شخصيّات

نبذة عن حياة العالم “الطُّوسِيّ”

2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العالم الطوسي شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة

هذا العالِمُ الجليلُ هو أبو جَعْفر نصيرُ الدِّينِ محمدُ بنُ محمدِ بنِ الحَسَنِ الطُّوسِيُّ.

وُلد في خُراسانَ سنةَ 597هـ: 1201م. وكانَ مَوْلِدُهُ في بَلْدَةِ «طوسَ»، ولِهذا اشتهر بلَقَبِ « الطُّوسِيّ». ودرسَ العِلْمَ على يد كبارِ العلماءِ في عَصْرِهِ أَمثالِ: كمالِ الدِّين بنِ يونُسَ المَوْصِلِيِّ، الذي نال شُهْرَةً ذائِعَةً في الرِّياضيَّاتِ، والمَنْطِقِ، والطَّبيعيَّاتِ، والطِّبِّ، والعلومِ الشَّرْعِيَّةِ.

وعاشَ حياتَهُ مُتَنَقِّلاً بين «قَهْستانَ» و«بغدادَ» وتُوُفِّيَ عامَ 672هـ: 1274م في بغدادَ، حيثُ دُفِنَ في «مَشْهَدِ الكاظمِ».

 

ويُقالُ: إِنَّ « الطُّوسِيَّ» نَظَمَ قصيدةً مدحَ فيها «المُعْتَصِمَ»، (انظر: الدولة العباسية)، وإنَّ أحدَ الوزراءِ رَأَى فيها ما يُنافي مَصْلَحَتَهُ الخاصَّةَ، فأرسلَ إلى حاكِمِ «قهستانَ» يخبرهُ بضـرورةِ تَرَصُّدِ قائِلِها.

وهَكَذَا كانَ، فإنَّه لَمْ يَمْض زَمَنٌ إلاَّ والطُّوسِيُّ في «قَلْعَةِ المَوْتِ»، وبَقِيَ بها إلى مجيءِ «هولاكُو» المَغوليِّ في مُنْتَصَفِ القرنِ السَّابِعِ الهجريِّ.

وفي القَلْعَةِ أَنْجَزَ الطُّوسِيُّ أكثرَ تآلِيفِهِ في الرِّياضيَّاتِ والفَلَكِ، تلك التآلِيفُ الّتي خلَّدَتْهُ وجعلَتْهُ بينَ العُلماءِ عَلَمًا.

 

وبَعْدَ أنْ اسْتولَى هولاكو علَى السُّلْطَةِ في بغدادَ أَطْلَقَ سراحَ الطُّوسِيَّ وقرَّبَه إلَيْه وجعلَهُ مُسْتشارًا في الأَحْداثِ، وكاتِبًا لمُراسَلاتِهِ.

وأَنفَقَ الطُّوسِيُّ من الأموالِ الّتي كانَتْ تحتَ تَصَـرُّفِهِ في شراءِ الكُتُبِ النَّادِرَةِ، وبِناءِ مكتبةٍ ضخمةٍ ضَمَّتْ أكثرَ من أَرْبَعمِئَةِ أَلفِ مُجَلَّدٍ من أَثْمَنِ الكُتُبِ وأَنْفسِها.

لذلك أفادَ الطُّوسِيُّ من صُحبتِهِ لهولاكُو في إنْشاءِ «مَرصَدِ مَراغَةَ» الّذي لا تزالُ قواعِدُهُ قائِمَةً حتَّى يومِنا هذا.

 

وقد اشْتَهَرَ هذا المرصدُ – الّذي بُدِئَ في تَأسيسِه سنة 657هـ: 1259م، وتَمَّ في سنةِ 661هـ: 1263م – بآلاتِهِ وكفاءَتِهِ العالِيَةِ في أَعْمالِ الرَّصْدِ والقِياساتِ الفَلَكِيَّةِ.

وكانَ ذلكَ المرصدُ يضمُّ مجموعةً متَميِّزَةً من علماءِ الفَلَكِ المعروفينَ آنَذاك، أمثالِ فخر الدِّينِ المَرَاغِيِّ (من المَوْصِل)، ومؤَيَّدِ الدِّينِ العرضِيِّ (من دِمَشْقَ)، ومُحيي الدِّينِ المَغْرِبِيِّ (من تُونِسَ)، وقُطبِ الدِّينِ الشِّيرازِيِّ، وغيرِهم.

واستعانَ الطُّوسِيُّ أيضًا بجماعةٍ من الحُكَماءِ من الفلاسِفَةِ والمُتَكَلِّمينَ والفُقَهاءِ والمُتَحَدِّثينَ والأَطبَّاءِ، وغيرِهم من الفُضَلاءِ.

 

فكانوا بِمَثابَةِ فريقٍ عِلْمِيِّ مُتكاملِ. وفي هذا المرصَدِ ألَّفَ الطُّوسِيُّ جداوِلَه الرِّياضيَّةَ والفلكيَّةَ «الأزياج» الّتي استعانَ بها الأوروبيُّون كثيرًا، فيما بعدُ.

وكانَ الطُّوسِيُّ موسوعةً عِلْمِيَّةً متكامِلَةً في سَعَةِ اطِّلاعِهِ وغَزارَةِ عطائِهِ: أجادَ اللاَّتينِيَّةَ والفارِسِيَّةَ والتُّرْكِيَّةَ، إلى جانِبِ العَرَبِيَّةِ، وهذا مكَّنَهُ من معارِفَ شَتَّى، لكنَّه أَوْلَى عنايةً خاصَّةً في اهتماماتِهِ العِلْمِيَّةِ لمجالاتِ الطَّبيعِيَّاتِ والفَلَكِ والرِّياضيَّاتِ.

وتبلغُ جُمْلَةُ مُصَنَّفاتِهِ في هذه العلومِ نحوَ 145 مصنَّفًا. وقد أَثْنَى على مُعْظَمِها عددٌ من مُؤرِّخِي الشَّـرْقِ والغَرْبِ، فاستَحَقَّ أن يُلَقَّبَ «العلاّمَةَ المُحَقِّقَ».

 

ومِنَ المآثِرِ العِلْمِيَّةِ لِنصيرِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ: كتابُ «تحريرِ المَناظِرِ» في البَصَـرِيَّاتِ، وهو شَرْحٌ وتعليقٌ علَى كتابِ ابنِ الهَيْثم الشَّهيرِ «المناظِرِ»، أَدَّى بهِ دَوْرًا مُهِمًّا في بَعْثِ الاهْتِمامِ من جديدٍ بِهذا العِلْمِ.

ومنها أيضًا كتابُ «مباحِث في انْعكاس الشُّعاعاتِ والانْعِطافاتِ»، وفيه أتَى علَى بُرْهانِ تساوِي زاوِيَتَيْ السُّقوطِ والانْعكاسِ، وقد ترجمه إلى الأَلمانِيَّةِ العالِمُ «وايْدْمَان».

وفي مجالِ الميكانيكا وقوانِينِ الحَرَكَةِ، تَضَمَّنَتْ مُؤَلَّفاتُ الطُّوسِيِّ معلوماتٍ عن عناصِرِ الحَرَكَةِ وأَنْواعِها، وفَطِنَ إلَى ظاهِرَةِ السُّقوطِ الحُرِّ للأَجْسامِ تحتَ تأثيرِ الجاذِبِيَّةِ الأَرْضِيَّةِ الّتي أَطْلَقَ علَيْها مُصْطَلَحَ «المَيْلِ الطّبيعِيِّ».

 

ومَيَّزَ بينها وبَيْنَ الحَرَكَةِ القَسْرِيَّةِ لجسمٍ ما عند تَسْليطِ قُوَّةِ قَاهِرَةٍ علَيْه، وقَدَّمَ وَصْفًا عِلْمِيًّا دقيقًا لِحَرَكَةِ جسمٍ قُذِفَ بِقُوَّةٍ إلى أَعْلَى في عَكْسِ اتِّجاه «المَيْلِ الطَّبيعِيِّ».

ثمَّ عادَ وسَقط إلَى الأَرْضِ بَعْدَ إفْناءِ ما أَسْماه «بالمَوانِعِ الخَارِجِيَّةِ» الّتي عَرَّفها بِقَوْلِه: «… أمَّا الّذي من خارِجِ ذاتِهِ (أيْ الجسم) فهو كاختلافِ قَوامِ ما يَتَحَرَّكُ فيهِ، كالهواءِ والماءِ، بالرِّقَّةِ والغِلَظِ»، مُشيرًا بذلِكَ إلَى تأثيرِ مُقاوَمَةِ الوَسَطِ الّذي يَتَحرَّكُ فيه الجِسْمُ.

وفي مجالِ الرِّياضِيَّاتِ كَتَبَ نصيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ في الهَنْدَسَةِ والجبرِ وحِسابِ المُثَلَّثَاتِ، وتمكَّن من تصنيفِ كتابٍ فريدٍ في بابِهِ أَسْماه كتاب «شكْلِ القِطاعِ» في حِسابِ المُثَلَّثَاتِ المُسْتَوِيَةِ والكُرَوِيَّةِ.

 

وهو أَوَّلُ كتابٍ يَفْصِلُ عِلْمَ الحِسابِ عن عِلْمِ الفَلَكِ، وتُطوَّرُ فيه نظرياتُ النِّسَبِ المُثَلَّثِيَّةِ إلَى ما هي عَلَيْه الآن.

وقَدْ ترجم الغَرْبِيُّونَ هذا الكتابَ إلَى  اللاَّتينِيَّةِ والانجليزِيَّةِ والفَرَنْسِيَّةِ، وبقيَ قرونًا عديدةً مَصْدَرًا لعلماءِ أوروبا ومَرْجِعًا هامًّا يَسْتَقونَ منه معلوماتِهم.

وفي مجالِ الفَلَكِ تميَّزَ الطُّوسِيُّ بِعُمْقِ النَّظَرِ ونَفاذِ البَصيرَةِ، واتَّبَعَ المَنْهَجَ العِلْمِيَّ التجريبِيَّ في بحوثِهِ ودِراساتِهِ، اسْتِنادًا إلَى رُؤْيَةٍ نَقْدِيَّةٍ ثاقِبَةٍ.

 

فقد بذلَ جُهدًا كبيرًا في دراسَةِ أعمالِ السّابِقينَ عَلَيْه، وفَنَّدَ أعمالَ بَطْلَيموسَ في كتابِهِ «تحريرِ المَجَسْطِيِّ»، مُوَضِّحًا عيوبَ الفَلَكِ اليونانيِّ، وحاوَلَ إصْلاحَهُ علَى الأَقل فيما يَتَعَلَّقَ بحَركَةِ الكواكِبِ. واقْتَرَحَ نظامًا جديدًا للكَوْنِ يغايرُ نظامَ مَرْكَزِيَّةِ الأَرْضِ الّذي وَضَعَهُ بَطْليموسُ.

كانَ الطُّوسِيُّ يَعْتَقِدُ أنَّ الشَّمْسَ هي مَرْكَزُ المجموعَةِ الشَّمْسِيَّةِ. ويَرَى مُؤَرِّخُ العلومِ الحُجَّةُ، «جورج سَارْتون» في كتابه «مَدْخلٌ إلَى تاريخِ العُلومِ» أنَّ انْتقادَ الطُّوسِيِّ هذا لبطلَيموسَ كانَ خُطوَةً تهميديَّةً لابُدَّ منها للإصْلاحاتِ الكُبْرَى التي قامَ بها كوبِرْنيكوس في العَـصْر الحديثِ.

وقَدْ لاحَظَ بعضُ المُؤَرِّخينَ والمُحَقِّقينَ مؤخَّرًا أنَّ هناكَ تشابُهًا ملحوظًا بين الرُّسومِ التوضيحيَّةِ الّتي ضَمَّنَها نصيرُ الدِّين الطُّوسِيُّ كتابَهُ «التَّذْكِرَةُ النَّصيرِيَّةُ في الهَيْئَةِ»، وبَيْنَ الرُّسومِ الّتي أَوْرَدَها كوبرنيكوس لنَموذَجِ حَرَكَةِ الكَواكِبِ في كتابِه «مداراتُ الأَجرامِ السَّماوِيَّةِ».

 

وهذا الأَمْرُ يدعو إلى التَّساؤُلِ مَتَى وأَيْنَ اطَّلَعَ كوبرنيكوسُ على «تَذْكِرَةِ» الطُّوسِيِّ، أو على مخطوطَةٍ عربِيَّةٍ تحتوِي على «الهَيْئة النَّصيرِيَّةِ لِحَرَكَةِ الكواكِبِ».

وتَجْدُرُ الإشارَةُ إلَى مُؤَلَّفاتٍ أُخْرَى تَعْكِسُ الطّابَعَ المَوْسوعِيّ والإيمانِيَّ لنصيرِ الدينِ الطُّوسِيِّ، ومنها «كتابُ الموسِيقَى»، «إثباتُ العَقْل الفَعَّالِ»، «كتابُ الجواهِرِ والفَرائِضِ علَى مَذْهب أَهْل البَيْتِ»، «شَرحُ مسألَةِ العِلْم ورسالَةِ الإمامَةِ»، «بقاءُ النَّفْس بعدَ بَوارِ البَدَنِ»، «رسالةٌ في ثلاثينَ فَصْلاً في مَعْرِفَةِ التَّقْويم»، إضافةً إلى كُتُبٍ أُخْرَى بالعَرَبِيَّةِ والفارِسِيَّةِ.

ومن هذه جميعِها يُسْتَدَلُّ علَى أنَّ الطُّوسِيَّ كانَ مُنْصرِفًا إلَى العِلْمِ، ولولا ذلِكَ ما اسْتَطَاعَ أنْ يُتَرْجِمَ بَعْضَ كُتُبِ اليونانِ ويَشْـرَحَها، وأن يَضَعَ المُؤَلِّفاتِ الكثيرةَ والرسائِلَ العديدة في شَتَّى فروعِ المَعْرِفَةِ الّتي تَدُلُّ علَى خِصْبِ قَريحَتِهِ وقُوَّةِ عَقْلِه، وكانَ لها أثرٌ كبيرٌ في تَقَدُّمِ العِلْمِ والفِكْرِ.

وهذا ما جَعَلَ مُؤَرِّخَ العِلْمِ المعاصر «جورج سارتون» يقول عنه: «إنَّه من أَعظَمِ عُلماءِ الإسلامِ ومِنْ أكبر رِياضِيِّيهِم».

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى