الحمى المالطية: أعراضها وأسبابها
1995 أمراض لها تاريخ
حسن فريد أبو غزالة
KFAS
شيء واحد يبدو أنه لم يسترع انتباه الأجيال القديمة من البشر هي "حمى " غامضة تشيع بين الناس هناك، تداهمهم في فترات وتكف أذاها عنهم فترات أخرى.
فهي تتقلب على صورة موجات تشتد ليلاً، وتنخفض نهاراً، يصحبها عرق غزير وآلام مفصلية شديدة، لهذا سموها بالحمى المالطية، ولكنهم لم يميزوها عن غيرها من الحميات الأخرى "كالحمى الروماتيزمية" أو "السل" أو "التيفوئيد"، فعرفت بالحمى المتموجة لتموج حرارة المريض معها.
إلى أن ابتلى الله هذه الجزيرة بأن تستعمرها بريطانيا العظمى وتتخذ منها ميناء بحرياً تلجأ إليه سفن أسطولها العامل في البحر الأبيض المتوسط، وكان من المصادفة أن يكون ضمن العاملين في الخدمات الطبية في القوات البريطانية طبيب يدعونه "جيفري مارستون" صاحب عقل متفتح وذكاء وقاد، فاكتشف أن الحمى في مالطه غير التي في بلاد أخرى لهذا كان أن أطلق عليها عام 1863 اسم حمى مالطه.
وما دام لكل مرض سبب فلا بد أن لحمى مالطه سبباً، وخاصة أن "كوخ" الألماني في ذلك الزمان كشف سر السل والكلوليرا والحمى الفحمية، وكان "باستور" الفرنسي بغزواته العلمية يؤكد هذا المعنى، فاكتشف أسباب تخمر النبيذ الفرنسي المشهور، وابتكر تعقيم الحليب بطريقة عرفت من بعده باسم بسترة الحليب نسبة إلى اسمه، وأعد لقاحاً ضد داء الكلب.
على هذا الدرب سار طبيب انجليزي اسمه "دافيد بروس" فاكتشف في طحال أربعة ممن أصابتهم "حمى مالطة" وصرعتهم أن السبب هو جراثيم صغيرة ظنها من نوع المكورات، فأطلق عليها اسم "المكورات المالطية" Micrococci Melitensis ثم كان أن سموها فيما بعد باسم "البروسيللا المالطية" Brucella Melitensis نسبة إلى مكتشفها الطبيب الإنجليزي "بروس".
في تلك الأيام كانت الحكومة البريطانية مشغولة بحروبها هنا وهناك، وكانت حرب القرم على أشدها في منتصف القرن التاسع عشر، لهذا كانت تبعث بجنودها من الجرحى ومن ضحايا الأمراض الأخرى إلى جزيرة مالطة لقضاء فترات من الراحة والاستجمام والنقاهة.
غير أن الجندي إذا ما شفي من علته الأولى كانت تصيبه حمى الجزيرة التي لم يعرفوا لها سبباً ولا وسيلة، فكان أن أرسلت الحكومة البريطانية في عام 1904 بعثة طبية لتقصي الحقائق حول هذه القضية التي تشغل بال الوسط الطبي العسكري.
فقام بوصف الحمى على وجه دقيق طبيب من أطبائها، ساء حظه فأصيب بها، لهذا كانت تجربته تملي عليه الحقائق من وحي التجربة أكثر من وحي المعرفة.
وكان ضمن البعثة الطبية أيضاً طبيب مالطي اسمه "زامت" لفت نظر زملاءه في البعثة الطبية إلى أن هناك في دم الماعز المالطي مواد معينة تؤدي إلى تخثر الميكروبات التي اكتشفها "بروس"، إذا ما أضيفت إليها وامتزجت بها.
هذا ما دفع البعثة الطبية إلى الاشتباه في ماعز الجزيرة في أن تكون هي السبب، وأثبت فحص عينات منها أن المرض منتشر بينها فعلاً، وقد تصل نسبته إلى خمسين بالمائة بل إن عشرة بالمائة منها تفرز هذا الميكروب في حليبها.
وكانت العادة في مالطة أن يسير الراعي في شوارع المدينة وهو يسوق قطيعه من الماعز أمامه، يحلب لمن يشار حليباً طازجاً يشربه الناس فوراً عن قناعة منهم بأن فيه كل أسباب الصحة والعافية دون ما غلي أو معالجة، وخاصة أن الماعز المالطي قد اشتهر في العالم كله بجودة حليبه ووفرته.
لهذا كان أن استوردت شركة أميركية قطيعاً من الماعز المالطي تعداده 65 رأساً، حملوها على سفينة خاصة بنقل المواشي، فقطعت المسافة بين فاليتا عاصمة مالطة وميناء نيويورك الأميركي على مرحلتين، الأولى كانت برفقة 12 بحاراً أصيب ثمانية منهم بالحمى المالطية، أما الباقون الاربعة فاثنان منهم لا يحبان شرب الحليب أصلاً، واثنان آخران يفضلان شرب الحليب ساخناً بعد غليه.
أما في المرحلة الثانية من الرحلة فقد رافق الماعز 64 بحاراً أصيبوا جميعهم بالمرض، والمضحك في الأمر أن الماعز وصلت إلى أميركا مريضة، وقد أصابها الإعياء مما اضطر أولى الأمر أن يعدموها جميعها إذ لا تصلح لا للأكل ولا للحلب.
على أي حال فالبعثة البريطانية وصلت إلى قناعة بأن شرب حليب الماعز المريضة هو وسيلة نقل المرض، وخاصة أن ستة بالمائة من سكان الجزيرة المالطيين وجدوهم يحملون أسباب المرض، لهذا قررت البعثة منع شرب الحليب على الجنود البريطانيين فلم يمرض منهم أحد بعد ذلك، وطويت صفحة من صفحات المرض في تاريخ الجيش البريطاني.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]