المدوّنات والمعايير
2014 أبجدية مهندس
هنري بيتروسكي
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
المدوّنات والمعايير (Codes And Standards). إنّ مدونات البناء هي أساساً قوانين أو تشريعات محلية تحكم البناء ضمن حدود إدارية. وغالباً ما قيل إن أول "مدونة بناء" كانت تشريع حمورابي (Hammurabi)، والتي وُضعت منذ نحو أربعة آلاف سنة، تجعل البنائين البابليين مسؤولين عن البيوت التي يبنونها. كان هذا التشريع قاسياً، فهو يقول مثلاً إنه إذا انهار البيت وقتل صاحبه فعقوبة الباني هي الموت أيضاً. ولكن تشريع حمورابي هو في الواقع تشريع أخلاقي أكثر منه تشريع للبناء بالمعنى الهندسي، لأنه عقابي أكثر منه تصوّري عن حدود الحمل ومقاييس كميّة تهدف إلى تجنب الانهيار.
المعيار هو اتفاق بخصوص مزاولة التصميم، أو الإجراء، أو المواصفة، لصناعة ما أو مهنة ما. وتطوير المعايير يشير عموماً إلى علامة المهنية التي تبذل فيها لجنة متطوّعة جهوداً لصياغة معايير مقبولة على نطاق واسع. وتتضمّن المعايير أحكام مهندسين ذوي خبرة وخصوصاً بتصميم الإنشاءات والآلات ومصنوعات أخرى، يعتمد الناس العاديون على أمانها وموثوقيتها. ومعايير الخبرة، التي تسمّى أيضاً مدونات أو قواعد، تهدف إلى تعريف ما تعتبره مهنة ما في وقت اعتمادها أفضل ممارسات التصميم ونشرها.
قصة وأصول تطوير مدوّنة المرجل وأوعية الضغط، الصادرة عن الجمعية الأميركية للهمندسين الميكانيكيين، هي مثال على هذه العملية. تعود خلفية هذه القصة إلى القرن التاسع عشر، عندما عانت القوارب البخارية من انفجارات المراجل، لأنها وإلى حدٍّ كبير كانت مصنّعة بلا مهنية وتُشغّل على نحو غير صحيح. جرى طلب وضع تشريع فيدرالي ينظّم المراجل البخارية في عام 1824. وفي مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر حصل معهد فرانكلن (Franklin Institute) في فيلادلفيا على منحة مالية فيدرالية لتطوير برنامج اختبار استخدمت نتائجه كأساس لتشريع عام 1838 يطلب عمليات مراقبة مستقلة للمراجل. ولكن بسبب النقص في روائز التفتيش المعياري بقي القانون بلا فاعلية، وبقيت المراجل تعاني من الانفجارات. وفي النهاية أُنشئت وكالة ناظمة عام 1852 أدّت إلى تراجع في عدد موتى انفجارات مراجل القوارب البخارية. انظر بهذا الخصوص: John G. Burke, "Bursting Boilers and the Federal Power," Technology and Culture, April 1966, pp. 1-23.
أما المراجل الثابتة المستخدمة في المصانع، فقد بقيت مع هذا غير خاضعة للتنظيم. ولكن حادث انفجار مرجل في غرفة محرك في هارتفورد (Hartford)، في ولاية كونكتيكت، عام 1854 قاد مجموعة من رجال الأعمال إلى تنظيم نادٍ، أسموه بوليتكنيك كلوب (Polytechnic Club)، خُصّص للدراسة العقلانية لخواص البخار وأسباب انفجار المراجل، الذي كانت الحكمة الشائعة تعيده إلى إرادة الله، أو لشياطين المراجل والكيمياء الخيالية. وخلصُت مجموعة الدراسة العقلانية إلى أن المراجل تنفجر عندما يزيد ضغط البخار على قدرة المرجل على الاحتمال: وهي حالة يمكن السيطرة عليها. وضاعف البوليتكنيك كلوب جهوده بعد انفجار عام 1865 لمرجل على قارب، اسمه سلطانا (Sultana)، وهو قارب بخاري من قوارب نهر المسيسيبي يحمل جنود الاتحاد المحرّرين بعد استسلام الكونفيدرالية في أبوماتكس (Appomattox). قُدّر عدد القتلى في هذا الانفجار بنحو 1500 وهي أسوأ كارثة بحرية في أميركا حتى ذلك الحين.
على إثر كارثة سلطانا، أسّس بعض أفراد البوليتكنيك كلوب شركة ضمان ومراقبة المرجل البخاري في هارتفورد، التي أُعلِنتْ شركةً رسميةً عام 1866. عملت الشركة على تقديم نصيحة خبرة للمصنعين بخصوص خيار مواد المراجل التي كان سيُؤمّن عليها وتصميمها وتصنيعها وتركيبها. واعتُمد تدقيق هارتفورد من قِبل سلطات البلديات والولاية باعتباره شهادة أمان للمراجل، وهكذا تناقص حدوث الانفجارات تناقصاً كبيراً، على الأقلّ في الأماكن التي جرت فيها التدقيقات على نحو مقبول.
لكن الانفجارات استمرّت في أماكن أخرى، وفي عام 1880 التقى عدد من المهندسين وألّفوا الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين، وهي مجموعة أُسّست لوضع معايير "دقيقة علمياً" لأسنان البراغي والعزق والإجراءات الخاصة باختبار قوة شدّ الحديد والفولاذ. وقد وضع نهج ممارسة بخصوص الغرض الأخير مع حلول عام 1884، ما مهّد الطريق لمدوّنة شاملة للمراجل. لم يأت هذا العمل من مجموعات حكومية، ولم يحدث ذلك قبل مطلع القرن العشرين، مع حصول بعض الانفجارات الكارثية، عندما أصبح الجو السياسي مناسباً للجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين لبذل مزيد من الجهود وإنجاز مدوّنة المرجل. كان لا بدّ من إصدار المدوّنة من مهنة الهندسة، بدلاً من أن يكون ذلك من طريق إحدى الجهات الحكومية، التي بدأت بتمرير قوانين مبعثرة بوسائلها الخاصة. وأقرّت أول مدونة للمراجل صادرة عن الجمعية الأميركية للمهندسين الأميركيين عام 1915، التي كانت قد طورت لتشمل الوسائل الرئيسية الضامنة لأمان كل أنواع المراجل وأوعية الضغط، بما في ذلك أوعية المفاعلات النووية. وفي كتاب: Wilbur Cross, The Code: An Authorized History of the ASME Boiler and Pressure Vessel Code (New York: American Society of Mechanical Engineers, 1990). وتوجد الإعلانات والتطورات الجارية حالياً بخصوص المعيار، وكذلك التساؤلات والتفسيرات الخاصة بالمعيار في كل عدد من مجلة ASME الشهرية Mechanical Engineering.
بدأت المعايير الهندسية بالازدهار في مطلع القرن العشرين، وفي عام 1916 أنشأت الجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين والجمعية الأميركية لمهندسي التعدين والمعهد الأميركي لمهندسي الكهرباء والجمعية الأميركية لاختبار المواد مجتمعة اللجنة المشتركة الخاصة بتنظيم لجنة معايير المهندسين الأميركيين، لتنسيق جهود كتابة المعايير.
أنشئت لجنة المعايير الهندسية الأميركية عام 1918، وضمّت في عضويتها هيئات حكومية وصناعية ملتزمة ومهتمة بإيجاد المعايير. وفي عام 1928 اعتُرف بلجنة المعايير الهندسية الأميركية باعتبارها جمعية المعايير الأميركية، التي سمحت بمشاركة مجموعات مثل جمعيات المهن والتجارة، وانضمت هذه الجمعية إلى جمعية المعايير الدولية. واعترف بها عام 1966 باعتبارها معهد معايير الولايات المتحدة (the USA Standards Institute: USASI)، والذي أعيد تسميته عام 1970 ليصبح معهد المعايير الوطنية الأميركية (American National Standards Institute: ANSI). وهو ينسّق نظام معايير إجماع الرأي الطوعي في الولايات المتحدة الأميركية ويقرّ المعايير الوطنية الأميركية ويتأكد من اتساقها. وينسّق مكتب في بروكسل (Brussels) الجهود مع هيئات المعايير الدولية، ويمثل مصالح الولايات المتحدة في الخارج. يمكن للشركات الوطنية والعالمية أو تكون أعضاء في معهد المعايير الوطنية الأميركية وكذلك الوكالات الحكومية والمعاهد والمنظمات المهنية والتقنية والتجارية والعمالية والاستهلاكية.
يعود تاريخ الجمعية الأميركية للاختبار والمواد لعام 1898، عندما كانت معروفة باسم الجمعية الأميركية لاختبار المواد (The American Society for Testing Materials: ASTM). لهذه الجمعية هدف "تطوير معايير إجماع طوعية خاصة بالمواد والمنتجات والنظم الخدمات". وتضمّ هذه الجمعية "واحداً من أكبر أنظمة الإدارة لتطوير وثائق المعايير المستخدمة في العالم". وكتابها السنوي للمعايير يمكن أن يكون أكبر مُنتج ملموس لهذه المنظمة.
هوجمت العملية التي بموجبها تقوم المنظمات المهنية بوضع المعايير والقوانين بعد الدعوى التي عرفت بدعوى هايدروليفل (Hydrolevel). وكانت هذه الدعوى القانونية بين شركة هايدروليفل التي تصنع أجهزة تأشير تغذية المراجل بالمياه والجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين. كانت الدعوى حول مسؤولية لجنة صياغة المعيار. بدأت القضية مع تحرير رسالة مشتركة بين نائب رئيس شركة مراقبة وتأمين المرجل البخاري في هارتفورد ونائب رئيس شركة ماكدونيل وميلر (McDonnell & Miller) للبحث، وهي شركة فرعية من شركة إنترناشونال تليفون وتلغراف (International Telephone & Telegraph) التي سيطرت على السوق الأميركية لأدوات التحكّم في أمان مراجل التسخين. هدفت الرسالة إلى تفسير مدونة الجمعية الأميركية للمهندسين الأميركيين للمراجل وأوعية الضغط بما يخصّ أجهزة تأشير تغذية المراجل بالمياه. وكان هذان الشخصان اللذان حررا الرسالة في الوقت نفسه أيضاً رئيس ونائب رئيس اللجنة الفرعية لجمعية المهندسين الميكانيكيين الخاصة بمراجل التسخين، وحرّر الرئيس جواباً على رسالة التحقيق. وادُّعي بأن نتيجة التفسير قد استخدمت من قبل باعة شركة ماكدونيل وميلر للاستخفاف بمنتج هايدروليفل. وعندما احتجت هايدروليفل لدى الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين، جاءها رد غير لائق من قِبل اللجنة الفرعية نفسها التي كان يرأسها وقتها المدير التنفيذي لشركة ماكدونيل وميلر. وادعت هايدروليفل على الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين وشركة هارتفورد وشركة إنترناشونال تليفون وتلغراف. تصالح الأخيران مع هايدروليفل خارج المحكمة عام 1978، أما الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين فقد أنكرت التهم الموجهة إليها بالتآمر ضد هايدروليفل بما يخالف قوانين منع الاحتكار الفيدرالية. وفي عام 1979 حكمت المحكمة الفيدرالية على الجمعية بغرامة قدرها 7.5 مليون دولار. واستؤنفت الدعوى في المحكمة العليا التي حكمت ضد الجمعية في عام 1982. وأصبحت هذه الدعوى حاسمة في مسؤولية الجمعية المهنية عن تصرّفات لجانها. انظر: Nancy Rueth, “Ethics and The Boiler Code: A Case Study,” Mechanical Engineering, June 1975, pp. 34-36.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]