقط عندما فقدت أمها .
وكانت الأسرة التي تجتمع حول المائدة بعد رحيل الأم أسرة حزينة فقيرة، ذلك أن الأب فقد منصبه في المدرسة العالية بفرسوفيا بسبب تطلعه إلى تحرير بولندا من طغيان القيصر الروسي. وافتتح الأب مدرسة داخلية، بيد أنها لم تحقِّق نجاحا يُذكر.
يا له من موقف صعب، ماذا يفعل الأب ولديه أفواه أربعة نشيطة في حاجة للطعام، وأربعة أجسام نامية في حاجة للملابس. وعقول أربعة متفتِّحة في حاجة للتعليم؟!
البصق .. على الطريقة البولندية
كانت تجري في دماء أبناء سكلودوفسكا الأربعة قوة التربية البولندية، كما كان لديهم طموح القلب البولندي أيضاً ، وطموح الروح الحرة في الجسم المكبَّل بالأغلال.
وكان الأبناء، مثل أبيهم، يحاربون ضد الشدائد، كما يحاربون ضد الطغيان. وعندما كانت مانيا تذهب إلى مدرستها كل صباح كانت تمر في طريقها بتمثال أقيم من أجل "البولنديين المخلصين لمَلِكهم". وذلك يعني – بصريح العبارة – من أجل البولنديين الخائنين لوطنهم، لأن من يخلص للغاصب يكون بذلك خائناً لبلده.
وكانت مانيا تهتم دائما بأن تبصق على ذلك التمثال. وإذا حدث ولم تقم سهواً بأداء (الواجب) نحو ذلك التمثال، فإنها كانت تعود أدراجها لتصلح خطأها حتى لو جازفت بالتأخر عن موعد المدرسة! .
الشعر … المتمرِّد !
كانت الثائرة الصغيرة لا تعبر عن احتقارها للظلم في غياب ظالميها فحسب بل في حضورهم أيضاً. وكانت هناك مُدرِّسة في مدرستها تُدعى مدموازيل ماير، وهي المشرفة الألمانية على المدرسة وإحدى من يمثلن السلطة الأجنبية الحاكمة في بولندا.
وكانت هذه الجاسوسة التي تنزلق على الأرض لابسة خفَاً مكتوم الصوت امرأة ذات جسم ضئيل ومقدرة هائلة على الحقد. وقد جعلت حياة تلميذاتها البولنديات شيئاً لا يُطاق، وعلى الأخص تلك الفتاة من أبناء سكلودوفسكا التي كانت تتجرأ على مقابلة كلامها العنيف ولسانها السليط بابتسامة هازئة. ولكن مانيا لم تكن تكتف دائماً بمجرد هذا التعبير الصامت .
فقد حدث ذات مرّة أن حاولت الجاسوسة في شيء من الخشونة أن تسوِّي الخصل المتمرِّدة – بالطريقة البولندية – في شعر مانيا وأن تجعلها على شكل الضفيرة التقليدية للفتاة الألمانية، غير أن مجهوداتها ضاعت سدى، ذلك أن شعر مانيا ، مثل روحها، رفض أن يستسلم للمسات الطاغية.
واغتاظت ماير من ذلك "الشعر العنيد"، وكذلك من نظرة الإزدراء التي كانت تطل من عيني تلميذتها البولندية. فصاحت بها آخر الأمر "لا تُحملقي فيَّ بهذه الطريقة" إنني أمنعك من أن تزدريني وأن تنظري إليِّ بعلياء هكذا.
ولكن مانيا قابلت تلك الخشونة والفظاظة برقة وبمنطقية: "إنني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك يا آنسة"، ذلك أن قامتها كانت أطول كثيراً من قائمة مدموازيل ماير .
مُربيِّة أطفال!
حصلت مانيا، برغم تمردها على الميدالية الذهبية عند إتمام دراستها في المدرسة الثانوية عام 1883. ولم يكن ذلك بغريب على آل سكلودوفسكا، فقد حصلوا حتى ذلك التاريخ على ميدالياتٍ ثلاث .
ورأى والدها عندئذ أن ما حصَّلته من الدرس يكفيها في الوقت الحاضر، فلتذهب إلى الريف إذن لمدة عام تقوِّي فيه جسمها. وحدَّثته نفسه "يجب ألاّ تسقط هذه الطفلة الذكية الحسناء فريسةً للسل مثل أمها".
وانقضى عام عادت مانيا بعده إلى وارسو، حيث واجهت مستقبلا غير، مضمون، حيث كانت شقيقتها الكبرى برونيا تريد أن تدرس في جامعة السوربون في باريس، وكانت مانيا مثل ذلك تريد.
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك والأسرة ليس لديها من المال ما يكفي للإنفاق على واحدة فقط منهما؟ وبدت مشكلة مستعصية الحل. ولكنني أرى حلاً! قالت مانيا وأفصحت "سوف أجد لنفسي عملاً كمربية أطفال وأساعدك حتى تكملي تعليمك وتحصلين على الدكتوراه وبعدها تساعدينني" .
وكان خطَّة جريئة بعيدة التحقيق ، ولكنها نُفِّذت وأتت ثمارها المرجوَّة، وأصبحت مانيا معلِّمة أشبه بالخادمة لدى سيَّدة غبية، فظة، ضيقة الخلق، حمقاء، نزقة الطبع، كانت تقتصد من ثمن زيت المصابيح لتبعثر ما ادخرته في لعب القمار! . وسرعان ما استبدلت أخرى بـ "سيدتها" تلك .
سنة أولى … حُب !
لماذا لم تتزوج مانيا من كازيمير؟ ومن كازيمير؟ إنه الابن الأكبر لـ "سيدتها " الأخرى. وهل أحبها؟ أحبها وأحبته، بل كان حبها الأول، إذ عندما رجع إلى وارسو، حيث كان يدرس في الجامعة، إلى عائلته لقضاء العطلة وقع فوراً في غرام الآنسة مانيا الصغيرة الحسناء، التي لم تكن تتكلم فقط كلام العلماء بل كانت ترقص أيضا رقص الفنانين! .
ولكن لم يُقدَّر لهما، وكل شي نصيب، أن يتزوجا. ما السبب؟ التقاليد، فقد رفضت والدة كازيمير أن تقبل مربية أطفال لتكون واحدة من عائلتها، ناسية أو متناسية أنها هي نفسها كانت تمارس نفس العمل قبل زواجها! .
لا يأس … مع الحياة
لمَ اليأس يا مانيا؟ "إنني دفنت آمالي وطموحاتي وأدتها ونسيتها، إن الأسوار أقوى من الرؤوس التي تنطحها . إنني أنوي أن اودِّع هذه الدنيا الفانية. إن الخسارة عليِّ لن تكون كبيرة والأسف عليِّ لن يطول" – كانت هذه هي إجابة مانيا على التساؤل: لِمَ اليأس؟ .
مانيا – امسكي عليك حياتك، إنك ستكونين في المسقبل واحدة من أشهر نساء الدنيا. وتغلَّبت على يأسها ورجعت إلى العمل والتقتير معاً لتستمر في مساعدة برونيا لتكمل دراستها في السوربون.
ولم يُخيِّب الله مسعى الشقيقتين الطموحتين، فقد تمكنت برونيا بفضل مساعدات مانيا وبفضل ما لديها من قدرة فطرية على تحمل عضات الجوع وآلامه من أن تتم دراستها بنجاح وتحصل على "بكالوريوس" الطب وهي تتضوَّر جوعاً.
وتزوَّجت من أحد زملائها الأطباء. برونيا -لقد جاء دورك كي تقومي بنصيبك في الاتفاقية التي عقدتها معك أختك .
ليلة القبض … على مانيا !
كانت بولونيا في تلك الأيام مقاطعة من روسيا، وحكومة روسيا تفرض أعباءً ثقالاً على الشعب البولوني المحكوم. فاستعمال اللغة البولونية كان محظوراً في الصحف والكنائس والمدارس، والبوليس السري الروسي كان ألحق بالناس ما ألحق من جور وهضم.
فلما كانت مانيا في كرهها للمستعمر الغاصب، اجتمع بعض تلاميذ والدها وألَّفوا جمعية سرية تستهدف قلب نظام الحكم وطرد المعتدين من وطنهم. كانوا يجتمعون كل ليلة ليدرسوا اللغة البولونية وليدرسوها لجماعات من الطلاب، فانتظمت مانيا في إحداها، وتمادت فكتبت في أحد الأيام نشرةً ثورية شديدة اللهجة.
ونمت أخبار الشبان الثائرين إلى البوليس الروسي فأسرِّ أمراً . في ليلةٍ من ليالي الشتاء تسلَّل أفراد منه للقبض على هؤلاء الثوَّار ومن بينهم مانيا .
ماذا حدث يا تُرى؟ قبض بالفعل على بعضهم، ونجت ماري من الشرك، ولكنها اضطرت أن تغادر فرسوفيا لكي لا تشهد على زملائها عند المحاكمة .
الجوع … كافر !
ها هي الآن في باريس (شكل رقم 233)، الإسم: ماري سكلودوفسكا، العمل : طالبة بكلية العلوم، السن : ثلاثة وعشرون عاماً، الشعر : أشقر رمادي، الشخصية : صموته. الكفاءة : نادرة – كانت هذه من أهم المعلومات عنها في ذلك الوقت من واقع بطاقتها الشخصية .
واستمرت سنواتٍ أربعاً وهي تعيش معيشة الراهب المتنسك. وقد رفضت أن تكون عبئاً على أختها ، ومن ثم سكنت بمفردها في حجرة فوق السطوح في منزل في الحي اللاتيني.
وكانت الحجرة في غاية الوضاعة، فلم يعرف الماء ولا التدفئة لها طريقاً، وكذلك الضوء، اللهم إلا من شعاع يتيم يأتيها متسلّلاً من كوَّة صغيرة في سقفها المائل.
وعاشت في السجن، أقصد في الحجرة، على غذاء فقير يتكون في العادة من كسرة من الخبز وقطعة من الشيكولاتة، ولم تكن تضاف إليه بيضة أو إصبع موز واحد إلا في المناسبات! .
ولكي تتمكن من تسديد نفقات التعليم اضطرت أن تغسل الزجاجات وتُعني بنظافة الموقد في معمل البحث بكلية العلوم .
وكان ما لا بد منه بد: الإغماء . وقد أسعفها زوج أختها الطبيب وعرف سبب الإغماء – وماذا يكون غير جوع وإجهاد. فقد كان كل ما أكلته خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية لا يعدو قبضةً من فجل ونصف رطل كريز!.
وقد أخذها، برغم مقاومتها، إلى منزله حيث اعتنت برونيا بإطعامها وجعلتها تستريح بضعة أيَام رجعت بعدها إلى كتبها وجوعها برغم كل الاحتجاجات من قِبَل اختها وزوجها .
ولكن على الرغم من كل هذه المعاناة، فقد كانت ماري ذات عقل متأهِّبٍ وخيالٍ متوثِّبٍ ومهارةٍ فائقة. وكان أساتذتها يبتهجون بما يلاحظونه من حماسها الدافق ويشجعونها دوماً على القيام بمزيد من الأبحاث.
وكان من بين تشجيعهم لها ألاّ تُجري بحوثها في ميدان واحد فحسب وإنما في ميدانين. ومن ثم عقدت العزم على الحصول على درجة "ماجستير" مزدوجة في علمي الطبيعة والرياضيات.
ونجحت فيما عزمت عليه. فاجتازت امتحانها الأول لدرجة الماجستير في الطبيعة في عام 1893، ثم اجتازت امتحانها الثاني لدرجة ماجستير في الرياضيات في عام 1894. ويُبيِّن شكل رقم (234) ماري وهي تتسلَّم إحدى درجاتها الجامعية .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]