العمل، والاستهلاك وجودة الحياة في مجتمع السوق النابض بالحياة
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
يختبر معظمنا الاقتصاد بشكلٍ مباشر بصفتنا عمالاً ومستهلكين. والعمل المأجور أساسي بالنسبة إلى مجتمع السوق، فهو يعطينا معنى، ويوفر لنا دخلاً ويعزز تقسيم العمل مما يساعد في تحقيق النمو. دفع ذلك الكثيرين إلى اعتبار الاقتصادات الحديثة "مجتمعات عمل" (Work Societies)، في حين دفعت تغيرات أحدث في طبيعة العمل آخرين إلى القول إنّ النزعة الاستهلاكية تسيطر على حياتنا. فندرس في هذا الجزء تطوّر نموذج الإنتاج الشامل المتمثل في الفوردية (Fordism) وما تلاه من ترتيبات عمل أكثر مرونة وتنوعاً وخطورة. كذلك، نبحث في العلاقة بين العمل والتسلية والاستهلاك والدور المتنامي الذي تؤديه النزعة الاستهلاكية في حياتنا. وأخيراً، ندرس ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى جودة حياتنا.
العمل والمجتمع
رأى الكثيرون من أوائل واضعي النظريات المرتبطة بالرأسمالية أنّ طبيعة العمل حددت النظام الاقتصادي الجديد. لكنّ المسألة الهامة هي كيف تُحدد التغيرات في عالم العمل شكل الاقتصاد والحياة اليومية.
أهمية العمل
كان إميل دوركهايم (Emile Durkheim) (1984 – [1893]) أحد أبرز واضعي النظريات المرتبطة بالتقسيم الجديد للعمل، قد درس الطريقة التي يغيّر فيها التخصص في العمل العمليات الاجتماعية، فضلاً عن طريقة الأفراد في إيجاد موقعهم ضمن النظام الاجتماعي. ورأى أنّ الإقطاعية انطوت على تفريق بسيط في الأدوار الاقتصادية التي أدّاها الناس. في حين ظهرت اختلافات بين مالكي الأراضي والفلاحين، وبين الرجال والنساء، واقتضت الاقطاعية بالنسبة إلى معظم الناس تقسيماً بسيطاً للعمل. ولّد ذلك ما أسماه دوركهايم التضامن الميكانيكي. شعر الناس بحس هوية مشتركة استناداً إلى تجربتهم المشتركة في القيام بمهام مشابهة والتعهد بالتزامات اجتماعية قوية. وقد كانت هوية المرء على ارتباط وثيق بالمجموعة مع مساحة صغيرة للفردية.
في المقابل، يتميز مجتمع السوق بتفريق أكبر بكثير في المهام. فقد باتت الوظائف أكثر تخصصاً وقد ولّد ذلك تقسيماً منظماً للعمل. رأى دوركهايم أنّ ذلك أنتج شكلاً مختلفاً من التضامن – تضامن عضوي (organic Solidarity). ينبثق احساسنا بالهوية المشتركة الآن من الاعتراف بأهمية جميع الأدوار المختلفة التي يؤديها الناس في المجتمع. وباتت الروابط الاجتماعية تستند أكثر فأكثر إلى علاقات العمل عوضاً عن العلاقات العائلية، وحياتنا يحكمها القانون عوضاً عن القواعد الدينية أو الروابط العائلية. إذ يتماشى ذلك مع مبدأ الوظيفية البنيوية الذي يتبناه دوركهايم، باعتبار أنّ التقسيم المعقّد للعمل يضمن أن يؤدي كل شخصٍ دوراً في تأمين الأداء السليم للمجتمع ككل.
صبّت شخصية بارزة أخرى في علم الاجتماع، ماكس فيبر، اهتماماً أكبر على فهم الناس لعملهم. يتماشى ذلك مع مبادئه في علم الاجتماع التفسيري الذي يركّز على كيفية جعل الناس يستمدون معنى من وضعهم الخاص. ورأى أننا نستطيع أن نفهم بشكلٍ أفضل سير الأمور في المجتمع من خلال فهم تصرفات الناس (استناداً إلى أسبابهم الخاصة).
ورأى فيبر (2002 – [1905]) أنّ جزءاً كبيراً من نشوء مجتمع السوق تمثّل في تغيير في طريقة فهم الناس للعمل. انطوى العمل أكثر فأكثر على حس بالمهنة حيث تم تحديد الناس مع نوع العمل الذي يقومون به وهذا ما حفّزهم على أن يسعوا جاهدين للقيام بعملهم على أكمل وجه. ادّعى فيبر أنّ ذلك عكس نشوء "أخلاقيات عمل بروتستانتية" تستند إلى قيم الرصانة وضبط النفس. وأسهم ذلك في ثقافة ادخار، حيث ادّخر الناس أموالهم واستثمروها مجدداً في توسيع أعمالهم، عوضاً عن إنفاق أموالهم على الاستهلاك التفاخري.
كذلك درس فيبر (1978 – [1922]) كيف عكس تطور العمل عملية الترشيد الأوسع نطاقاً. وكما رأينا، اعتبر فيبر العقلانية عنصراً أساسياً للرأسمالية، إذ إنّ الناس اعتمدوا أكثر فأكثر منطق الحساب العقلاني لاتخاذ القرارات. وادعى أنّ أحد العناصر في هذه العملية هو توسع البيروقراطية. وبالنسبة إلى فيبر، عبّرت البيروقراطية عن منطق العقلانية من خلال الحرص على إنجاز العمل وفقاً لقواعد موضوعية وغير شخصية، لا وفقا لنزوات المسؤولين.
لم يكن ذلك إيجابياً وحسب لأنه برأي فيبر أنّ البيروقراطية زادت الكفاءة من خلال جعل المجتمع أكثر انتظاماً، لكنه كان أيضاً عديم الإنسانية، وهذا ما شكّل ما أسماه "القفص الحديدي" (Iron Cage). البيروقراطية الآن جزء من معظم حياتنا اليومية، من تسديد فواتير الهاتف إلى الالتحاق بالجامعة. إنّها تنظّم العمليات الداخلية في الكثير من المنظمات والمؤسسات الحكومية (الفصلان 5 و7).
في هذا السياق، اعترف آدم سميث بوجود اتجاهات متناقضة ضمن الرأسمالية. فيما استحسن سميث (1904 [1776]) تقسيم العمل الذي دفع قدماً بعجلة النمو الاقتصادي، وساهم التخصص في جعل الكثير من الوظائف متكررة ومملة، مما جعل دور العمال ينحصر بتأدية أدوار آلية. وأنتج ذلك ثروة أكبر للتمتع بها من خلال الاستهلاك، لكنه لم يشجّع كثيراً على حياة عاملة.
يقدّم كارل ماركس وجهة نظر ناقدة أكثر. فبالنسبة إلى ماركس (1959 – [1844]) قدرتنا على استعمال عقولنا وأجسادنا لتغيير العالم ورسمه على صورة تخيلاتنا جزء مهم من إنسانيتنا، أو "كينونتنا كجنس بشري". وبالتالي، اعتبر العمل ميزة تحدد الانسانية. لكن ادعى أنّه، في الرأسمالية، هذه القدرة قوّضها منطق العمل المأجور.
علّل ماركس (1959 – [1844]) أنّ الرأسمالية أنتجت "بعداً". والمقصود بالعمل المأجور أنّ العمال ما كانوا حقيقة يتحكمون بعملهم بل كانوا يتلقون التوجيهات من المالكين والمدراء. فضلاً عن ذلك، ما كان العمال يراقبون أو حتى على علاقة غالباً بالمنتج النهائي لعملهم. وهذا ما جعل العمال منفصلين ومنبوذين.
ينعكس تركيز ماركس على التحكم بالعمال في النقاشات المعاصرة التي تتناول الاستقلالية، أو قدرة العمال على تفحص عملهم، وإصدار أحكام بشأن المهام التي ينبغي القيام بها، وكيفية إنجازها وحتى ما ستكون عليه أهداف العمل النهائية. هذه ميزة أساسية في نقاشات ما بعد الحقبة الفوردية، مع وجهات نظر مختلفة بشأن كيفية تأثير التغييرات في العمل على استقلالية العمال (يُناقش ذلك لاحقاً في هذا الفصل). ويجادل البعض أنّ العمل المأجور يزرع حساً بالمسؤولية. على سبيل المثال، تصف ليسلي تشانغ (Leslie Chang) (2008) الحرية التي تكتسبها الشابات في المصانع اليابانية بعيداً عن عائلاتهنّ.
بالنسبة إلى الكثير من علماء الاجتماع، في ذلك الوقت، العمل أكثر من مجرد مساهمة في الإنتاج؛ فهو جزء أساسي من الهوية ومن تجربتنا. إنّه يرسم هويتنا ويشكّل جزءاً كبيراً من حياتنا اليومية. فالأجر جزء مهم من العمل وهذا ينطبق أيضاً على الإحساس بالمهنة والاستقلالية في العمل. ولأنّ العمل رئيسي لتجربتنا في مجتمع السوق، رأى الكثير من علماء الاجتماع أنّنا نعيش في "مجتمعات عمل" (Beck 2000).
مجتمع العمل
عنى نشوء العمل المأجور أنّ نوع العمل الذي أنجزه الناس أصبح رئيسياً لهويتهم، ودخلهم وموقعهم في الهرمية الاجتماعية. دفعت الضغوطات الجديدة لتنافسية السوق العمال إلى ترشيد العمل. فعلى سبيل المثال، أصبح معظم العمل المأجور موحداً وممكنناً. وهذا ما حدّ من الحاجة إلى مهارات حرفية متخصصة، وجعل المهام التي تنضوي عليها عملية الإنتاج بسيطة نسبياً ومتكررة كي يتمكن معظم العمال من القيام بها مع القليل من التدريب. ويشير هاري برافيرمان (Harry Braverman)(1975) إلى ذلك بصفته "استغناءً عن القوة العاملة الماهرة" في العمل.
كذلك، نظّم العمل المأجور الوقت، فقد بدّل كيفية تنظيم الأُسَر لأوقاتها. بات الآن الوقت الذي يأكل فيه الناس الوجبات ويختلطون بالعائلة رهناً بساعات العمل في المصنع. وتحوّل الروتين الجديد للحياة اليومية فيما أصبح مكان العمل منفصلاً عن العائلة.
فيما غادر الفلاحون أراضيهم أو باتوا عاجزين عن الوصول إليها، انتقلوا إلى حيث يمكنهم إيجاد عمل مأجور. وأطلق ذلك عملية تمدّن، حيث نزح الناس من الجبال إلى المدن. وحديثاً، تجاوز عدد سكان المدن في العالم عدد سكان الأرياف فيما تستمر عملية التمدن في كافة أنحاء دول الجنوب (الأمم المتحدة 2008). ففي بعض المدن، تجاوز عدد النازحين إلى حد كبير فرص العمل المتاحة، مما شكّل "أحياء فقيرة كبرى"، حيث يجد الناس أساليب مبتكرة، وخطيرة غالباً، للبقاء على قيد الحياة (Davis 2006).
تترتب عن التغييرات في طبيعة العمل انعكاسات على التعليم. ففي مجتمعات الفلاحين، اقتصر التعليم الرسمي على الأثرياء. وبالنسبة إلى معظم الناس الآخرين، كانوا يتلقون العلم بشكلٍ أساسي في المنزل، حيث كان الأولاد يتآلفون مع أدوارهم المستقبلية في العائلة. وفي بداية مرحلة الرأسمالية، دُفِعَ الأولاد إلى العمل المأجور ما أثار مخاوف على صحتهم ورفاهيتهم، وأدى في النهاية إلى حظر عمالة الأولاد (انظر الفصل 2). تصادف ذلك مع بروز التعليم الرسمي الإلزامي للأولاد. فحصلوا على التعليم خارج إطار الأسرة ونالوا مهارات تخولهم المشاركة في عالم العمل المأجور الجديد، ما مثّل ترشيداً للتعليم والتدريب.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]