العلوم الإنسانية والإجتماعية

أنظمة دولة الرفاه في تنظيم مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

ظهرت دولة الرفاه الحديثة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن برزت للمرة الأولى في  فترات الأزمات الاقتصادية والصراع في أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. فهم كارل بولانيي (2001 [1944], p. 138) هذا الأمر وفسّره بأن المجتمع يحاول حماية نفسه ضد الأخطار المتأصلة في نظام السوق الذاتيّ التنظيم. أخذت هذه "الحمايات" أشكالاً مختلفةً في بلدان مختلفة، واستمرّت في التوسع والتطور استجابةً للأحداث السياسية والاقتصادية طوال القرن العشرين.

تمثّل أنظمة الرفاه تحوّلاً إلى التوفير العام للخدمات التي تحقّقت سابقاً على أساس مخصص من قبل الجمعيات الخيرية وجمعيات المعونة المتبادلة، وخطط التأمين الخاصة، والأسرة، أو غيرها. وهنا كانت فكرة "التأمين الاجتماعي" (Social Insurance) التي نتجت من الحاجة لخفض تأثير التقلبات الاقتصادية على العمال بشكل منهجي، مقدّمةً المساعدة للتأكّد من أنهم قادرون على العيش في فترات البطالة عندما لا يحصلون على أي دخل. وهذا يعكس منطق "ﻧﺰع التسليع" (Decommodification). يتم توفير الخدمات الأساسية للمواطنين باعتبارها "حقاً" لهم، وليس على أساس قدرتهم على الدفع (Marshall 2009 [1950]). ومع ذلك، لم تخل هذه التطورات من صراع سياسي كبير.

رأى الباحثون حول دولة الرفاه التطورات السياسة التي تعكس التسويات بين مختلف الطبقات أو الفئات الاجتماعية، التي تتنوّع باختلاف البلدان. في بريطانيا والدول الاسكندنافية، على سبيل المثال، خدمت تطورات ما بعد الحرب في الرعاية مصلحة الفقراء ولكن ساعدت الطبقات المتوسطة أيضاً. ومع ذلك، فشلت الإصلاحات في أجزاء من أوروبا لأن طبقة الأثرياء، التي لم تكن مُعدّة للاستفادة، حشدت ضدّ جهود الدول في إعادة التوزيع (Baldwin 1990 ص. 290). وبالتالي، شكّل عامل مهم ساهم في تشكيل دولة الرفاه بخلق "التضامن" (Solidarity) في نشر عبء المخاطر في المجتمع على نطاق أوسع (Baldwin 1990, p. 290).

وعرض غوستا إسبينغ  – أندرسن (Gosta Esping Andersen) (1990) تحليلاً مؤثراً بشكل خاص حول أنظمة الرفاه. بينما هدف التحقيق الذي قام به بدايةً إلى شرح الاختلافات في السياسات الاجتماعية، فإن إطار عمله كان له آثار أوسع بكثير، إذ سلّط الضوء على كيفيّة ترابط السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة وعَكس نهجاً أوسع لتنظيم الاقتصاد.

عوالم الرفاه الثلاثة

تناقض عمل إسبينغ – أندرسن حول دول الرفاه مع النهُج السابقة التي ركزت في المقام الأول على حجم الدولة، كما تم قياسها بواسطة مؤشرات مثل النسبة من إجمالي الدخل الذي تم إنفاقه على السياسات الاجتماعية. وصرّح بأن هدف الإنفاق، فضلاً عن حجمه، هو مهم  أيضاً. على سبيل المثال، تعطي بعض الحكومات فوائد سخيّة لموظفي القطاع العام ذات الدخل المرتفع نسبياً، في حين أن دولاً أخرى مثل أستراليا تشدّد على الفقراء جداً أو المحتاجين.

حوّل إسبينغ  انتباهه بعيداً عن الحجم وركّز على آثار سياسة الدولة. بالنسبة إليه، كان السؤال الأكثر أهمية يدور حول دور الدولة في تسليع أو عدم تسليع الحياة الاجتماعية. وكان يعني بذلك إلى أي مدى كان الحصول على الضروريات الأساسية في الحياة يعتمد على كسب الدخل من خلال الأسواق. في هذا الاختبار، وجد ثلاث فئات واسعة من الدولة: ليبرالية ومهنية واجتماعية ديمقراطية.

إن النموذج الليبرالي لتوفير الدولة هو محدود جداً ويترافق مع الديمقراطيات الإنجليزية مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا (ولكن راجع المربّع رقم 3.5). عادةً ما تكون الفوائد منخفضة ومستندة إلى استطلاع الموارد، فلا يمكن إلا لأصحاب الدخل المنخفض الحصول عليها. وغالباً ما توصم الفوائد، وهذا يعني أن الناس لديهم تداعيات سلبية مع أولئك الذين يتلقون الفوائد.

المربع 3.5 نموذج الأجير في أستراليا

منذ أوائل القرن العشرين، وضعت أستراليا "نظاماً" فريداً من نوعه للرفاه. فقد وصف فرانسيس كاسلز في كتابه (The Working Class and Welfare, (1985)، النموذج على أنّه دولة الرفاه للـ "الأُجراء" (Wage Earners). وكان يميّز ذلك أستراليا عن غيرها من دولة الرفاه "الليبرالية" و"المتبقية". وعلى الرغم من أن أستراليا هي من بين تلك البلدان التي لديها أدنى معدّل للإنفاق الاجتماعي، بقدر نصف الدول الاسكندنافية، فسّر كاسلز أنّه من المضلّل توصيف أستراليا بأنها تتمتع بنظام "ليبرالي" (على الأقل حتى الثمانينات عندما خضع الرفاه لتغييرات كبيرة).

تاريخياً، وعلى الرغم من نفقاتها الصغيرة نسبياً للرفاه، كانت أستراليا تسجّل مستويات منخفضة نسبياً من عدم المساواة والفقر، مما أعطاها نتائج اقتصادية أكثر مساواةً مما كان متوقعاً باستخدام معيار الإنفاق الاجتماعي المباشر. وذلك لأن أستراليا قد أنشأت قاعدة مؤسساتيّة أوسع للحماية الاجتماعية مع نظام فريد من نوعه لتنظيم الأجور وجوهرها. إن التسوية الأسترالية، التي شملت أيضاً برنامج الهجرة التقييدية وحماية الصناعة القائمة على الرسوم الجمركية، نشأت من الأزمات الاقتصادية والنزاعات في الثمانينات، حيث قام من بعدها نظام العمل بتنظيم حزب سياسي وكان قادراً على استخدام الدولة لأغراض تقدميّة.

في عام 1904، أنشأت أستراليا نظاماً إلزامياً للتوفيق والتحكيم في المنازعات الصناعية، سامحةً للمحاكم بالتأثير على أجور السوق. في عام 1907، قدمت "حالة الحاصدة" (Harvester Case) معياراً لضمان أنّ يتم دفع "أجر عادل ومعقول" للعمال. وبدلاً من استخدام الضرائب والإنفاق الاجتماعي، قامت أستراليا بتعزيز المساواة من خلال تنظيم الأجور.

ابتكر النظام الأسترالي "نظام جوائز" يضمن الحد الأدنى من الأجور للعمال الذين يقومون بأعمال مماثلة. وعلماً أن البطالة كانت منخفضة عموماً، وفّر هذا النظام جوهر الرفاه الأسترالي. كما سهّلت الدولة الحصول على سكن يشغله مالكه وغيرها من فوائد دولة الرفاه الشامل الاختيارية. وفي ذروتها، كانت مستويات الأجور التي يتقاضاها 80 في المئة من العمال الأستراليين محميّة من قبل نظام التحكيم للأجور المركزية (Castles 2001).

 

غالباً ما يسبّب هذا النوع من النظام فجوة حادة بين التصوّرات حول الفقراء الذين يستحقون المساعدة وأولئلك الذين لا يستحقونها، مع قواعد صارمة تقول بقطع المدفوعات لأولئك الذين يعتبرون لا يستحقونها. غالباً ما ترتبط هذه القواعد بالمشاركة في سوق العمل وتهدف إلى إجبار الناس على العمل. ونتيجة لذلك، لا تساهم الفوائد التي تقدّمها الدولة بعدم تسليع الحياة إلا أنّها تكون بمثابة شبكة أمان لمنع الفقر الشديد.

يلعب النموذج الشركاتي دوراً أكثر شموليّة من الأنظمة الليبرالية بالنسبة للدولة. ومع ذلك، غالباً ما تعكس الفوائد حالة المهن، بحيث إن أولئك الأشخاص الذين يحتلون مكانة أعلى يحصلون على فوائد أكبر. ويقوم هذا الأمر بنزع تسليع الحياة الاجتماعية جزئياً، حيث يتم الحصول على الخدمات الأساسية ولا يكون الدخل يعتمد على السوق بشكل كامل. ولكنّه يعني أيضاً أن الدولة لا تعمل على إعادة توزيع الدخل.

هذا النهج نموذجي لعدد كبير من البلدان الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وغالباً ما يعكس دور الدولة نفوذ الكنيسة. وهذا يعني أن قواعد الرفاه تعزّز الأسرة التقليدية، تحدّ من الفوائد المتاحة للمرأة المتزوجة غير العاملة، وتشجّع التموين داخل الأسرة من الذكور المعيلة.

تم اكتشاف نموذج الديمقراطية الاجتماعية في أقل عدد من البلدان. فهنا تكون الفوائد سخيّة وعالميّة. ويرتبط هذا النظام مع الدول الاسكندنافية مثل السويد. وكان ذلك له أكبر تأثير نزع تسليعي على الأنواع الثلاثة من دول الرفاه. وذلك لأنه يحاول كسر التمييز بين الطبقات الاجتماعية على أساس قدرتها على دفع تكاليف الخدمات ذات النوعية الجيدة. بدلاً من ذلك، توفّر الدولة مجموعة واسعة من الخدمات الأساسية، بدءاً بالرعاية الصحية وصولاً إلى التعليم ورعاية الأطفال، ولكنها تقوم بذلك على الصعيد الذي يطالب به ذوو الدخول العالية. ومن ثم تمتدّ إلى الجميع.

ونتيجة لذلك، لم يتم تحديد الحصول على الخدمات الصحية والتعليم والخدمات الأخرى بنسبة قدرة الشخص على الدفع ولا تتأثر جودة الخدمة بالقدرة على "الانسحاب" إلى قطاع خاص مُموّل على نحو أفضل. تشهد الديمقراطيات الاجتماعية أيضاً البطالة السخيّة وغيرها من المدفوعات، والتزام قويّ للدولة بمساعدة العمال من الصناعات المتدهورة لإعادة التدريب وإيجاد فرص عمل جديدة في الصناعات الناشئة.

إن تصنيف دولة الرفاه التي يقدمها إسبينغ – أندرسن هو وسيلة مفيدة للتفكير في أنظمة الرفاه في  المجتمعات القائمة على اقتصاد السوق. ومع ذلك، فإنه يفتقد الكثير من التعقيدات الفردية الموجودة في سياقات ثقافية مختلفة. إلا أن استثناء دولة الرفاه في استراليا "للأجراء" يوفّر مثالاً جيداً للتنوع المؤسساتي المحتمل الذي قد يمكن أن يتوافر في بلدان مختلفة.

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى