أصناف الرأسمالية في تنظيم مجتمع السوق
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
من خلال جمع جوانب الاقتصاد السياسي والتقاليد المؤسساتية الجديدة على حد سواء، طوّر بيتر هول (Peter Hall) ودايفد سوسكيس (2001) (David Soskice) منهج "مجموعة متنوعة من الرأسمالية" يرتكز على نموذجين أساسيين: اقتصاد السوق الليبرالية/ الحرة واقتصاد السوق المنسقة. ويقرّ هذا النهج بأن المجتمعات القائمة على اقتصاد السوق ودولها تختلف باختلاف الأمم.
على هذا الرأي، يسترشد النشاط الاقتصادي في اقتصاد السوق الليبرالية إما عن طريق الأسواق من خلال العقود أو من قبل الشركات التي تسيطر على الإنتاج الداخلي. في اقتصاد السوق المنسقة، تلعب الدولة دوراً أكثر أهمية إما في توجيه النشاط الاقتصادي بنفسها أو تعزيز التنسيق بين الشركات أو القطاعات الاقتصادية.
وإذا ألقينا نظرة ما وراء أنظمة "دولة الرفاه" في الغرب، للاحظنا أن أصناف أدب الرأسمالية يشير إلى نماذج أخرى من العلاقات بين الدولة والاقتصاد التي ظهرت في بلدان مختلفة. والبارز في النصف الثاني من القرن العشرين أن معدل التصنيع بدأ بالارتفاع في بعض الاقتصادات الآسيوية وساهم الدور الواضح لدعم الدولة في هذه العملية في ظهور مفهوم "الدولة التنموية" (Developmental State).
نموذج التنمية في شرق آسيا
يعني مصطلح "الدولة التنموية" (Developmental State) الحالة التي تكون فيها الدولة في طور ملاحقة السياسات الصناعية في تعزيز التنمية الاقتصادية. كان هذا هو الحال مع اليابان في فترة ما بعد طفرة الحرب العالمية الثانية ولكن أيضاً في "نمور" شرق آسيا في وقت لاحق أو الاقتصادات "المعجزة" مثل هونغ كونغ، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتايوان. تحوّلت هذه الدول تدريجياً إلى اقتصادات ذات دخل مرتفع، محفاظةً على التصنيع السريع ومعدلات عالية من النمو الاقتصادي منذ السبعينات عندما عانت الاقتصادات المتقدمة من الركود بشكل عام. في الثمانينات، أتَت من بعدها ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا على طريق التنمية، وشهدت أيضاً نمواً اقتصادياً سريعاً.
في جميع هذه الحالات، اتّخذت الحكومات المسؤولية الأساسية لتعزيز النمو الاقتصادي (Stiglitz 1996, p. 151). قامت كوريا الجنوبية، على غرار وزارة اليابان للتجارة الدولية والصناعة (راجع الفصل 6)، برعاية قطاعات محدّدة وساهمت في نمو شركات معينة، وحوّلتها إلى تكتلات تجارية كبرى(Chaebol) قادت النمو الاقتصادي 2002, p. 339) (Park. ومع ذلك، في حالة "المعجزة" التايوانية، لعبت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تنتج سلعاً للتصدير دوراً مهماً في النمو والتنمية، إلى جانب شركات القطاع الخاص التي تدعمها مصارف الدولة وترتكز على التصنيع المحلي من خلال الإنتاج (Baek 2005, p. 494) .
في حين أن ثمة تنوعاً كبيراً في السياسات المستخدمة لتشجيع التنمية والنمو في سياقات آسيوية مختلفة، تمثل القواسم المشتركة الأساسية مركزيّة الدولة لمسار التنمية. ومع ذلك، فإن هذا الوضع ليس فريداً بالضرورة بالنسبة لآسيا. يجادل المؤسساتيون أنه ثمة أمر يميّز التنمية في جميع المجتمعات الصناعية القائمة على اقتصاد السوق بما في ذلك "التجارة الحرة"(Free Trade) في بريطانيا حيث، على الرغم من أيديولوجية "عدم التدخّل"، فإن الصناعيين الأوائل كانوا يتمتعون أيضاً بحماية من الدولة في المعاملات التجارة (راجع (Polanyi 2001 [1944], pp.141-142)).
على الرغم من مركزية الدولة لتاريخ وتطور المجتمعات القائمة على اقتصاد السوق، فقد شهدت العقود الأخيرة ظهور الجهود الرامية إلى "إعادة الدولة إلى الوراء". أدّت هذه الجهود إلى الكثير من التغييرات المؤسسية، والتي استدعت بنجاح أفكار القرن التاسع عشر "عدم التدّخل" لإحداث التحول في شكل الدولة ووظيفتها. نشأت هذه الحركة ذات "الأسواق الصغيرة البعيدة عن الدولة" مع ولادة دولة الرفاه نفسها.
كما اعتمد عدد كبير من البلدان على أشكال الكينزية من الإدارة الاقتصادية القائمة على الدولة رداً على الكساد العظيم في الثلاثينات، بدأ عدد قليل من المثقفين بنقد الدولة بشكل قاسٍ. وفي الأربعينات، أعلن كل من الاقتصاديين فريدريتش فون هايك (Friedrich Von Hayek) وميلتون فريدمان (Milton Friedman) أن نمو الدولة يهدّد الحرية الفردية والكفاءة الاقتصادية على حد سواء. ومع التشديد على أفكار حول "عدم التدخل" التي وضعها خبراء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وجّه هؤلاء المنظرون مثل هذه الأفكار في اتجاهات جديدة وخلقوا ما يسمى الآن "الليبرالية الجديدة" (Neoliberalism) (على الرغم من أنهم نادراً ما استخدموا هذا المصطلح). (راجع المربع 4.5)
المربع 4.5 الليبرالية الجديدة وحرب الأفكار
في عام 1947، اجتمعت مجموعة صغيرة من المثقفين في مونت بيرلين، سويسرا، لمناقشة سبل مكافحة ما اعتبروه تهديداً متزايداً للحرية التي تطرحها "الجماعية" (Collectivism). تألفت المجموعة من الاقتصاديين والفلاسفة المعروفين عالمياً بما في ذلك ميلتون فريدمان، فريدريتش فون هايك، وكارل بوبر. وتمّت تسميته لاحقاً مجتمع مونت بيرلين ، وأصبح نواة حركة الليبرالية الجديدة المتنامية.
وفي الاجتماع، قال هايك لزملائه "يجب علينا تدريب جيش من المقاتلين من أجل الحرية" (Hayek in Cockett 1995). ومنذ ذلك الحين، دعم مجتمع مونت بيرلين (Mont Pelerin) إنشاء مختلف "مؤسسات الفكر والرأي" في جميع أنحاء العالم لتعزيز الأفكار الليبرالية الجديدة. وتشمل معهد الشؤون الاقتصادية في إنجلترا، ومركز الدراسات المستقلة في أستراليا ومؤسسة التراث في الولايات المتحدة.
في خلال هذا الوقت، تحرّك الليبراليون الجدد من الهوامش إلى التيار الرئيسي للنقاشات حول السياسة والمجتمع والاقتصاد. أصبحت بعض الشخصيات الفكرية الرئيسية في مجتمع مونت بيرلين من بين أهم المستشارين والضيوف والقادة السياسيين؛ وكان أبرزهم رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، ورئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان، وكلاهما قام بتنفيذ سياسات الليبرالية الجديدة.
في التسعينات، حلت الليبرالية الجديدة محلّ الكينزية باعتبارها العقيدة المهيمنة في الإدارة الاقتصادية للدولة. وكان يمكن لمجتمع مونت بيرلين أن يدّعي بعدل أنه يلعب دوراً هاماً في هذا التغيير.
عصر الليبرالية الجديدة
تحدث الليبرالية الجديدة تأثيراً مهماً وجوهرياً على سياسات الحكومة اليوم. اكتسبت أفكار الحركة أولاً الاجتذاب في السبعينات عندما أشارت الأزمات الاقتصادية إلى نهاية العصر الذهبي. وهنا بدا أن النظرية الكينزية توفّر حلولاً قليلةً للمشاكل الاقتصادية في ذلك الوقت. فكانت الاقتصادات الرأسمالية تعاني من نمو منخفض ومعدلات مرتفعة للبطالة وتضخم متزايد، والتي أصبحت معاً معروفة باسم "الركود التضخمي"(Stagflation) . حينئذٍ، تحوّل عدد كبير من الحكومات التي تبحث عن بدائل للسياسة إلى استخدام وصفات الليبراليين الجدد.
يرى الليبراليون الجدد أن المجتمع يتكوّن من الأفراد الذين يجب أن يكونوا محرّرين من الإكراه. وبالتالي يصرّحون بأن الوسيلة الأكثر فعاليّة لتنظيم الاقتصاد هي عبارة عن تشكيل نظام من الأسواق الحرة التي، نظراً لقوة المنافسة، تُرضي التفضيلات الفردية مع التمسّك بالحرية الفردية. وبما أن معاملات السوق هي "طوعيّة"، ولا يتورّط أحد طوعاً في عقد لا يناسبه، تم تنسيق الأسواق الحرة لإنتاج حصائل مفيدة للطرفين من دون الحاجة إلى تدخل خارجي أو إكراه. بهذه الطريقة، تم اعتبار الأسواق الحرة على أنها أكثر كفاءة وتحافظ على أكثر أشكال الأخلاقيّة للمنظمة الاقتصادية.
بالنسبة للليبراليين الجدد، إن نمو الدولة الذي حدث بعد الكساد العظيم قد هدد الحرية الفردية والازدهار الاقتصادي. قال فريدريتش فون هايك، وهو باحث ليبرالي جديد رائد، إن دول الرفاه الكينزية، مثل بريطانيا، والدول الاستبدادية مثل ألمانيا الفاشية وروسيا الشيوعية كانت شكلاً من أشكال الجماعية. بدلاً من خلق إطار العمل الذي يسمح للأفراد من تحقيق مصالحهم الخاصة، واصلت الدول الجماعيّة ملاحقة الأهداف المحددة سياسياً التي تنتهك حتما الحرية الفردية. وهكذا، قال هايك 1994 [1944])، إن مثل هذه الدول كانت على "الطريق إلى العبودية" (The Road To Serfdom).
لتجنّب هذه الحالة، فسّر الليبراليون الجدد أن "الحكومة الكبيرة" كان لا بد من إعادتها مرة أخرى. ودعوا إلى إسناد السلع والخدمات التي تقدّمها الدولة إلى القطاع الخاص. وضمّت عملية "الخصخصة" (Privatisation) هذه الشركات التي تملكها الدولة والتي يتم بيعها إلى القطاع الخاص لمقدمّي الخدمات لقاء الربح. وروّجوا أيضاً "رفع القيود" (Deregulation) التي من شأنها أن تزيل القيود المفروضة على قدرة الشركات على التداول داخل الاقتصاد. وأخيراً قاموا بتأييد "اقتصاد السوق" الذي أوجد أسواقاً تنافسية لتقديم الخدمات التي سبق تسليمها من قبل الحكومة.
واحد من الأجزاء المؤثرة في الليبرالية الجديدة هو نظرية "الخيار العام" (Public Choice)، التي وضعها جيمس بيوكانان (James Buchanan) وغوردون تولوك ( Gordon Tullock (1962). وذلك يحوّل الانتباه من تدخل الدولة في الاقتصاد إلى الدولة نفسها. وهنا، يتم تطبيق نموذج من المصلحة الذاتية الفردية التي ترفع فائدة القطاع الحكومي.
يقال إن الشخصيات السياسية والبيروقراطيين وجماعات الضغط التي تدعي أنها تعمل من أجل المصلحة العامة هي في الواقع تتمتّع بدوافع للمصلحة الذاتية وحسب. ومن هنا، يقال إن الشخصيات السياسية قد زادت الإنفاق الحكومي لكسب الأصوات، كما وسّع البيروقراطيون ميزانيات الإدارات لزيادة قوتهم وهيبتهم، وشدّدت جماعات الضغط على الحصول على معاملة خاصة من الحكومة. لذا فإن باحثي الاختيار العام يزعمون أن الدول لديها نزعة إلى عجز يحمل في ثناياه عوامل ينبغي معالجتها من خلال القيود الدستورية على الإنفاق الحكومي.
على مدى العقود الأربعة الماضية، نفذّت الحكومات عدداً من السياسات التي تشبه جداول أعمال واسعة نادى بها الليبراليون الجدد، على الرغم من أن مدى تأثيرهم كان جدلياً. في حين شهدت الأزمة المالية العالمية عام 2007 تجدداً للاهتمام في الأفكار الكينزية حول التنظيم المالي، فهذا لا يعني اتباع الليبرالية الجديدة كسياسة سائدة. وبعد التصريح بذلك، فلم تنجح الليبرالية الجديدة في إلغاء مؤسسات "دولة الرفاه" (تمت مناقشتها أدناه).
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]