العلوم الإنسانية والإجتماعية

أمثلة على علماء تمتعوا بالتروي والتدقيق في إصدار الأحكام

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

علماء تمتعوا بالتروي والتدقيق في إصدار الأحكام العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

سمة تحلى بها علماء كثيرون، وكانت بمثابة الجندي المجهول وراء ما حقَّقوا من إنجازات وما أحرزوا من انتصاراتٍ في ميادين الفتح العلمي. ولعل من المواقف الخاصة بها :

موقف وهلر مع استاذه برزيليوس، عندما أعطى الاستاذ تلميذه الجديد بوتقة وزجاجة وميزاناً وعهد إليه بدراسة بعض المعادن. فلما تعجَّل وهلر اطلاع أستاذه على ما وصل إليه من نتائج ، حذَّره الاستاذ من السرعة ونصحه بضرورة التريث والتمهل قبل استخلاص نتيجة أو إصدار حكم أو القطع برأي.

وداروين لم يخرج على العالم بنظريته إلا بعد أن قام بآلاف الملاحظات والمقارنات والاستنتاجات بل والاعتراضات التي جعل منها حرباً على نفسه، وقد استغرق منه كل هذا أكبر من خُمس قرنٍ من الزمان ! .

ومندلييف لم يُقدَّم جدوله الدوري إلا بعد أن ظل يقرأ لعشرين سنة كل ما كتب عن العناصر المعروفة، فضلاً عن التجارب التي أجراها ليتحقَّق بنفسه من أمورٍ معينة .

 

والتدقيق، وهو مرتبط بالتروي أو التثبت في إصدار الأحكام، كان كذلك من أهم سمات العلماء الكبار، كما كان السبب في كثير من الكشوفات. فهو السبب في :

– كشف النظائر : إذ تبين – بالتدقيق – أن هناك مركبات تحوي نفس العناصر الكيميائية وبنفس النسب، ولكنها تختلف في خواصها لاختلافٍ في ترتيب ذراتها .

– كشف الغازات الخاملة : فقد لاحظ العالم الإنجليزي وليم رامزي أن كثافة النيتروجين المحضر من أحد مركباته (NH4NO3) = 1,252 جم / لتر في م . ض . د. ، بينما هي للنيتروجين المحضر من الهواء الجوي = 1,257 جم / لتر في م . ض . د .

وعلى الرغم من صغر الفرق بين الكثافتين ( 005 جم / لتر في م . ض . د . ) ، إلا أنه استوقف نظره. وبالتدقيق تبين أن نيتروجين الهواء به نسبة ضئيلة ( لا تتجاوز 1% ) من غازات أكبر كثافة.

وقد أدّى هذا الكشف عن وجود طائفة من الغازات عديمة النشاط الكيميائي أطلق عليها "الغازات الخاملة" والتي منها الزيتون والنيون والآرجون الكربتون والهليوم والرادون .

 

– كشف إمكانية الحياة بمعزل عن الأكسجين : بينما كان باستير، الذي اعتاد دائما فحص الأشياء بدقة ، يراقب حركات بكتيريا التخمر التي تؤدي إلى انتاج حمض البيوتريك، لاحظ أنها تتوقف عن الحركة عندما تقترب من المسافة الخارجية للقطرة فخمِّن أن ذلك راجع إلى وجود الأكسجين في السائل القريب من الهواء.

وعندما فكر في مغزى هذه الملاحظة انتهى إلى أنه لم يكن هناك أكسجين حر، حيث كانت البكتيريا تتحرك بنشاط، ومن ثم توصّل إلى نتيجة مهمة وهي أن الحياة يمكن أن توجد بمعزلٍ عن الأكسجين، الأمر الذي كان يُعتقد أنه مستحيل في ذلك الوقت .

 

– كشف الدور الذي تقوم به العصارة البنكرياسية في هضم الدهون: لاحظ كلود برنار أن البول الذي أخرجته حيوانات التجارب ( الأرانب في هذا الموقف ) فوق مائدة البحث كان رائقاً وحمضياً بدلا من أن يكون عَكِراً وقلوياً، كما هي الحال عادة بالنسبة للحيوانات آكلة العشب. واستدل برنار من ذلك كله أن الحيوانات، أي الأرانب، كانت في الحالة الغذائية الخاصة بالحيوانات آكلة اللحوم بسبب حرمانها من الأكل واضطرارها إلى استهلاك أنسجتها ذاتها لتعيش.

وقد أثبت ذلك عن طريق تعاقب إطعامها وتجويعها، حيث وجد أن هذه العملية تُغيِّر من تفاعل البول كما كان قد توقَّع .

وكانت هذه الملاحظة رائعة كان يمكن أن يقنع بها أغلب الباحثين، ولكن برنار كان بحاجة إلى دليلٍ مضاد، ومن ثم غذَّى الأرانب على اللحم فأدى ذلك إلى إخراجها بولاً حمضياً كما هو متوقع. ولإكمال البحث أجرى كشفاً تشريحياً على الأرانب.

وعندما لاحظ الأمر بمزيدٍ من التدقيق وجد أن القناة البنكرياسية تفتح في الاثني عشر في مكانٍ يتفق والموضع الذي بدأت فيه الأوعية اللمفية تحوي الكيلوس (المستحلب اللبني الناتج عن هضم المواد الدهنية) الذي اكتسب لوناً أبيض نتيجة استحلاب المواد الدهنية .

وقد أدت هذه الدقة في الملاحظة من جانب برنار إلى كشف الدور المهم الذي تقوم به العصارة البنكرياسية في هضم الدهون .

 

– كشف ميكروب الجمرة : من الأمور التي كان يتلهف باستير عليها معرفة كيف يظل مرض الجمرة سائداً بشكل متوطن بحيث يعود إلى نفس الحقول بعد فترات انقطاع قد تصل إلى اثنتي عشرة سنة. وذات يوم وبينما هو سائر وسط الحقول لاحظ وجود بقع من التربة ذات لون مختلف عما حولها.

ولما استفسر من صاحب الأرض عن السبب أخبره أن الأغنام التي ماتت من الجمرة في العام السابق قد دفنت فيها. وهنا لاحظ باستير – عندما فحص الأرض بدقة – وجود عدد من نفايات ديدان الأرض فوق سطح التربة.

وهنا طرأت على ذهنه فكرة مؤداها أن هذه الديدان أثناء انتقالها المتواصل بين الأعماق والسطح تحمل إلى سطح التربة الطين الغني بالدبال الموجود حول الجثث وما يحويه من جراثيم الجمرة الكامنة.

ولما كان باستير لا يكتفي بمجر  الأفكار، بل كان يخضعها دوما للتجريب، فقد أيدت التجربة ما توقعه ، إذ عندما لقَّح أحد أرانب غينيا بمادة مستخلصة من الطين الموجود في الديدان فإنه إصيب بالجمرة .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى