العلوم الإنسانية والإجتماعية

العائلة والتكاثر الاجتماعي في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

بعيداً عن النظرية الاقتصادية، يمكن أن تُفسّر الأسرة على  أنها من مجموعة العلاقات الاجتماعية الواسعة النطاق التي تشكل مجتمع السوق. ومن هنا، تأخذ الأسر على عاتقها مسؤولية التكاثر الاجتماعي (راجع (Laslett & Brenner 1998)). ويشمل ذلك التكاثر البيولوجي أيّ إنجاب الأطفال بالإضافة إلى مهامٍ أكثر تشعّباً مثل التنشئة الاجتماعية ورعاية الأطفال والمحافظة على الصحة الجسدية والعاطفية والعقلية لأفراد الأسرة. ويتضمّن ذلك أيضاً الإنتاج وتأمين المخصصات داخل الأسرة.

يُعتبر التكاثر الاجتماعي أمراً ضرورياً لتفعيل الاقتصاد ويلبّي الكثير من الاحتياجات لدينا ككائنات اجتماعية والتي لا يمكن تأمينها مباشرةً بواسطة إنتاج السوق. ويردُ هذا المنظور ضمناً في حجة بولانيي الذي يعتبر أنّ العمل هو "سلعة وهمية" (راجع الفصل الثاني) يتمّ إنتاجها خارج الأسواق، أيّ في المنازل ونظام التعليم. إلا أنّ المنازل تجسد أيضاً علاقات القوة التي تعكس تقسيم النوع الاجتماعي في مجال العمل.

وشرحت كارول باتمان (Carol Pateman) (1988) هذا الموضوع في إطار طرحها لمفهوم "العقد الجنسي" (Sexual Contract). وكونه يعكس مفهوم "العقد الاجتماعي" (Social Contract) الذي استخدمها لفلاسفة السياسيون في وقتٍ سابقٍ، أكّد "العقد الجنسي" لباتمان Pateman على ضرورة الفصل ما بين الإنتاج والإنجاب. وهذا ما سمح للرجال بالعمل كأفراد يتمتعون بالاستقلالية في السوق كون النساء كنّ يُؤمنّ الرعاية المنزلية اللازمة بهدف التكاثر الاجتماعي.

إلاّ أنّ الدراسة التي أجراها فريزر (Fraser) وغوردون (Gordon) عام 1994 حول "التبعية" (Dependence) أكدت أنّ التقسيم الاجتماعي المُعقّد للعمل في مجتمع السوق يخلق حالة من الترابط. وبالتالي، فإن الفصل ما بين الأسرة و"الاقتصاد" قد خلق شعوراً زائفاً من الاستقلالية عند الرجال. وحجبت هذه الدراسة عن المرأة حقّ الحصول على دخل مُقابل العمل في السوق لكي تمارس استقلاليتها الضرورية،  ما حرمها القدرة على الاكتفاء الذاتي. فليست مهمّة العائلة إنجاب الأطفال وحسب، بل ينبغي أن يتماشى ذلك مع القواعد والعلاقات التي يُقرُّها المجتمع والتي تشكّل بنية الاقتصاد على نطاقٍ أوسع.

تطوير العائلة في مجتمع السوق

لقد تغيّر تنظيم العمل المنزلي بشكل ملحوظ بعد زوال النظام الإقطاعي، حيث كانت الأسرة جزءاً ممتدّاً من العائلة الكبيرة. وفقا لفريدريتش إنغلز ( Friedrich Engels(1942[1884])، لقد تمّ تطوير الأسرة النواة الحديثة بين الرأسمالية و"البرجوازية" الناشئة كوسيلة لإدارة العلاقات الملكية. وضعَ الزواج بزوجة واحدة الأساس لتمرير الميراث للأطفال، فدائماً كان الزواج، بالنسبة للطبقة المتوسطة، متعلقاً إلى حدّ ما بالخوف على العقارات بدلاً من الحب. وأضاف أنّ الطبقة العاملة المحدودة الممتلكات كان يمكن أن تتزوج من أجل الحب وحسب.

وناقش فيبر (1978[1922]) أيضاً العلاقة ما بين الأسرة والرأسمالية. إذ أشار إلى أن ّبنية الأسرة وقانون الملكية الخاصة، فضلاً عن القيم الثقافية البروتستانتية، قد ساهمت معاً في تطور الرأسمالية. ولكن وفقاً لانغلز، فإن ثقافة وخبرة العائلات كانت تختلف بحسب النوع الجندري والطبقة الاجتماعية. وقد تم استخدام حالة "البطالة" عند نساء الطبقة المتوسطة كإشارة تحدّد وضع العائلة (Phillips 1987,p. 34)، في حين كان تقسيم العمل بين الجنسين في البداية أقل وضوحاً بين العمال.

عملت النساء والأطفال جنباً إلى جنب مع الرجال في المصانع لكسب دخل كافٍ للأسرة لشراء السلع التي يحتاجون إليها من أجل البقاء على قيد الحياة. ومع ذلك، تغير هذا الواقع مع قانون المصانع (Factory Acts) (راجع الفصل الثاني) الذي حظّر جميع أشكال العمالة لدى الأطفال، وفرض قيود على عمل المرأة لقاء راتب. وبعد ذلك، دعمت القوانين والمؤسسات الاقتصادية الأسرة النواة الناشئة مع أجور مختلفة للرجال والنساء وهو ما يعكس توقعات اجتماعية مفادها أنّه مطلوبٌ من الرجال إعالة عائلاتهم. وكانت هناك قيود قانونية، صعّبت على المرأة دخول حقل العمل متى تزوجت. إذ أنّ تنظيم أوقات العمل كان يحتّم تأمين مربية أطفال منزلية لرعايتهم، مع توفير مرافق رعاية الأطفال. وظلّ ذلك يقتصر على خدمات مربية الأطفال المُستخدمة من قبل الأسر الميسورة. وشكّل التعليم وسيلة للفصل بين الجنسين إذ كان يتمّ إعداد الفتيان للعمالة المدفوعة الأجر والفتيات للعمل المنزلي. وصعّبت قوانين الطلاق على المرأة الانفصال عن زوجها، ولاحقاً، تم تخصيص مدفوعات الرعاية الاجتماعية للأسر التي يعمل فيها الرجل بدوام كامل فيما المرأة تؤمن الرعاية المنزلية.

لقد عززت هذه الهياكل الاقتصادية " المعايير الجندرية " (Gender Norms) التي وبحسب الباحثات، تشجّع الرجال والنساء على القيام بأدوار مختلفة. وفي حين أنّ "النوع الجنسي" يرتبط بالناحية البيولوجية إلا أنّ النوع الجندري هو فئة اجتماعية ترتبط بطريقة المجتمع في تثمين أو مكافأة أو فرض العقاب على بعض الأنشطة والسلوكيات. وفي سياق تحديد النوع الجندري، يُشير عالم الاجتماع "ر. و. كونيل" (RW Connell) (2002, p. 10) إلى أنّ "هيكل العلاقات الاجتماعية هو الذي يُحدّد نسبة الإنجاب ومجموعة الممارسات (التي يحكمها هذا الهيكل) التي تخلق تمييزاً جندرياً داخل العمليات الاجتماعية".

يُنظر إلى المعايير الجندرية على أنها سُبل "مفروغ منها" (Taken For Granted) لفهم الأهمية الاجتماعية للجنس البيولوجي – "ربة البيت" أو "المُعيل"، على سبيل المثال. ومن هنا تُفيد الخبيرة الاقتصادية نانسي فولبر (Nancy Folbre) (1994، ص 54) بأن القوانين الجندرية بوصفها "هيكلاً من القيود"، تعرّف معنى "الخيار" وتفرض عقوبات على"عدم الامتثال". وهذا ما يؤثر على النساء والرجال. وأشارت كونيل (Connell) (2002، ص 6)، إلى أنّ الرجال يستفيدون بالإجمال من عدم المساواة بين الجنسين، إلاّ أنهم لا يستفيدون جميعهم بنفس القدر".

ومع ذلك، يمكن للمعايير الجندرية أن تتغيّر وهي تتغيّر بالفعل. ففي خلال الحرب العالمية الثانية شجعت الحكومات المرأة على الانخراط في القوى العاملة المدفوعة الأجر لكي تحتلّ مكان الرجل الذي كان عليه الانضمام إلى القوات المسلحة. وقد دعمت المجلات النسائية هذه الخطوة وكانت تنشر على صفحاتها كيفية تحضير الوجبات السريعة والسهلة للنساء اللواتي كنّ يزاولن العمل في الخارج ويهتممن في الأمور المنزلية. وفي نهاية الحرب، عادت الحكومات وشجعت المرأة على البقاء في المنزل للاستعداد لعودة الجنود من المعارك، ممّا خلق ثقافة من شأنها تمجيد "ربة المنزل" (Home Maker) ( Honey1995؛  Kossoudji & Dresser1992).

 وتبقى الهياكل الأسرية والمعايير الجندرية معرّضة لتغيرات مستمرّة مع مرور الوقت ومن بلد إلى آخر. ففي بعض الثقافات الآسيوية، هناك تقليد سائد يعود إلى الأجيال القديمة، يقضي بتربية الأطفال في حين أن كلّ من الأمهات والآباء يزاولون العمل خارج المنزل لقاء راتبٍ مدفوع (Maurer 2009 – Fazio et al). وفي الغرب، نشأت مؤسسات قانونية واقتصادية جديدة بالترافق مع زيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة. وقد أصبحت قوانين الطلاق أكثر مرونةً، وتمّت زيادة أجر المرأة وأُدخلت تعديلات جديدة على تدابير الرعاية مثل الإجازة الوالدية المدفوعة ورعاية الأطفال في معظم البلدان المتقدمة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من التغير الاقتصادي والقانوني، بقيت هناك فجوة بين الجنسين في مجال الأجور إذ لا تزال "المهن التي تزاولها المرأة" زهيدة الأجر وترتكز على الدوام الجزئي والوظائف العادية. وبقيت المرأة مسؤولة عن الجزء الأكبر من أعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر، وبذلك يبدو وكأن "الفقر له طابع أنثوي" (Feminisation Of Poverty). ففي كثير من الأحيان، تقيّد مسؤوليات الرعاية حصول المرأة على دخلٍ مما يتركها عرضةً للفقر لأنها تحاول تحقيق التوازن بين الرعاية غير المدفوعة الأجر لأسرتها والعمل بأجر محدود ( Northrop 1990؛ Chant 2008).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى