الشركات والمؤسسات والمنافسة في تنظيم مجتمع السوق
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
نتوجه الآن الى أعمال الشركة، التي تعتبر الوحدة الأساسية للإنتاج في النظام الرأسمالي، ولكن هي أيضاً وسيلة مهمة للتنظيم. فتشغل مكانة متميزة في مجتمعات السوق لأن المصادر المطلوبة لإنتاج البضائع الاقتصادية والخدمات ممتلكة من القطاع الخاص. فالقرارات الخاصة التي تتخذها الشركات لها نتائج اجتماعية. فهي تنظم تدفق السلع الاقتصادية المتاحة للشراء من خلال قراراتها عّما يجب إنتاجه وما هي الكمية المطلوبة. وتنظم الشركات أيضاً مباشرةً الحياة المهنية لموظفيها برغم أن تجربة العاملين مع هذا النوع من "الانضباط" تختلف بشكل كبير، لأن الشركات بحدّ ذاتها تأتي بأشكال وأحجام مختلفة من وكالات حصرية إلى شراكات ومؤسسات. فتُعد الشركات المتحدة الشكل السائد من أشكال تنظيم الأعمال التجارية وتطور العديد منها الى مؤسسات كبيرة.
لعبت المؤسسة الكبيرة دوراً مهماً في نمو الاقتصاد العالمي وتحول مجتمعات السوق. ندرس في هذا الفصل تاريخ وصفات ونمو أعمال الشركة والآليات التي مكنتها من الازدهار. ويشمل ذلك النظريات المختلفة التي تحاول فهم طبيعة الشركة كمؤسسة اقتصادية مهمة ودورها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. نراقب كيف تنظم الشركة مكان العمل "داخلياً" وكيف تنظم أيضاً البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأكثر توسعاً.
وبناءً على ذلك ندرس الجوانب التنظيمية الرئيسية لأعمال الشركة التي تنبثق من الطبيعة المتناقضة للسلطة والتعاون في عملية الإنتاج. وندرس أيضاً الشركة في سياقها العالمي والطرق التي تمارس فيها الشركة السلطة من ناحية اجتماعية وسياسية.
ظهور الشركات
أدى إنفصال الإنتاج عن المنازل (كما تمت مناقشته في الفصلين 1 و2) إلى إنشاء مؤسسات التصنيع. وهي عبارة عن وحدة قانونية تؤمن البضائع أو الخدمات للبيع للمستهلكين أو لشركات أخرى بهدف تحقيق الربح. فيوجد اليوم تنوع ملحوظ في حجم ومميزات الوحدات التجارية مع وجود شركات صغيرة خاصة تعمل الى جانب شركات كبيرة مدرجة علناً والعديد منها تعمل خارج الحدود. ولكن لا يجب النظر إلى حجم وتعقيد هذه المؤسسات الحديثة كنتيجة تطور طبيعي من مؤسسة صغيرة الى مؤسسة كبيرة ومن مؤسسة محلية الى مؤسسة عالمية. فالشركة "خيال قانوني" (Legal Fiction) تم إنشاؤه في البداية من قبل الدولة لأهداف عامة.
أثرت مختلف السياقات والثقافات الوطنية بالإضافة الى التوقيت بتطور الشركة – شيء غير مندمج في النظرية الاقتصادية النموذجية للشركة. فعلى سبيل المثال، كانت بريطانيا الكبرى الوطن الرائد في الصناعة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومع ذلك كانت الأعمال الكبرى ميزة متأخرة وثابرت "الشركة العائلية" (Family Firm) التقليدية كجزء مركزي من الإنتاج الاقتصادي حتى القرن العشرين. وعلى النقيض من ذلك، كانت المؤسسات الكبرى المدعومة من الدولة ميزة رئيسية في البلدان الصناعية لاحقاً كالولايات المتحدة وألمانيا واليابان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
تاريخ الشركة الرأسمالية
ركزت الشركات المصنعة المنبثقة عن الثورة الصناعية في إنجلترا خلال أواخر القرن الثامن عشر على صناعة الغزل والنسيج. فزاد استعمال التقنيات الجديدة وتسخير قوة البخار الإنتاجية. وأصبح الإنتاج أقل اعتماداً على كثافة العمالة وأكثر اعتماداً على كثافة رأس المال. وحدثت نقطة تحول رئيسية عند تأسيس "الإنتاج الضخم في نظام المصنع" (Tann 1979, p. 247) عندما توصل رائد الأعمال ريتشارد آركرايت (Richard Arkwright) إلى اختراعات جديدة في المطاحن والمصانع مع تنظيم الإنتاج على أساس "التدفق المستمر" (Continous Flow). حذا العديد من الأشخاص حذو آركرايت. وتم بناء عدد أكبر من المطاحن والمصانع مع تطور المكننة من خلال الثورة الصناعية ومع تأمين أسواق العمل الإمدادات اللازمة من العمال. مما أسفر عن رجال أعمال أغنياء قاموا بدورهم ببناء عدد أكبر من المصانع والتي تطورت أحياناً لتصبح مؤسسات كبيرة جداً.
أضطلعت الشركات الصناعية الكبيرة بدورٍ محوريٍّ في كفاءة الاقتصادات الناشئة والإنتاجية الصناعية في كلّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا منذ بداية الثمانينات. فقد جذبت مداخيل وطنية متزايدة مع تفوّق الولايات المتحدة على بريطانيا بوصفها القائد العالمي للنمو الاقتصادي بحلول الحرب العالمية الأولى (Chandler, Amatori & Hikino 1997, p. 6). من جهة أخرى، تزامن صعود الشركات المساهمة الخاصة الكبيرة وخصوصاً في القطاعات الصناعية مع التغيرات التكنولوجية المهمّة في "الثورة الصناعية الثانية". وشكّل تقسيم العمل داخل الشركات وضغوطات المنافسة من الشركات الأخرى مصدرين للابتكار والتقدّم التكنولوجي.
بالإضافة إلى ذلك، سمحت القوة البخارية والكهرباء بحدوث موجات متكررة من الابتكار الصناعي، من حيث عمليات الإنتاج وكذلك من حيث نوع السلع المنتجة. وقد تمّ تحويل الصناعة القائمة لتتناغم مع الإبتكار الجديد في حين تمّ إنشاء صناعات جديدة على الأسس الإبتكارية الجديدة. وبما أن هذه الشركات الجديدة لم تكن تعتمد على العمالة بقدر أقلّ من شركات المرحلة الصناعية السابقة، فقد تطلّبت استثمارات كبيرة في رأس المال المادي. وقد تكامل الإنتاج المتزايد الذي نتج من ذلك مع وسائل مواصلات واتصالات محسّنة مثل السكك الحديدية والسفن البخارية وشبكات التلغراف. وهذا ما مكّن من توزيع كميات كبيرة من السلع. كما تطوّرت أنواع جديدة من الإدارة وتنظيم الأعمال لتنسيق هذه الأشكال الجديدة من الإنتاج (Chandler, Amatori & Hikino 1997, p. 8).
احتاجت الشركات للوصول إلى التمويل من أجل تحريك التجهيزات الرأسمالية والعمال والمدراء المطلوبين للإنتاج والتوزيع. أما أولئك الموجودون في الخطوط الأمامية من الابتكار والذين استطاعوا أن يجمعوا الموارد الضرورية، فقد تمتّعوا بفوائد مهمّة. وقد شكّلت قدرات الشركات على إنتاج كميّات كبيرة بأسعار أدنى، حاجزاً أمام الشركات الأخرى التي كانت تودّ دخول القطاع، وخفّضت بالتالي من التنافس. وكانت سيطرة إحدى الشركات على الأسواق، التي نتجت من اقتصادات الحجم الخاصة بها، تتعزز باستمرار عبر البحث عن طرق لتحسين إنتاجية التكنولوجيات الموجودة وتطوير تكنولوجيات مكمّلة جديدة (Chandler, Amatori & Hikino 1997, p. 13). وبالتالي فقد أصبحت الملكية عبر الصناعات مركّزة.
إنشاء الشركات المساهمة
في حين كان للتقدّم التكنولوجي أهمية في ازدياد حكم المؤسسات التجارية (Business Enterprises)، فإن "الكفاءة" المرتبطة باقتصادات الحجم لا تكفي لشرح صعود الشركات المساهمة الصناعية (Industrial Corporation) (Roy 1997, p. 9). فالشركة المساهمة هي شكل خاص من الأعمال مبنيّ ككيان قانوني منفصل عن أصحابها. وإن مثل هذه الشركات يمكن تأسيسها عبر إضافة "ش. م." لاسمها التجاري، وهي التي تشير إلى أن مسؤولية أصحاب الشركة- المالكين- "محدودة". بيد أن شركة التضامن هذه قد تم تأسيسها في بادئ الأمر لغايات عامة لا للربح الخاص. ويمكن إيجاد مثال مبكّر عن هذا الموضوع في شركة الهند الشرقية الإنجليزية التي تأسست بموجب مرسوم ملكي في العام 1600 وأدارت في النهاية الأعمال البريطانية في الهند لمدّة قرن من الزمن حتى الخمسينات من القرن التاسع عشر. في بداية القرن التاسع عشر، مُنِحَ امتياز المساهمة إلى الشركات التي تضطلع بمهمات حكومية خاصة مثل بناء الجسور أو سكك الحديد.
كان ثمة العديد من القيود المرتبطة بالمساهمة أعطت امتياز "المسؤولية المحدودة" (Limited Liability) وهذا يعني أن المستثمرين الخاصين يجازفون بالمال الذي استثمروه فحسب لأنهم لا يعتبرون مسؤولين عن أي أكلاف أخرى تتكبّدها الشركة التي يملكونها. ولكن، في سبعينات القرن التاسع عشر، امتدّ الشكل العام أو "شبه الحكومي" (Quasi-Government) للشركات إلى القطاع الخاص، وفي أواخر ثمانينات ذلك القرن، منحت محاكم الولايات المتحدة الشخصية المعنوية القانونية للشركات المساهمة وهذا ما سمح لها بالقيام بالأعمال وكأنها "فرد" عادي، إذ أصبح بإمكانها أن تملك الأصول وتجمع رأس المال وتستدين الأموال وتتعاقد وتبيع السندات المالية وتشتريها.
في بادئ الأمر، كان شكل المؤسسات الخاصة محصوراً بمناطق البنية التحتية الخاضعة لصلاحيات الحكومة. وكانت السندات المالية الصناعية قليلاً ما يتم تبادلها في سوق الأسهم. بالفعل، كان عالم المال قد بقي "متمايزاً مؤسسياً" (Institutionally Distinct) عن التصنيع بما أن نشاطاته كانت تركّز عامّة على إقراض المال للحكومات والاستثمار في سكك الحديد ووسائل الاتصال (Roy 1997, p. 4)، وقد كانت ملكية معظم الشركات الصناعية تميل إلى أن تكون شخصية ومحصورة بواحد أو أكثر من الأثرياء الذين كانوا قادرين على تمويل أنشطتهم الخاصّة. مثلاً، كانت شركة كارنيغي للحديد (Carnegie Steel Company)، وهي التي كانت تدير أكبر عمليات التصنيع في ذلك الوقت، شركة محدودة غير مساهمة تموّلها الأرباح الخاصة لأندرو كارنيغي (Andrew Carnegie) (Wall 1989).
ولكن، مع اتساع رقعة المساهمة وجميع الفوائد التي كانت تعود بها، ازداد عدد الشركات الصناعية المساهمة بسرعة منذ تسعينات القرن التاسع عشر. وقد بدأ "نظام مساهم جديد في التصنيع" (New Corporate Order In Manufacturing) مع ازدياد القيمة الإجمالية للسندات المالية الصناعية ثمانية أضعاف بين العامين 1898 و1903 (Roy 1997, p. 5). وقد غيّر التحوّل إلى شركات مساهمة الحقوق والواجبات المرتبطة بالملكية. فقد أصبح المدراء، لا حاملو الأسهم (المالكون)، صانعي القرارات الأساسيين، الذين يشرفون على النشاطات اليومية للعمل.
أمّنت سكك الحديد في الولايات المتحدة نموذجاً مهماً للشركات المساهمة الخاصة، بحيث أوضحت التغييرات المدفوعة بعوامل سياسية واقتصادية التي طالت بنية المؤسسة. وقد اضطلعت الدولة والحكومات المحليّة بدور كبير في تمويل شبكات سكك الحديد وتخطيطها، وتنظيم عملها ومن ثم إصدار التشريعات لتخصيصها بالشكل المساهم الجديد. وقد سمح هذا بتركيز الملكية وشكّل قاعدة لصعود الشركات المساهمة بوصفها الشكل السائد للشركات الرأسمالية (Roy 1997). بحلول ستينات القرن التاسع عشر، أذّن التخصيص الكامل لشبكات سكك الحديد الأميركية بتغيّر لا يستهان به في طبيعة الشركات. فقد أصبحت كيانات خاصة كبيرة الحجم تدرّ الأرباح ويتحمّل المستثمرون فيها المسؤولية بدلاً من الحكومات.
وفي المناطق الأخرى، كان أثر العوامل السياسية والثقافية واضحاً أيضاً في إنشاء الشركات. ففي ألمانيا، مثلاً، أنشئت العديد من الشركات "بحجم كبير" كجزء من عملية التصنيع المدعوم من الدولة. وقد تمّ إنشاء هذه الشركات أو تمويلها أو دعمها من الحكومات وفق نموذج "شركاتي" (Corporatist) من التعاون الاقتصادي الذي يعكس التنسيق الواضح بين الحكومات وشركات الأعمال الكبيرة، والنظام المصرفي القوي (Kesselman et al 2004, p. 171)2004. على نحوٍ مشابه، أبرزت عملية التنمية الصناعية في اليابان شركات كبيرة عٌرِفت باسم زايباتسو (Zaibatsu). كانت هذه الأخيرة عبارة عن تكتّلات مالية وصناعية شكّلت أساساً للاقتصاد الياباني منذ ستينات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. على المستوى الثقافي، كان المذهب الكونفوشيوسي مهماً لإنشاء علاقات تعاونية بين القطاع المالي والقطاع الصناعي وكذلك بين الأعمال والحكومة ((Wiarda 1997, p. 86).
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]