نبذة عن حياة العالم “الطبري”
2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العالم الطبري شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
هذا العالِمُ الجَليلُ هو مُحَمَّدُ بنُ جريرِ بنِ يزيدَ الطَّبَرِيُّ؛ وُلِدَ بِآملَ في طَبَرِيَّةَ مِنْ أَقاليمِ إيران.
وكانَ أبوهُ رُجُلاً ثَرِيًّا فاضِلاً، ومُهْتَمًّا بِتَحْصيلِ العُلومِ. لِذا حَرَصَ علَى تَعْليمِ ابْنه كُلَّ الحِرْصِ خَاصَّةً عِنْدَما وجدَ لَدَيْهِ رَغْبَةً في التَّعَلُّمِ ومُجالَسَةِ العُلَماءِ، وحَثَّهُ علَى الرِّحْلَةِ لِطَلَبِ العِلْمِ رغمَ صِغَرِ سِنِّهِ. ويقولُ الطَّبَرِيُّ في ذَلِكَ: «حَرَص أَبي علَى مَعونَتي في طَلَبِ العِلْمِ وأنا حِينَئِذٍ صَبِيٌّ صَغيرٌ».
بَدَأَ الطَّبَرِيُّ رِحْلَتَه في سبيلِ طَلَبِ العِلْمِ وهُوَ صَبِيٌّ لمْ يَتَجَاوَزْ الثَّانيةَ عَشرَةَ مِنْ عُمْرِه. وقَدْ زَوَّدَهُ أَبوهُ بالمالِ الذي يعينُه علَى مُهِمَّتِهِ، ويُغْنيهِ عَنْ العَمَلِ لِكَسْبِ عَيْشِه.
وهذا قد جَعَلَهُ يَتَفَرَّغُ تَمامًا من أَجْلِ الهَدَفِ الّذي أَبْعَدَهُ عَنْ بَلَدِه، وهُوَ طَلَبُ العِلْمِ. وطافَ الطَّبَرِيُّ من أَجلِ ذَلِكَ بكثيرٍ منَ البِلادِ، وأَمْضَى شَطْرًا كبيرًا من حياتِهِ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَرجاءِ الدَّوْلَةِ الإسْلامِيَّةِ للتَّزَوُّدِ بالعُلومِ والمَعارِفِ المُخْتَلِفَةِ، ولَمْ يَتَزَوَّجْ أَبَدًا، حَيْثُ كانَ شُغْلُهُ الشَّاغِلُ هو السَّعْيَ وراءَ المَعْرِفَةِ مُنْذُ صِباه إلَى أَنْ ماتَ وهُوَ في السَّادِسَةِ والثَّمانينَ مِنْ عُمْرِهِ.
دَرَسَ الطَّبَرِيُّ عِلْمَ الحَديثِ الشَّريفِ في فَارِسَ وبَغْدادَ والبَصْرَةِ وأَواسِطِ الكوفَةِ، واطَّلَعَ علَى فِقْهِ الإمامِ الشَّافِعِيِّ في بَغْدادَ، ودَرَسَ فيها كذلِكَ عِلْمَ القِراءاتِ علَى أَيْدِي أَشْهَرِ قُرَّائِها وهُوَ عَلِيٌّ التَّغْلِبِيُّ.
ورَحَلَ إلَى الشَّامِ للغَرَضِ نفسِهِ، فأقامَ في بَيْروتَ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ خَتَمَ فيها القُرْآنَ، وأَكْمَلَ دِراسَتَهُ للفِقْهِ الشَّافِعِيِّ علَى أَيْدي عُلَمائِها المُتَخَصِّصينَ فيهِ.
ثُمَّ عادَ الطَّبَرِيُّ إلَى طَبَرِسْتانَ بَعْدَ طولِ تَنَقُّلٍ وارْتِحالٍ، ولَكِنْ لَمْ تَطُلْ فَتْرَةُ إقامَتِهِ فيها، إِذْ رَحَلَ مَرَّةً أُخْرَى إلَى بَغْدادَ لِيَسْتَقِرَّ فيها بِشَكْلٍ نِهائِيٍّ وابْتَنَى لذلِكَ دارًا في إحْدَى ضَواحيها، وانْقَطَع فيها للدَّرْسِ والتَّأْليفِ واعْتَزَلَ دونَهُما أَيَّ شَيءٍ.
لِذَا رَفَضَ عِدَّةَ مَناصِبَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنْها القَضاءُ وقَضاءُ المَظالِمِ، وقَضَى بَقِيَّةَ حياتِهِ بَيْنَ العِبادَةِ والعِلْمِ والتَّدْريسِ، وتَأْليفِ الكُتُبِ وتَصْنِيفِها.
عَلَى أَيَّةِ حالٍ، أَصْبَحَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ تَنَقُّلِهِ وارْتِحالِهِ واسِعَ الاطِّلاعِ ومُلِمًّا بِعُلومٍ كثيرةٍ، منها التَّفْسيرُ والتَّاريخُ والحَديثُ والفِقْهُ وغَيْرُها، ودَلَّتْ مُؤَلَّفاتُه فِيها علَى سَعَةِ مَعارِفِهِ وغَزارَةِ عِلْمِهِ.
وهذا قد مَكَّنَهُ منْ أَنْ يَكْتُبَ في مَجالاتٍ عديدةٍ منَ العُلومِ، إلاَّ أَنَّ أَهَمَّ ما كَتَبَهُ كانَ في تَفْسيرِ القُرْآنِ الكَريمِ والتَّاريخِ.
وكانَ تَفسيرُهُ «جامِعُ البَيَانِ في تَأْويلِ القُرْآنِ» أَفْضَلَ التَّفاسيرِ علَى الإطْلاقِ وأَعْظَمَها، حيثُ شَرَحَ فيهِ الحَديثَ ونُزولَ القُرآنِ، واللُّغَةَ الّتي نَزَلَ بِها، والقِراءاتِ المُخْتَلِفَةِ لَهُ.
ودافَعَ الطَّبَرِيُّ فيهِ عَن الكَلِماتِ الّتي وَرَدَتْ في القُرْآنِ وقيلَ إنَّها أَعْجَمِيَّةٌ، وأَثْبَتَ أَنَّ أَصْلَها كانَ عَرَبِيًّا ولَيْس أَعْجَمِيًّا كما كانَ يُرَوِّجُ لَهُ بعضُ المُسلمينَ مِنَ المُنْحَدِرينَ مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ.
أمَّا كِتابُهُ في التَّاريخِ المُسَمَّى «تاريخَ الأُمَمِ والمُلوكِ»، ويُعْرَف بتاريخِ الطَّبَرِيِّ، فَيُعَدُّ أَوْفَى عَمَلٍ تاريخِيٍّ بينَ المصادِرِ التَّاريخِيَّةِ العَرَبِيَّةِ. وهو تاريخٌ عامٌّ يَبْدَأُ بالخَليقَةِ، ويَنْتَهِي إلَى سنةِ 302هـ: 914م.
ويَقَعُ كتابُه هذا في 22 جزءًا، وقَدْ أَشْرَف علَى طَبْعِهِ المُسْتَشْـرِقُ «دي جويه» في لَنْدَنَ سَنَةَ 1310هـ: 1892م. كذلِكَ طُبِعَ في مِصْرَ سنةَ 1324هـ: 1906م في 13 مُجَلَّدًا، وطُبِعَ مَرَّةً أُخْرَى أَشْرَفَ علَى تَحْقيقِها مُحَمَّدٌ أبو الفَضل إبراهيمُ سنةَ 1378هـ: 1967م.
وعَدَّهُ بَعْضُ المُؤَرِّخينَ، مِثْلُ المُؤَرِّخِ العَالَمِيِّ «ج. داهموش»، مِنْ أَفْضَلِ المُصَنَّفاتِ في الكتابَةِ التَّاريخِيَّةِ لِتَمَيُّزِه عنْ غَيْرِه بالمَنْهَجِ الحَوْلِيِّ، أيْ كتابَةِ التَّاريخِ وَفْقَ أَحداثِ السِّنينِ، وبِتَفْسيرِه للحوادِثِ التاريخِيَّةِ.
وقد اعْتَمَدَ الطَّبَرِيُّ في كتابَتِهِ للتَّاريخِ علَى الرُّواةِ الذين شاهَدوا الحَدَثَ، أو نَقَلوا عَمَّنْ شاهَدوه. وقد حَاكاه في طريقَتِهِ في الكِتابَةِ واتِّباعِ أُسْلوبِهِ بَعْضُ المُؤَرِّخينَ مثلُ، مِسْكَوَيْه، وابنِ الأَثيرِ وغيرهِما.
وكانَ ابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ منْ أَعْظَمِ المُؤَرِّخينَ والمُفَسِّرينَ، وكانَ حُجَّةً في أَخْبارِ العَرَبِ.
ويكفيهِ فَخْرًا وَصْفُ أَحَدِ الكُتّابِ لَه بِقَوْلِه: «إنَّه كانَ كالقارئِ الّذي لا يَعْرِفُ إلاَّ القُرآنَ، وكالمُتَحَدِّثِ الّذي لا يَعْرِفُ إلاَّ الحديثَ، وكالفَقيهِ الّذي لا يَعْرِفُ إلاَّ الفِقْهَ، وكالنَّحَوِيِّ الّذي لا يَعْرِفُ إلاَّ النَّحْوَ؛ وكانَ عالِمًا بالعِباداتِ، جامِعًا للعُلومِ، وإذا جَمَعَتْ بينَ كُتُبِهِ وكُتُبِ غَيْرِه كانَتْ كُتُبُه الأَفْضَلَ».
هذا وقَدْ امتازَ الطَّبَرِيُّ بالفِطْنَةِ ورَجَاحَةِ العَقْلِ وفَصاحَةِ اللِّسانِ وعِفَّةِ النَّفْسِ، وقَوْلِ الحَقِّ، حَيْثُ كانَ لا تَأْخُذُهُ فيهِ لَوْمَةُ لائِمِ… نَفَعَ اللهُ النَّاسَ بِعِلْمِه، وكَتَبَهُ له في ميزانِ حَسناتِه.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]