إجراء تجارب للكشف عن التطور المعياري
2013 لمن الرأي في الحياة؟
جين ماينشين
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
أخيراً، بالاستفادة من جميع وجهات النظر الواردة أعلاه، أدت المقارنات بين الباثالوجي أو التجريبي والمعياري إلى نهج آخر "للرؤية" وتفسير التطوّر المعياري.
فحيث تتعذّر رؤية كل شيء مباشرة، كان في وسع الباحث أن يبتكر ظروفاً اختبارية للوصول إلى الأسرار المخبّأة عادة ويسأل، "ماذا يحدث لو قمت بالتلاعب بكذا وكذا…"؟ ظهر مجال علم الأجنّة التجريبي بسرعة في نهاية القرن التاسع عشر نتيجة مثل هذه الفرص.
وفي حين أن التجارب التي تقطّع البشر لم تكن ملائمة بطبيعة الحال، فقد اعتُبر أن الدراسة التجريبية للحيوانات الأخرى تقدّم معلومات مهمة تتعلّق بالتطوّر البشري الذي لا يمكن الوصول إليه بخلاف ذلك.
بدأ علم الأجنّة التجريبي بعمل وليام هس، وإدوارد فلوغر (Eduard Pflüger) ، وغوستاف بورن (Gustav Born) وآخرين ممن أرادو التصدّي للأسئلة التي لم يتمكّنوا من الإجابة عنها عن طريق المراقبة المباشرة.
وقد اكتسب اسماً وشهرة بالتأييد الحماسي لفيلهلم رو (Wilhelm Roux). وكما يحدث في الغالب، تبلور هذا المجال حول حادثة أو شخصية أو مطبوعة معيّنة. في سنة 1895، أطلق رو دورية أسماها من دون تواضع "أرشيف رو للميكانيك التطوّري للكائنات الحية" (Roux's Archiv für Entwicklungsmechanik der Organismen) وأصبحت الدورية القياسية لسنوات عدة، إلى أن أُحبط العديد من اختصاصيي الأجنّة بسبب افتتاحيات رو القاسية وبدؤوا بإصدار مطبوعات أخرى، بما فيها مجلة علم الحيوان التجريبي (Journal of Experimental Zoology) الأميركية في سنة 1903.
وقد منح وجود كلمة خاصة، الميكانيك التطوّري، في اسم الدورية الصدقية للمجال الجديد واجتذب العلماء الصغار للقيام بدراسات تجريبية وتحليلية في علم الأجنّة. ومع أن فيلهلم رو لم يكن الأول في إجراء التجارب في علم الأجنّة، فإنه قاد الطريق بالدعوة صراحة إلى برنامج أبحاث تجريبي.
توضح إحدى الحوادث التجريبية البالغة الأهمية، التي لا تزال تظهر في الكتب الدراسية والنقاشات في الصفوف الدراسية اليوم، قوة التجارب وحدودها. قام كل من رو واختصاصي أجنّة ألماني آخر متعاطف مع نهج رو، هانس دريتش (Hans Driesch) بإجراء تجربة على مرحلة الخليتين لأحد الكائنات الحية: استخدم رو الضفادع ودريتش قنافذ البحر. وطرحا السؤال التالي: ماذا يحدث لإحدى الخليتين إذا فُصلت عن الأخرى بعد الانقسام الخلوي الأول؟ استخدم رو الضفادع لأنها تتوافر بسهولة ولديها بيوض كبيرة مرئية.
لكن بيوض الضفادع لديها غشاء صلب نسبياً يمسك بالخلية معاً عبر عدد من الانقسامات الخلوية (انظر الشكل رقم 6).
وذلك أمر منطقي لأنه يمنع الخلايا المنفصلة من الابتعاد بعضها عن بعض إذا تلقّت ضربة في بركة. وقد زاد الغشاء من صعوبة فصل الخليتين بعد الانقسام الأول، لذا فعل رو أفضل ما استطاع التفكير فيه. فوخز إحدى الخليتين بإبرة حامية لقتلها ولذلك اعتقد أنه سمح للخلية الأخرى بالتطوّر على نحو مستقل. فعل ذلك ودوّن، "لحل مشاكل التمايز الذاتي – لتحديد ما إذا كانت البيضة المخصّبة قادرة على التطوّر باستقلالية هي بأكملها وأجزائها الفردية، وإلى أي حدّ إذا كان الأمر كذلك.
أو إذا كان التطوّر المعياري يمكن أن يحدث، خلافاً لذلك، من خلال التأثيرات التكوينية المباشرة للبيئة على البيضة المخصّبة فقط أو من خلال التفاعلات التمييزية لأجزاء البيضة المنفصلة بعضها عن بعض بواسطة التشطّر".
اكتشف رو أن الخلية المتبقية تتطوّر على نحو ما تفعل إذا كانت جزءاً من المضغة السوية إلى مرحلة المُعيدة على الأقل. وتكون في الواقع نصف مضغة كما شرح. عزّز ذلك اعتقاده بأن التطوّر يحدث بطريقة شبيهة بالفسيفساء، حيث تعتمد الخلايا الفردية أقداراً فردية في كامل الكائن الحي الذي تتبعه، مثلما لكل بلاطة فسيفسائية خصائصها المستقلة لكن لها دوراً محدّداً في النمط الناتج. وعنى ذلك أيضاً بالنسبة إلى رو أن أسباب التطوّر تكمن داخل الخلايا، وداخل البيضة منذ البداية – بطريقة ما – ولا تأتي من الخارج أو التأثيرات البيئية.
التطوّر والتمايز يرتبطان بالعوامل المادية الداخلية والحتمية الموروثة أكثر من ارتباطهما بالتغيّرات البيئية. وخلص إلى أن العملية السوية يمكن التنبّؤ بها، ولذلك فإن البرنامج التجريبي الذي يبيّن كيف يعمل كل جزء سيكشف عن أسباب التطوّر.
أراد دريتش أن يدقّق في عمل رو باستخدام كائن حي مختلف، فأخذ مرحلة الخليتين من قنفذ البحر وفصل الخليتين أو القُسَيمين الأروميين (blastomeres). بدا ذلك تجربة أفضل لتحقيق ما أراده رو. وكان دريتش يعرف، من دراسات سابقة أجريت على قنافذ البحر في مختبر الأبحاث الجميل على شاطئ نابولي، أن غشاء الخليتين هشّ جداً. ومن الممكن فصل الخلايا برجّ بيوض قنفذ البحر بعد الانقسامات الأولى. ففعل ذلك وراقب.
وكان يتطلّع، كما دوّن لاحقاً، إلى رؤية نصف أجنّة. توقّع الحصول على النتائج نفسها التي حصل عليها رو. لكن بدلاً من ذلك، نما كل من الخليتين ثم الأربع ليصبح شكلاً يرقياً كاملاً وإن كان أصغر قليلاً من المعتاد. لم يتصرّفا البتة كما لو أنهما نصف الفسيفساء، وإنما كأنهما كلّ أعيد تنظيمه.
خلص دريتش إلى أن كل قُسيم أرومي في مرحلة الخليتين وحتى الأربع خلايا "مكتملة النمو قادرة" (totipotent) كما أسماه، أو قادر على التطوّر إلى كلّ سوي على الرغم من تغيّر الظروف. أي أنه أظهر قدرة كبيرة على "تجديد" الكل رداً على تغيّر الظروف داخل الكائن الحي وخارجه.
أثارت هاتان النتيجتان المتعارضتان أسئلة جوهرية. ومع أن رو شعر بالارتياح لإضافة مختلف الفرضيات عن "التولّد اللاحق" (Postgeneration) والمجموعات "الإضافية" من المحدّدات الموروثة، فقد رفض آخرون هذا المفهوم واعتبروه تلفيقات مرتجلة. وأرادوا التصدّي للأسئلة الأساسية بشأن ما تنطوي عليه عمليات التمايز حقاً وما الذي يحدثها.
هل انطلقت الخلايا بالفعل، أو تمايزت، في اتجاهات مختلفة في مراحل الانقسام المبكّرة؟ أو هل هي قادرة على الاحتفاظ بمرونتها حتى وقت لاحق؟ هل تتمايز عادة لكنها قادرة مع ذلك على إعادة البرمجة لاحقاً، رداً على تغيّر الظروف؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما المدة التي تبقى فيها غير محدّدة أو "قابلة للبرمجة"؟
تلك بعض الأسئلة نفسها التي نطرحها اليوم، بعد مرور أكثر من قرن، بشأن الخلايا الجذعية والاستنساخ. ومثلما هو الحال اليوم، طرح تشويق ظهور نتائج متعارضة في تسعينات القرن التاسع عشر أسئلة جوهرية بشأن طبيعة التمايز وأهميته.
وتلا ذلك اندفاع للعمل، حيث اضطلع اختصاصيو البيولوجيا بدراسات متماثلة على كائنات حيّة أخرى لإجراء المقارنات ثم دراسات جديدة للوصول إلى الأسئلة نفسها أو لاستخدام النهج التجريبي بطرق أخرى.
من ساد رو أو دريتش؟ الفسيفساء أو الانتظام؟ الوراثة أو التطوّر؟ الضفادع أو قنافذ البحر؟ وأي منهما كان مصيباً؟ بدلاً من التوصّل إلى إجابات متقنة للبت في الأسئلة، اكتشف رو ودريتش تنوّعاً في الأنماط التطوّرية. بعض الكائنات الحيّة اتبعت نمط رو وتمايزت باكراً، على نحو أكثر شبهاً بالفسيفساء. وكانت كائنات حيّة أخرى أشبه بقنافذ بحر دريتش، أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للتغيّرات في الظروف المحيطة والتطوّر بشكل سوي.
أظهر هانس سبيمان (Hans Spemann) أن الباحث، في البرمائيات على سبيل المثال، إذا ضيّق البيضة المخصبّة في سطح واحد باستخدام حلقة دقيقة، فإنه يستطيع إنتاج توأمين متماثلين جنباً إلى جنب في البيضة نفسها. وإذا ضيّق البيضة على السطح عند زاوية تسعين درجة على الأولى، فإنه يحصل على بيضة واحدة ذات جنين متطوّر وخلية أخرى مليئة بفضلات ميتة. كما أن مجموعة أخرى من التضييقات الجزئية تنتج توأمين ناقصين متصلين حيث لم يتم فصلهما تماماً.
أوحت أخبار مثل هذه بمزيج من الحتمية والانتظام. وأصبحت هناك الآن مجموعة جديدة من الأسئلة: ما الذي يحدّد النمط الذي يتبعه كائن حيّ معيّن؟ هل يتصرّف قنفذ البحر دائماً مثلما فعلت قنافذ بحر دريتش، أو هل هناك بعض الشروط التي تكون بموجبها أكثر شبهاً بالفسيفساء؟ إذا كان الكائن الحي يستطيع تنظيم نفسه، هل يعني ذلك أن هناك ذاتاً تنظمه، وهل يمكن أن يكون ذلك ما نعنيه بالحياة؟ وكيف يمكن أن نعرف؟
كانت التجارب تحتفظ بأهم المفاتيح في ذلك الوقت. في الفترة الممتدة بين سنة 1870 وتسعينات القرن التاسع عشر، حقّق الباحثون تقدّماً هائلاً في فهم أنماط المراحل الأولى للانقسام الخلوي السوي والتمايز من خلال دراسات الأنساب الخلوية.
بيد أنهم سرعان ما وصلوا إلى حدود ذلك البرنامج البحثي وكان عليهم أن يفردوا ما اعتبروه أسئلة مثيرة للاهتمام بشأن ما الذي يسبّب الأنماط والعمليات التي توجّهها. قدّمت التلاعبات والمنهجيات التجريبية الإطار الذي يمكن أن يكسبوا من خلاله معرفة إضافية.
وتجدر النظر في بعض هذه النهج بالتفصيل، والتركيز على التجدّد (Regeneration)، والتوالد البكري، والزرع، والازدراع (Explantation) (الزرع في وسط زراعي خارج الجسم).
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]