العلوم الإنسانية والإجتماعية

التجارة والصناعة في تنظيم مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

إلى جانب "الاقتصاد المضارب" (Speculative Economy) في قطاع التمويل، أحدث انهيار نظام ما بعد الحرب تحولات كبرى في "الاقتصاد الفعلي" (Real Economy) مع انشاء مؤسسات جديدة واتفاقات ونظم تحكم التجارة العالمية والإنتاج (الفصل 7). وعلى رغم أن هناك بعض الفائدة من تسمية الفوارق بين هذه القطاعات، فإنها لا تعني شيئاً حيث إن إنتاج منتوجات وخدمات ("حقيقية") ملموسة في الاقتصاد الرأسمالي متعلق بالوصول الى قطاع التمويل. وبذلك الظواهر "الحقيقية" و"المضاربة" للاقتصاد مرتبطة ارتباطاً شديداً.

ذهب الردّ المحلي والدولي على أزمات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى ما هو أبعد من النظام المالي ووصل إلى حدّ تغيير القوانين والتدابير التي تحكم التجارة والإنتاج الصناعي. فقد أحدث عدم الانتظام  في القطاع المالي والتجاري إعادة هيكلة مهمة الاقتصاد الرأسمالي المتقدم. وقد أحست بذلك بشكل كبير القطاعات الصناعية التي تراجعت مقارنةً بقطاع الخدمات في إطار عملية يتم الاشارة اليها أحياناً بـ"عدم التصنيع" (Deindustrialisation).

تم توجيه الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة التي تم التوصل إليها كجزء من اتفاقيات بريتون وودز لتسهيل تحرير التجارة في نظام عاقب ضمناً أنظمة الحماية الوطنية كالتعريفات والدعم. ومع بداية الأزمات الاقتصادية خلال سبعينات القرن الماضي بدأت الحكومات الوطنية في تخفيض التعريفات على بعض الصناعات الشديدة الحماية. تم الاتفاق بأن النتائج المترتبة عن التعرض للمنافسة الدولية من شأنها أن تحسن الكفاءة والإنتاجية في الشركات مما يحفز الابتكار والنمو الاقتصادي بموجب النظرية الليبرالية الجديدة (انظر فصل 3).

ولكن في الواقع، أدت المنافسة إلى إفلاس الكثير من الشركات مع موظفيها. ونقل من استطاع، صناعته الى خارج البلاد، وغالباً إلى دول في طور النموّ للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة. في الحالتين، وجد العديد من العمال أنفسهم في طوابير البطالة بحيث لم تتطابق مجموعة مهاراتهم مع المهارات التي يطلبها قطاع الخدمات المزدهر الذي نما بصورة ملحوظة نتيجة ازدهار قطاعات التمويل والتأمين والعقارات. فكانت النتيجة البطالة البنيوية على المدى الطويل (فصل 8).

تم استبدال الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة عام 1995 بمنظمة جديدة وهي منظمة التجارة العالمية والتي تعكس التغييرات الأوسع في الأيديولوجية والتطبيق بعيداً عن "الحماية" باتجاه تعرض أكبر للمنافسة والمخاطر. كان هدفها تحرير التجارة الدولية للمنتوجات والخدمات من خلال الإزالة المستمرة للتعريفات والدعم. مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كانت منظمة التجارة العالمية محط انتقادات واسعة بسبب تشجيعها على نموذج  "السوق الحر" الكلاسيكي الجديد للنموّ. وغالباً ما أدى تشجيع "التجارة الحرة" ومناطق تحضير الصادرات في البلدان النامية إلى  ظروف عمل سيئة ومعايير بيئية منخفضة كونها أساس استقطاب المستثمرين في ما يُعرف بـ "السباق للأسفل" (Trading Blocs Race To The Bottom) (فصل 5).

وإلى جانب التركيز الدولي لمنظمة التجارة العالمية، وقّع عدد متزايد من الدول على اتفاقات "تجارة حرة" مما خلق "تكتلات تجارية" بين دول ومناطق مختلفة (انظر مربع 4.6). فعلى سبيل المثال هدفت  اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا التي وُقعت عام 1994 بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك إلى إزالة كل الحمايات التجارية بين هذه البلدان الثلاثة. غير أن هذه الاتفاقية كانت عرضةً لانتقادات بسبب اثارها السلبية على الاقتصاد المحلي في البلدان المشاركة . فعلى سبيل المثال، ناضل المزارعون المكسيكيون للحفاظ على سبل عيشهم بسبب تدفق الواردات الزراعية الرخيصة من الولايات المتحدة الى الأسواق المحلية. وعلى نحو مماثل عانى العاملون الصناعيون الأميركيون لأن صناعاتهم انتقلت الى المكسيك للاستفادة من العمالة الرخيصة هناك.

يُعد الاتحاد الأوروبي الكتلة الإقليمية الأكثر اندماجاً في مجال التجارة الحرة والتعاون السياسي. فهو مؤلف من 27 دولة عضو وحاول إنشاء "سوق موحد" للعمل والمنتوجات والخدمات والرأسمال.

المربع 4.6 التجارة الحرة لمساعدة الفقراء؟

تعرف المفاوضات التجارية الدولية والإقليمية والثنائية بالاختلافات في اهتمامات البلدان المتقدمة والبلدان في طور النموّ. تحت عنوان "التجارة الحرّة" سعت البلدان المتقدمة "للدخول الى الأسواق" في البلدان في طور النموّ من خلال إزالة أنظمة حماية التجارة. وفي غضون ذلك، ركزت بعض البلدان في طور النمو على وضع قواعد تجارية تعزز النمو ومن ضمنه الأمن الغذائي.

غير أن الدول المتقدمة تمكنت من استغلال ثغرات ناتجة عن ممارسات تفاوض غير متكافئة. وأدى ذلك إلى قوانين تجارية عالمية مختلفة تشمل المنتوجات الزراعية وغير الزراعية والخدمات والملكية الفكرية حيث "التجارة الحرة" ليست تجارةً "عادلة". تمارس البلدان المتقدمة سلطتها من أجل إعادة تشكيل انظمة حماية التجارة أو الحفاظ عليها من التعريفات والدعم والحصص النسبية. وفي نفس الوقت تضطر البلدان في طور النموّ لفتح أسواقها بدون أن تتمتع بنفس أنظمة الحماية التجارية التي تتمتع بها البلدان المتقدمة.

وأثار هذا الواقع معارضةً شديدةً. فتقود "أوكسفام" (Oxfam) وهي منظمة غير حكومية عالمية للتنمية حملات لتعديل الاختلالات في هيكلية التجارة العالمية لمصلحة المجتمعات الزراعية الفقيرة في البلدان في طور النموّ. تستهدف نشاطاتها والتي هي جزء من حملة "اجعلوا التجارة عادلة" ممارسات الحماية في قطاعات الزراعة في البلدان المتقدمة. وتعرضت الولايات المتحدة للفحص الدقيق بسبب "فواتير مزارع" التي تؤمن دعماً  مهماً (أكثر من 25 مليار عام 2003) ومن ضمنها دفعات مباشرة لصناعات وشركات مختارة (أوكسفام 2008، 2009).

تعمل أوكسفام على ازالة أنظمة حماية التجارة المماثلة بينما تبحث عن "طرق معاملة متميزة ومتباينة" للصناعات غير الحصينة المعرضة للتجارة في البلدان النامية. ويهدف ذلك الى حماية وتسويق المصالح التنموية لهذه البلدان من خلال تأسيس نوع من التجارة الحرة يكون على شكل "طريق واحد" (ينطبق على البلدان المتقدمة).

ويسلط موقف "أوكسفام" الضوء على تعقيدات التجارة العالمية، فمن جهة توجه انتقادات شديدة لمظاهر العولمة ولكن تطالب من جهة اخرى بتوسيع تدابير التجارة الحرة لعدة صناعات في العالم المتقدم.

 

لدى الاتحاد الأوروبي برلمان ونظام عدالة متفانٍ، ويتعامل أكثر من نصف أعضائه بعملة واحدة (اليورو) خاضعة للبنك المركزي الأوروبي. ولكن في داخل السوق الأوروبي توجد أنظمة حماية تجارية مهمة من المنتوجات والخدمات غير الأوروبية خاصةً في مجال الزراعة. وبالفعل فحماية بعض الصناعات المحلية ميزة مستمرة للعديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة حتى لو كانت تطالب بـ"التجارة الحرة" خارجاً.

تشير هذه الأمثلة المختلفة عن هيكليات التجارة والانتقادات المثارة حولها، إلى الجدل حول طبيعة التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى طبيعة التصميم والتطبيق المؤسسي. وكما سنرى في القسم التالي، مع أن "السوق" أصبح نموذجاً لسياسة سائدة تتغلغل في مناطق لم يتم تسليعها أو تسويقها سابقاً، إلا أن رفض ومقاومة هذه الخطوات هو أمر جليّ.

 

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى