الرأسمال الاجتماعي والمجتمع المحلّي والمشاركة في مجتمع السوق النابض بالحياه
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
أظهرت فترة الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم اهتماماً متجدّداً في المجتمع المدني. وعزى كُثر سقوط الشيوعية في الكتلة السوفياتية إلى حركات المجتمع المدني التي وقفت في وجه الحكم الشيوعيّ. ثمّ ازدادت الأبحاث التي تتناول المجتمع المدني، ومعها ارتفعت المخاوف من أنّ المجتمع هذا بدأ يضعف. وانصبّ الاهتمام على العمل الذي قام به العالم السياسي روبرت بوتنام (Robert Putnam) فهو ركّز على ما أسماه "الرأسمال الاجتماعي"، هذا المورد الذي طوّره المجتمع المدني حتّى يحافظ على اقتصاد وديمقراطيّة سليمين.
اعتمد بوتنام (1993) في عمله على بحثٍ موسّع في إيطاليا حيث عاين سلامة المؤسسات المدنية والسياسية والاقتصادية. ووجد أنّ شمال إيطاليا أحرزت نتيجة أفضل من الجنوب الفقير نسبياً في هذه المؤشرات كافة. وعزى بوتنام هذا للفروقات في المجتمع المدني، شارحاً أنّ "الرأسمال الاجتماعي" يولّد نتائج اقتصادية وسياسية أكبر.
واستند مفهوم بوتنام على عمل قام به علماء الاجتماع الاقتصاديّون مثل جيمس كولمان (James Coleman) ومارك غرانوفيتر(Mark Granovetter). وعمل كولمان مع عددٍ من الاقتصاديين العقلانيين البارزين بمن فيهم غاري بيكر (Gary Becker) في جامعة شيكاغو. وطبّق منهجه الاقتصادي على تحاليله الاجتماعية مستخدماً وسائل مثل نظرية الألعاب.
واستند قسم من عمل كولمان (1990) على طريقة تغلّب المجتمعات على مشاكل العمل الجماعي وقد رأى أنّه من الصّعب أحياناً على النّاس العمل من أجل المصلحة العامة. وشرح (1990) أنّ ظروفاً عدّة تشبه "معضلة السجينَين" بما أنّ المحفزات الفردية تعيق التعاون مع العلم أنّ التعاون يفضي إلى نتائج أفضل للجميع (راجع المربّع 6.10).
وأكّد كولمان أنّ الناس استطاعوا في عدد من الظروف التغلب على هذه المعضلة عبر بناء معايير اجتماعيّة قويّة دفعت النّاس إلى اتّخاذ قرارات جماعية منطقية أكثر. وعرّف هذه المعايير بالرأسمال الاجتماعي، ما سهّل الثقة بين الناس وأتاح لهم العمل معاً لغاية مشتركة بدون الحاجة للاستثمار في مراقبة مكلفة أو تكاليف مفروضة.
وبالتّالي شرح غرانوفيتر (1973) كيفية تسهيل مختلف أنواع الشبكات الاجتماعيّة أنواع التصرّف المتنوّعة. يبني على سبيل المثال عدد كبير من الأشخاص روابط وثيقة مع مجموعة صغيرة من النّاس يشبهونهم تماماً مثل أفراد عائلتهم وأصدقائهم المقرّبين. وتسهّل هذه الروابط المتينة الأعمال المرتفعة الكلفة كإعداد حساءً لصديق مريض.
وعلى عكس ذلك، نقيم علاقات ضعيفة مع عدد كبير من النّاس نلتقيهم في العمل والأندية الاجتماعية. ويبدو أنّ هذه الروابط الضعيفة تكون مع أشخاص لا يشبهوننا تماماً، ونختلف معهم في مسائل مرتبطة بالعرق والدين والتّربية وهم لا يسهلون تأديتنا لأعمال مرتفعة الكلفة، فنادراً ما نطبخ لزملائنا في العمل أو نقرضهم مبالغ جمّة. إلا أنّ هذه الروابط تسهّل النفاذ إلى موارد جديدة قد لا تكون ضمن شبكتنا العائلية المباشرة (مثل الحصول على فرصة عمل جديدة).
وبنى بوتنام على هذه النظرية حتّى يشرحوا كيفية إنتاج هذه الروابط الاجتماعية لأنواع مختلفة من الرأسمال الاجتماعي، ومن شأنها أن تقرّب بيننا (روابط متينة) أو تبني جسوراً بين مختلف المجتمعات المحليّة (روابط ضعيفة). وقال إن الرأسمال الاجتماعي يتألف من المعايير الاجتماعية والشبكات الاجتماعية التي تسهّل التصرف٬ والعنصران متكاملان. وبصفتهم مواطنين منخرطين في المؤسسات المدنية كالنوادي الرياضية وبرنامج "وجبات على عجلات" (Meals on Wheels)٬ استطاعوا أن يطوروا عدداً أكبر من الشبكات الاجتماعية ويبنوا الثقة مع الآخرين. هذه الموارد ستسمح لهم فيما بعد أن يعملوا معاً بسهولة أكبر بغية تحقيق أهدافهم المشتركة.
تبنى البنك الدولي أفكار بوتنام بعد أن تعرّض للنقد بسبب بعض السياسات التى اعتمدها والتي ركزت على بناء بنى تحتية ضخمة وأهملت الدول النامية الرازحة تحت وطأة ديون كثيرة يصعب عليها سدادها (الفصل 7 والفصل 6). رأى البنك في الرأسمال الاجتماعي أساساً بديلاً لسياسات التنمية. فبدل التركيز على الأصول المادية فحسب كالسدود والطرقات، سعى إلى بناء مؤسسات قوية وإرساء تدابير الحوكمة في الدول النامية (على سبيل المثال Dasgupta & Serageldin 2000).
غير أن النقاد على غرار عالم الاقتصاد السياسي بن فاين (Ben Fine) (2010) ارتأوا أن هذه الطريقة لم تأخذ بعين الاعتبار السلطة وانعدام المساواة في داخل المجتمع وفي الأنظمة التجارية العالمية على نطاق أوسع. وبالتالي سيصب البنك الدولي كامل اهتمامه على بناء الثقة ضمن المجتمع من دون الإقرار حقاً أن نقص الثقة قد يكون نتيجة السلطة غير المتكافئة أو الفقر الناتج عن التجارة غير العادلة.
وتجدر الإشارة إلى أن البنك الدولي لم يستخدم الرأسمال الاجتماعي كما استخدمه بيار بورديو (Pierre Bourdieu) (1986). فبالنسبة إلى بورديو يشكل الرأسمال الاجتماعي ثروة فردية (وليس ثروة للمجتمع برمته) تكون ثمرة معارف وعلاقات مع أشخاص أثرياء أو نافذين. وهذا المفهوم مماثل لمفهوم الرأسمال الثقافي الذي كوّنه (الفصل 4) إذ حدد الآليات الاجتماعية والثقافية للمحافظة على الميزات وانعدام المساواة. برأيه من غير المنطقي أن يعتبر الرأسمال الاجتماعي ثروة للفقراء في المقام الأول.
المربع 6.10 نظرية الألعاب ومعضلة السجناء
تطبق نظرية اللعبة (2001Varoufakis ) مبادىء الخيار العقلاني٬ ما يظهر كيف يتصرف الناس بطريقة استراتيجية بغية الحصول على النتيجة المثلى. ولكنها تسلط الضوء أيضاً على بعض المواقف حيث قد تؤدي العقلانية الفردية إلى نتيجة غير عقلانية جماعية٬ ما يخلف تبعات على المجتمع المدني والرأسمال الاجتماعي.
تشكل معضلة السجناء المثال الكلاسيكي لذلك. فهي قصة السجناء قيد الاعتقال والتحقيق من قبل الشرطة. يعرض الشرطي اتفاقاً على كل منهما: الوشاية بالآخر والإفلات من السجن٬ فيما يحكم على الآخر بالسجن مدى الحياة. إذا وشى الإثنان تكون العقوبة خفيفة وتقتصر على بضع سنوات في السجن. ولكن بسبب عدم كفاية الأدلة إذا ما التزم كلاهما الصمت تكون العقوبة مخففة ويدفعان غرامة.
قد يظن المرء أن السجينين سيصمدان. لكن وفقاً لنظرية الألعاب النتيجة مختلفة. فلنأخذ منظور السجين الأول: تعلم أنه لو صديقك وشى بك٬ من الأفضل أن تقوم بالمثل أنت أيضاً٬ فبضع سنوات في السجن أفضل من السجن مدى الحياة. وتعلم أيضاً أنه من الأفضل لك أن تشي بصديقك حتى لو لم يشِ بك (فتفلت من العقاب من دون أن تدفع غرامة). إذاً مهما فعل صديقك٬ عليك أنت أن تشي به. تتوقع اللعبة أن يشي الاثنان ويمضيا بضعة أعوام في السجن٬ فيما كان باستطاعتهما أن يدفعا غرامة لو أنهما تحليا بقليل من الثقة (أو الرأسمال الاجتماعي) ببعضهما بعض.
من هذا المنطلق٬ طبق واضعو نظريات الألعاب المنطق ذاته على مواقف أخرى مختلفة كالحفاظ على موارد البيئة أو التطوع في المجتمع. ويظهر هذا المثال "الجانب الشرير" من الرأسمال الاجتماعي الذي قد يقود إلى تصرفات سيئة في بعض الأحيان بدل التصرفات الحسنة.
المجتمع المحلّي والمشاركة
طبق بوتنام لاحقاً مفهوم الرأسمال الاجتماعي على الولايات المتحدة الأميركية حيث لاحظ تدهوراً مهماً في المشاركة المدنية. العام 2000 ابتكر عبارة "لعب البولينغ المنفرد" ليظهر كيف كانت تتلاشى بعض المؤسسات كاتحادات لعبة البولينغ.
سمى عدداً من المذنبين المحتملين واعتبر أن جزءاً من التبرير يعود إلى الأجيال. فأولئك الذين عاشوا الحرب واختبروا اليأس طوروا حساً للمشاركة في المجتمع أقوى من أولئك الذين ترعرعوا في أوقات الازدهار والفردانية. ومن الممكن أن تكون التغيرات الاجتماعية كضم المرأة إلى اليد العاملة. قد منحت الأفراد وقتاً أقل للمشاركة في الأندية الاجتماعية. غير أن السبب الرئيس، بنظر بوتنام هو التلفاز الذي سرق وقتنا وجعلنا اجتماعيين أقل من ذي قبل.
ارتبط تراجع مستوى المشاركة باستهانة مضطردة بمؤسسات الحكومة. فقد عكست استطلاعات عالمية ثقة متدنية بالحكومة ورجال السياسة. بالإضافة إلى ذلك٬ هبطت نسبة عضويات الأحزاب والتصويت في الانتخابات. اعتبر بوتنام أن هذه الاتجاهات مرتبطة بالرأسمال الاجتماعي المتراجع.
عبّرت بيبا نوريس (Pippa Norris)(2002) عن رأي مختلف، إذ اعتبرت أن المواطنين غيروا طريقة مشاركتهم في المجتمع المدني بكل بساطة. فبدل الانضمام إلى منظمات شعبية، باتوا يفضلون المشاركة في تجمعات في الشارع، أو مقاطعة سلعة ما لأسباب أخلاقية أو بيئية، أو إمضاء العرائض. وأشارت نوريس إلى أن المشاركة السياسية تغيرت بطريقة مماثلة للمشاركة الاجتماعية التي باتت تتمثل في تنظيم تحركات اجتماعية جديدة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]