استخدام الاختراعات
2014 أبجدية مهندس
هنري بيتروسكي
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
الاختراع بلا حاجة (Invention Without Necessity). عندما توفي المخترع آرون لابن (Aaron S. Lapin) (1924-1999)، لم تُوضع صورته في سجل وفاته وإنما صورة المُنْتَج الذي اشتُهر به – علبة ريدي – ويب الصفيحية Reddi-Wip). وأصبحت هذه العلامة الحمراء والبيضاء المميزة لهذا "المنتج الشهير" أيقونة في الاستهلاكية الأميركية استحقّت اللوحة الشعبية للرسام أندي وارهول (Andy Warhol). فقد قدّم لابن القشدة المخفوقة المعلّبة في صفيحة نفث هوائي عام 1946 وأصبح بفضلها مليونيراً في منتصف القرن الماضي.
شركة لابن، واسمها شركة كلايتون (Clayton Corporation)، فعلت أكثر من مجرد وضع القشدة المخفوقة في علبة معدنية. فقد صنعت صماماتها لنفث الهواء، التي يمكنها أيضاً أن تتحكم في إطلاق مواد استهلاكية أخرى موجودة في علب مزودة بنافثات هوائية، مثل معجون الحلاقة. وكانت كلايتون أيضاً من أولى الشركات التي علّبت معجون الحلاقة كمنتج نفث هوائي، ولكن لابن قرر عدم تسويقه بتنافس مع مصنعين كانوا مستهلكين مرتقبين لصماماته.
قصة آرون لابن تلخص حلم عددٍ لا حصر له من المخترعين الأميركيين الذين أملوا في الثراء عبر شيء صغير مميز، ترف صغير لم يحلم أحد إلا المخترع بأننا نحتاجه والذي سنجده جميعاً ضرورياً جداً بعد أن يتم تسويقه. فالقشدة المخفوقة كانت موجودة بالتأكيد قبل ريدي – ويب، وكان يمكن أن تصنّع باستخدام القشدة السميكة و"جهد عضلي" – أو خلاط كهربائي. وخفق الكريم يدوياً أو آلياً يمكن أن تكون عملية شديدة الحساسية، كذلك يبدو أن الأمور ستكون أقل جودة عندما تبرد فطيرة التفاح بانتظار تغطيتها بالقشدة. إذن سيكون الأمر أقل تنغيصاً إذا وجدت صفيحة من صفيحات ريدي – ويب في الثلاجة؛ ولكن هذا لا يجعل منها ضرورة.
على النقيض من الحكمة التقليدية، فإن الحاجة ليست أم الاختراع. والمخترعون الناجحون لا يبحثون بالضرورة عما يحتاجه المستهلك؛ إنهم يبحثون بشكل دائم عما لا نحتاجه. فنحن لا نحتاج إزعاج خفق القشدة، ولا نحتاج إزعاج إرغاء الصابون للحلاقة. وحيث يستسلم الناس العاديون للانزعاج والإحباط يرى المخترعون فرصة سانحة. وهكذا فإن العديد من الأشياء الصغيرة المستعملة في الحياة اليومية التي نعتبرها أمراً عادياً، كانت جذورها في كل ما لعنه فعلياً كل شخص، إلّا أن لم يتعايش معه، إلا مخترع واحد. وعندما يصير الاختراع متاحاً لنا نصبح مع ذلك غير قادرين، على الحياة من دونه. وهنا يصبح الترف ضرورة.
أصبح كينغ جيليت (King Gillete) (1855-1932) شهيراً لاختراعه آلة شعبية لم تكن ضرورة مطلقاً. فهو أخذ النصيحة لاختراع "شيء ما يمكن استخدامه ومن ثم رميه" حيث سيكون بيعه متكرراً، وجاء بفكرة شفرة الحلاقة الآمنة. ولم يعتقد المتشككون بأن أحداً سيشتري شفرات لا يمكن شحذها، ولكنهم كانوا مخطئين. استخدم جدّي موسى الحلاقة جيداً، مع ثلم هنا وثلم هناك، ورأيت والدي يشحذ موسى الحلاقة مرة أو مرتين أثناء عودته إلى البيت. وأذكر إنهاء قص الشعر بالموسى لسوالفي أيام المراهقة، ومراقبة الحلاق يستخدم واحدة لحلاقة ذقن رجل في الكرسي المجاور. ولحسن الحظ فإن معظم أبناء جيلي لم يستخدموا موسى الحلاقة، مع أني أتوقّع أننا كنا سنتعلّم أن نعيش معها لو أن جيليت لم ينتج المنتج الأحسن.
لا أستطيع أن أحصي عدد الشفرات التي استعملتها منذ بدأت حلاقة ذقني، ولكن جيليت كان ذا بصيرة في ربط خلق ثروته ببيع الشفرات القابلة للاستهلاك أكثر من الآلة التي تمسكها ويمكن إعادة استعمالها. وفي عام 1903 تمّت أول صفقة بيع لرزمة من 186 شفرة. وفي نهاية السنة التالية أنتج أكثر من 12 مليون شفرة. وأصبح مليونيراً مما أتاح له ترف أن يصبح اشتراكياً طوباوياً اعتقدَ أن التنافس لا فائدة منه، وظن بأن على المهندسين أن ينظّموا الجهود الاقتصادية في المجتمع المثالي. ولكننا نتذكّر جيليت لا بفلسفته وإنما بشفرات الحلاقة.
الماسحات الواقية الزجاجية للسيارات تعمل إلى حد ما مثل شفرة الحلاقة، فهي تكشط قطرات المياه في كل دورة. وحتى وقت غير بعيد كان الجهاز المعياري [الماسح] متحركاً يقوده محرك ذو سرعة ثابتة، تُعكس جهة حركته الدورانية بربطة القوة الحركية بآلية تحرّك الماسح في الاتجاهين. وكان الكل يعرف أن هذه الماسحات مزعجة في أوقات المطر الخفيف أو الرذاذ، عندما تحكُّ الشفرات وترتجف عند المناطق الجافة على سطح الواقي الزجاجي. وقد عشنا كلنا مع هذا الإزعاج البسيط، وكنا نقوم بتشغيل وتوقيف الماسحات يدوياً. وجاء المخترع روبرت كيرنس (Robert Kearns) (1927-2005) الذي تصوّر طريقة أكثر ملاءمة للتعامل مع هذه المسألة، مقدّماً فكرة المسح المتقطّع التي أصبحت أمراً مألوفاً الآن. من كان يحتاجها في ذلك الوقت؟ ومن يريد قيادة سيارته الآن من دونها؟
تصوّر كيرنس أنه سيجني ربحاً أكثر من اختراعه المحمي ببراءة اختراع من طريق بيعها لمصنعي السيارات، وهكذا عرضها عليهم. وفي حين أن أحداً منهم لم يختر شراء الإجازة، إلا أن كيرنس لاحظ فيما بعد أن فكرته قد أصبحت موجودة في نماذج السيارات الجديدة. فأقام دعوى، وأدّت أولى المصالحات، بعد الأتعاب القانونية، بتقاضي 33 سنتيماً عن كل سيارة من العشرين مليون سيارة من سيارات فورد وميركوري ولينكولن (Fords, Mercurys, and Lincolns) التي بيعت أثناء ذلك مع الماساحات المتقطعة. وقصة المخترع الوحيد كيرنس في مواجهة عمالقة مصنعي السيارات حكيت كتابة وعلى الشاشات. انظر مقال: John Seabrook, "The Flash of Genius," which appeared in the New Yorker for January 11, 1993. وشكّلت هذه القصة الأساس للوثيقة الدرامية عام 2008 باسم Flash of Genius أخرجها مارك أبراهام (Marc Abraham).
لا تقدّم كل هذه الأشياء الصغيرة التي نستخدمها كل يوم مثل تلك التعويضات المجزية، ولا يتوقّع منها أن تكون كذلك. وبعض المخترعين، الذين يسمّون عادة مهندسين، يبادلون التباس الاختراع المستقل، وجهد الريادة الذي يتطلّبه استثماره، بتأمين دخل ثابت، وإن كان بسيطاً. وهؤلاء الموظفون غالباً ما يوقّعون اتفاقات مع مشغليهم بأن يتركوا للشركة أو المؤسسة أية براءة ناجمة عن الاختراع لأنهم يتلقّون راتباً لقاء عملهم اليومي. والهندسة من هذا النوع يمكن أن ينظر إليه على أنه اختراع مؤسسي.
الكثير من المنتجات والتجهيزات التي أصبحت مألوفة الآن جاءت من مصانع الاختراع كما سمّى توماس أديسون (1847-1931) مختبراته. كان دوغلاس إنغلبارت (Douglas Engelbart) (ولد عام 1925) مهندساً يعمل في معهد ستانفورد للأبحاث (Stanford Research Institute) (وهو المعهد ستانفورد الدولي للأبحاث الآن (SRI International)) على زيادة القدرة الفكرية للإنسان باستخدام الحاسوب. وفي عام 1963 اقترح "الآلة الكاتبة" التي نتعارف عليها اليوم باسم معالج النص [الحاسوبي]، واخترع فأرة الحاسوب. وطوّر أيضاً نسخة أولية من البريد الإلكتروني. ولأن إنغلبارت لم يستثمر أيّاً من اختراعاته فلم يحقق المكاسب المالية التي حققها جيليت أو كيرنس؛ ولكن اعتُرف به مع الزمن على نطاق واسع لإنجازاته وحصل على عدة جوائز، بما فيها جائزة ليملسون – أم آي تي (Lemelson-MIT) عام 1997، التي تقدّر المخترعين في منتصف حياتهم المهنية والذين كرسوا أنفسهم لتحسين عالمنا عبر اختراعات وابتكارات تكنولوجية، مع جائزة مالية بمقدار 500 ألف دولار، والذي تصل ربما إلى جزء من جزء من السنتيم عن كل فأرة مستخدمة اليوم.
اختراع آخر لا أحد يدرك أنه لا يستطيع العيش من دونه هي وريقات الملاحظة اللاصقة (Post-it note). كان المهندس الكيميائي أرثر فراي (Arthur Fry) (ولد عام 1931)، الذي يعمل مع شركة ثري إم (3M)، يستعمل بعض أوقات الاختراع التي يمكن استخدامها بحسب الرغبة في الشركة عندما جاء بفكرة استخدام قصاصات الأوراق مع لاصق مؤقت. ذلك لأنه ضجر، وكذلك آخرين غيره، من العلاّمات التي تسقط من كتب التراتيل التي يستخدمها في صباحات أيام الآحاد. وبدلاً من التأفّف عند فقد المكان الذي كان فيه، أتى بعلّامات لاصقة لا تسقط من تلقاء نفسها ويمكن نزعها بسهولة. ولم يجد وقتها إلا القليل من الحماس من شركته لاستثمار اختراعه؛ ولكن مثابرته أعطت أكلها مع فرصة لاختبار السوق لقصاصاته الورقية. وأعجبت الفكرة كل من استخدمها، وفي خلال عقد من اختراعها كانت في كل بيت ومكتب.
لا يمكن أن تعود كل الأشياء الصغيرة على مكاتبنا لمخترع واحد. فمشبك الورق المفيد جداً مضى على وجوده أكثر من قرن وبقي مخترعه مجهولاً. وما عرفناه منذ فترة قريبة، أصبح الـ جم (Gem) (وهو اسم الشركة البريطانية جم ليمتد (Gem Ltd) التي كانت أول من صنّع المشبك وسوّقه) مع ذلك معياراً تقارنُ إزاءه كل المشابك الأخرى. وكما هو الأمر في المصنوعات كلها، فإن المشبك الورقي الذي يبدو وكأنه أصبح مكتملاً في عيون مستخدميه اليوميين، مليء بالأخطاء في عيون المخترعين. والانتقادات التكنولوجية الأشدّ لها علاقة: تدوير أطرافه لتخفيف نزوعه لتمزيق الأوراق؛ وإعطائه حافة لتسهيل الشبك؛ إضافة لإلى انثناءات أخرى بحيث يمكن استخدامه من الطرفين؛ وبتغيّرات لا نهاية لها في الظاهر مثل تقوّسات وفتلات أخرى وإعادة تشكيل بما يقابل ما يظنّه كل منا أنه جم (مشبك) مثالي.
قد صدرت مئات براءات الاختراع لتحسينات المشبك في القرن الماضي حيث أمل كل مخترع – مبادر في الأعمال حيازة شريحة صغيرة من السوق. وبراءات الاختراع ليست بالضرورة لتصنيع شيء جديد، ولكن ينظر إليها كأداة منح حق استبعاد الآخر من صنعه وبيعه. ولسوء الحظ فكثُر هم من يودّون أن يكونوا قطباً جاذباً في موضوع مشبك الورق ولم يتمكنوا من العثور على مصنّع شريك يريد ممارسة حق إجازة الاختراع. وعشرات آلاف الدولارات التي استثمرها المخترعون المفعمون بالأمل في عملية تسجيل الاختراع وفي خطط تسويق الاختراع غالباً ما قادت إلى لا شيء.
لكل مخترع مبادر في الأعمال مثل آرون لابن وصفيحته الريدي – ويب، هناك مئات آلاف المهندسين الذين يعملون في كل مكان يومياً في الاختراع المؤسسي، وعدد لا ينتهي من المخترعين المعوزين يفتلون قطعاً من الأسلاك في أشكال لن ترى أبداً رفوف الباعة. وبالنسبة [لكثير من المخترعين]، فإن احتمالات الفشل والطريق لا تزال طويلة أمامهم قبل أن يصبحوا من أصحاب الثروات الكبيرة مثل لابن الذي "كان يشتري سيارتي كاديلاك في الوقت نفسه كل مرة، وعاش في قصر غلوريا سوانسو (Gloria Swanson) المفروش في هوليوود"، ولكن نظام المؤسسة الحرة يتيح الفرصة لهؤلاء الذين يريدون تجربة حظهم فيها. وليس هناك شك في أن أمثال آرون لابن المستقبليين الذين يعملون في هذه اللحظة بالذات، يبحثون بعين المخترع الناقدة عن شيء يستعمله كل منا من دون أي تفكير، وهم جاهزون لخلق كمالية ضرورية أخرى. ومثل هؤلاء الناس هم من جلبوا لنا الهواتف الذكية ومنتجات إلكترونية أخرى وسيجلبون الشيء الكبير التالي بلا شك. (نسخة من هذا المدخل نشرت بالأصل في جريدة وول ستريت بعنوان:("The Uses of Useless Things," Wall Street Journal, July 26, 1999, p. A22).
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]