النظام الطبقي وعدم المساواة
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
في مجتمعات السوق، يتمتّع من يملكون أصولاً تجارية كثيرة (رأسمال) بمتوسّط دخل أعلى من الذين يستمدّون معظم مدخولهم من الأجور. وغالباً ما يكسب الأشخاص الذين أتمّوا مستويات أعلى من التعليم النظامي أكثر من الذين لم يتمّوا تعليمهم. ومع أنّ النظام الرأسمالي يسمح للأشخاص بالارتقاء (أو الانحدار) في الهرمية الاقتصادية، إلّا أنّ الذين يحظون بالتوزيع الأقلّ عدالة للمداخيل في أوساط اقتصادات السوق المتقدّمة، يستفيدون من أدنى مستويات الحركية الاجتماعية (Andrews & Leigh, 2009). معنى ذلك أنّ السماح للأسواق بتوزيع المداخيل على نحو غير متساوٍ قد ينطوي على فوائد وعلى أضرار. وفي حين تركّز المقاربة الكلاسيكية الجديدة لعدم المساواة على الأفراد وعلى المداخيل التي يحصلون عليها من السوق، ينصبّ تركيز غيرها من التقاليد النظرية على عدم المساواة بين الفئات الاجتماعية المختلفة. أمّا تاريخياً، فقد ظهرت لغة "طبقات" (Class)جديدة لشرح التباينات النمطية البارزة في التوزيع غير المتساوي لموارد المجتمع.
التنظير في النظام الطبقي
شكّل النظام الطبقي سمة بارزة من سمات عمل علماء الاقتصاد السياسي الأوائل من مثل آدم سميث ودايفد ريكاردو وجون ستيوارت ميل. استند هؤلاء في فهمهم لعمل الاقتصاد الرأسمالي إلى التفاعلات بين ثلاث "طبقات" أو "فئات مؤسسة"(Constituent Order) مختلفة، وكان تحديد كلّ طبقة يتمّ بحسب دورها في عملية الإنتاج الناجمة عن الموارد الخاضعة لسيطرتها. فكانت طبقة الرأسماليين تملك وسائل الإنتاج وتحصل على مدخول في شكل أرباح (أو فوائد في حالة إقراض الأموال للاستثمار). وكانت الطبقات العاملة التي تؤدّي العمل المرتبط بإنتاج السلع تتلقّى الأجور. أمّا ملّاك الأراضي فكانوا يحصلون على الإيجارات لقاء استخدام الحيّز المادي (الأرض والمباني) الذي كان يتمّ فيه الإنتاج.
تجدر الإشارة إلى أنّ أهميّة النظام الطبقي بالنسبة إلى علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكيين كانت تُعزى إلى سببين، أوّلهما أنّ تغيّر مستويات دخل الطبقات المختلفة كان يعكس تغيّر رصيد الأموال المتاحة للأنشطة الاقتصادية كالاستهلاك والاستثمار في توسيع القدرة الإنتاجية. أي أن مستويات الأجور والأرباح والإيجارات كانت لها انعكاسات على النمو الاقتصادي ورفاهية المجتمع. أمّا السبب الثاني فهو أنّ كلّ طبقة كانت تتلقّى شكلاً مختلفاً من أشكال الدخل، وبالتالي فقد كانت مصالحها مختلفة. وفي هذا الإطار، كانت مصلحة ملّاك الأراضي تكمن في رفع مستوى الإيجارات، وذلك على حساب الأرباح. وكانت مصلحة الرأسماليين تكمن في زيادة أرباحهم، وإحدى الطرق لتحقيق ذلك هي عبر خفض الأجور. أمّا العمّال فكان من مصلحتهم المحافظة على أجورهم، أو زيادتها، علماً بأنّها غالباً ما كانت عند مستوى الكفاف طوال الفترة الكلاسيكية.
كان آدم سميث (1904 [1776]) يعتبر أنّ المصالح المختلفة لكلّ طبقة يفترض أن تدفع بأعضاء الطبقة ذاتها إلى توحيد جهودهم، أو "الاتّحاد"(Combine) ، إمّا للحصول على معاملة تمييزية من الحكومة أو لفرض مصالحهم على أعضاء طبقة أخرى. على سبيل المثال، وبحسب ريكاردو، كان ملّاك الأراضي يستفيدون من "قوانين الغلال"(Corn Laws) التي كانت تفرض تعرفة (ضريبة) على الأغذية المستوردة إلى بريطانيا. حيث رفع ذلك من الإيجارات المسدّدة إلى ملّاك الأراضي المحليين، مقلّصاً في الوقت عينه أرباح الرأسماليين الذين توجّب عليهم دفع أجور أكبر إلى العمّال حتّى يتمكّنوا من تغطية تكاليف الغذاء المتزايدة. وتجدر الإشارة إلى أنّ كارل ماركس تعمّق أكثر في موضوع "الصراع"، وقد اشتهر باستخدام مفهوم النظام الطبقي لتحليل التباينات المنهجية التي تنطوي عليها الرأسمالية الصناعية.
النظام الطبقي من المنظور الماركسي
استخدم ماركس مفهوم النظام الطبقي لشرح هيكل التنظيم الاقتصادي وتطوّره في الأنظمة الاجتماعية المختلفة. فالمجتمعات العبودية والإقطاعية والرأسمالية جميعها كانت تعكس علاقات اجتماعية محدّدة تنتظم حولها العملية الاقتصادية. في كلّ من تلك الأنظمة، بحسب ماركس، كانت إحدى الطبقات تنتج الفائض الاقتصادي اللازم لإعادة الإنتاج الاجتماعي، ولكن طبقة أخرى كانت تستولي عليه. أدّى ذلك إلى خلق التوتّر والصراعات التي أدّت في نهاية المطاف إلى التغيير الاجتماعي. في هذا السياق، يكاد يخلو الإقرار بالظلم الذي تنطوي عليه المجتمعات الإقطاعية والعبودية من الجدل، إلّا أنّ الاسترقاق الذي كان في تلك المجتمعات ليس واضحاً في النظام الرأسمالي حيث تحظى حرية الأشخاص والمساواة في وضعهم القانوني بالحماية القانونية، في حين تحدّد آليّة سوق "غير شخصية" (Impersonal)توزيع الدخل.
ولكن بالنسبة إلى ماركس، تضمن الملكية الخاصة لموارد المجتمع الإنتاجية بأن تبقى المساواة القانونية الجديدة نظاماً قائماً على أساس طبقي ويجبر فيه غالبية الأشخاص على ممارسة عمل مأجور. وخلافاً للفروقات بين العبيد ومالكيهم، أو التوابع وأسيادهم، اعتبر ماركس بأنّ الرأسمالية تنتج طبقات قائمة على الحقوق القانونية في الموارد. فـ "البورجوازية" (Bourgeoisie) (الطبقة الرأسمالية) كانت تملك وسائل الإنتاج، كالمصانع والآلات والأدوات ومدخلات المواد الخام، كما أنّها تتمتّع بحقوق الملكية القانونية على مخرجات الإنتاج (السلع التامّة الصنع) وعائدات بيعها. وهذا يؤمّن لأصحاب الرساميل دخلاً تمكِنُهم إعادة استثماره، موسّعين بذلك دخلهم على نحو مستمرّ ومكدّسين الثروات.
في المقابل، لا يملك أعضاء البروليتاريا (الطبقة العاملة) ممتلكات منتجة. من أجل البقاء، عليهم الخضوع لظروف العمل المأجور الاستغلالية من خلال بيع المُدخل الوحيد من مدخلات عملية الإنتاج الذي يملكونه، ألا وهو قوّة عملهم أو قدرتهم على العمل (Marx & Engels 1977 [1848]) . فبالنسبة إلى ماركس، يعكس الإنتاج عملية "استغلال" ينتج العمّال بواسطتها قيمة فائضة، أي قيمة (في شكل سلع) أكبر ممّا يحصلون عليه على سبيل الأجر. إنّ "الاستغلال"(Exploitation) مصطلح تقني يصف عملية إنتاج قيمة فائضة والاستيلاء عليها (Wright, 2009) ، ولكن له دلالات أخلاقية أيضاً. بالنسبة إلى البعض، يشير ذلك إلى أنّ المداخيل العليا لأصحاب الأعمال الأثرياء لم تكن شرعية في الوقت الذي كان دخل الأجراء لا يكاد يكفيهم للعيش.
وفي حين أنّ من مصلحة الرأسماليين الإبقاء على الأجور منخفضة وإنتاج أكبر قدر من القيمة الفائضة لتعزيز الأرباح، فإنّ للعمّال مصالحهم الخاصة، والتي تتضمّن تمتّعهم بوقت كافٍ يقضونه مع عائلاتهم، وبيئة عمل آمنة وصحية، وزيادة أجورهم لشراء السلع. ونظراً لهذا التعارض في المصالح، اعتبر ماركس أنّ العلاقة بين الطبقات تضادّية. العمّال والرأسماليّون يعتمدون على بعضهم البعض للبقاء، إلّا أنّهم سيتصارعون على تنظيم مكان العمل، وطبيعة ظروف العمل، ومعدّل الأجور.
في هذا السياق، ومع توسّع الرأسمالية عبر فترات من النمو والأزمات، ما ساهم في تركيز الثروات في أيادٍ أقلّ وازدياد التباينات، احتدم الصراع الطبقي. وقد أشار ماركس إلى أنّ ذلك قد يخلق الأساس لاقتصاد اشتراكي جديد (Marx 1976 [1876]). ومع أنّ هذا الجانب التحرّري من عمل ماركس محط جدل، لكن حتّى نقّاده سلّموا بأنّ الطبقة العاملة كانت تنمو (عددياً وسياسياً) في خلال القرن التاسع عشر.
من هنا، نجد أنّ ثمّة بعدين لـ"النظام الطبقي" (Working Class) مرتبطين بماركس. التعريف الاقتصادي أو "الموضوعي" (Objective)للطبقة باعتبارها العلاقة بوسائل الإنتاج، التي يتشاركها الشخص مع الآخرين. وهذه الفئة أساسية لتحليل ماركس لمنطق تجميع رأس المال. أمّا البعد "الذاتي" (Subjective) للنظام الطبقي فهو ذو طابع سياسي، ويظهر عندما يطوّر الأجراء وعياً بأنفسهم وبقوّتهم كطبقة، ثمّ ينظّمون أنفسهم سياسياً. عندما يتمّ ذلك، تتشكّل "طبقة لذاتها" ( Class For Itself) حيث لم يكن في السابق سوى "طبقة بالنسبة إلى رأس المال" (A Class In Relation To Capital) (Marx 1936 [1847]). وما نجاح الحركات العمّالية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين سوى نتيجة لذلك الوعي والتنظيم التالي له (انظر (Thompson 1980)).
النظام الطبقي من المنظور الفيبيري
طوّر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر توصيفاً للنظام الطبقي يناسب سياق مطلع القرن العشرين. وقد اعتبر الطبقات الاقتصادية سمات هيكلية أساسية من سمات الرأسمالية، إلّا أنّه اختلف مع ماركس حول أهميّتها في حياة الأشخاص. فبالنسبة إلى فيبر، إنّ التجمعات الاجتماعية الأخرى هي أيضاً من الدلالات الهامّة على الهوية الفردية في مجتمعات السوق الحديثة، وقد تكون بالنتيجة أهمّ من الطبقة الاقتصادية لفهم مواقف الأشخاص وتصرّفاتهم وانتماءاتهم.
ولكن بالنسبة إلى كلّ من فيبر وماركس، كان النظام الطبقي ارتباطياً (Wright 1997). فالذين يملكون ممتلكات منتجة أو يتمتّعون بمهارات تقنية كانوا يحظون بـ"فرص حياتية" (Life Chances) أكبر من الذين لا يملكونها. وعلى نحو مماثل، كانت خصائص أخرى كالتعليم أو الانتماء إلى إحدى المهن، تمنح الأشخاص أفضلية على مستوى الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن بإمكان الطبقات المميّزة أن تحافظ على مركزها إلّا عبر إقصاء الآخرين، وكان الإقصاء يتمّ مثلاً عن طريق النظام القضائي الذي كان يحمي الملكية الخاصة، كما ومن خلال المعايير ونظام الحصص المفروض على الدخول إلى المهن المتعلّمة. ولهذا السبب، وُصفت مقاربة فيبر بأنّها "مقاربة اكتناز الفرص" (Opportunity Hoarding Approach) (Wright 2009).
على الرغم من بعض أوجه الشبه بين تحليلات فيبر وماركس، فإن الأول اختلف عن الثاني في نظرته للصراع الطبقي ولسلوك الطبقات. فقد أشار إلى أنّه على الرغم من احتمال حدوث تنافر بين الطبقات، لا يجب اعتبارها من السمات الأساسية للرأسمالية. أضف إلى ذلك أنّه لم يكن من الممكن استنتاج المصالح الموضوعية للأفراد أو مدى وعيهم انطلاقاً من الطبقة الاقتصادية التي ينتمون إليها. في هذا السياق، ميّز فيبر بين الطبقات وطبيعة "المجموعات" (Groups)، الأكثر ذاتية. ففي حين كان قيام الطبقات نتيجة توزيع الملكية وفرص الحياة المحدّدة، كانت المجموعات تشكّل عمداً من قبل الأشخاص وتساهم في هيكلة العمل الاجتماعي، بما فيه الصراع.
بالنسبة إلى فيبير، كانت "الحالة" (Status) – أي المماثلة مع الآخرين بالاستناد إلى "نمط حياة" (Style of Life) معيّن – العامل الأهمّ المؤدّي إلى تشكّل المجموعات. أمّا النقطة الأهمّ في ما يتعلّق بالـ"حالة" فهي أنّ أفراد الطبقات الاقتصادية المختلفة يمكن أن ينتموا إلى مجموعة الحالة نفسها. وكان الدين والعرق من أبرز مجموعات الحالة التي ذكرها فيبر. بنتيجة ذلك، كانت الطبقة الاقتصادية تتقاطع مع مجموعة من العوامل الاجتماعية المختلفة، والتي تتّخذ، في بعض الحالات، أهميّة أكبر من الطبقة الاقتصادية في تحديد هويّة الشخص ومدى وعيه، وبالتالي ميوله السياسية.
النظام الطبقي والسياسة وعدم المساواة
تحوّل النظام الطبقي تاريخياً إلى واحدة من الهوّات الرئيسية في الممارسة السياسية ضمن مجتمعات السوق. في بعض البلدان، ومن بينها روسيا (راجع الفصلين الخامس والعاشر)، تجلّى ذلك على شكل حركات ثورية راديكالية. لكن في غالب الأحيان، كان يتمّ دمج النظام الطبقي في السياسة التقليدية، بحيث يطبع السياسة والخيارات الانتخابية. وكانت النقابات المهنية والعمالية في قلب الحركات الاجتماعية الناشئة المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحركات وسّعت حقّ الانتخاب (التصويت) تدريجياً بحيث لم يعد مقتصراً على أصحاب الملكيّات، وبات يشمل معظم السكّان الذكور البالغين (ولاحقاً الإناث) في معظم المجتمعات التي في طور التصنيع.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، نظّمت الاتّحادات أحزاباً سياسية، إمّا مباشرة كما هو حال الأحزاب العمّالية في أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا، أو على نحو غير مباشر من خلال إقامة تحالفات وثيقة مع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، كما حصل في معظم البلدان الأوروبية. تلك الأحزاب الجماهيرية، التي كانت تضمّ أعداداً كبيرة من الأعضاء، حوّلت المشهد السياسي، إذ روّجت الأحزاب التقدّمية لسياسات عدّلت عمل الأسواق عن طريق وضع قوانين تنظّم الأجور وظروف العمل، وفرض ضرائب لتمويل الخدمات العامّة أو توفير المدفوعات التحويلية، وحتّى تأميم الصناعات. وقد اعتبر علماء الاجتماع السياسي تلك التطوّرات السياسية تعبيراً عن الديناميات الاجتماعية بين المجموعات ذات المصالح المختلفة (Lipset & Rokkan, 1967) 1967.
غالباً ما كان التغيير يعقب فترات الأزمات الاقتصادية، كمرحلة الكساد في تسعينات القرن التاسع عشر أو الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي. وقد دفع ذلك بالبعض إلى اعتبار الإصلاحات المتدرّجة المؤدّية إلى قيام دولة الرفاه كمحاولات للحفاظ على الشرعية السياسية في وجه التحدّيات الآتية من الأسفل. غير أنّ مدى الإصلاحات وطبيعتها اختلف بين البلدان، وكان في كثير من الأحيان يعكس تحالفات بين فئات اجتماعية مختلفة (راجع الفصلين الخامس والعاشر). كما كان للإصلاحات السياسية آثار هامّة على التوزيع الاقتصادي، فقد تراجع معدّل عدم المساواة في بلدان كثيرة خلال منتصف القرن العشرين مع ظهور دولة الرفاه الحديثة.
نهاية النظام الطبقي؟
أثّرت التدخّلات السياسية على توزيع السوق للدخل واتّسع المستوى العام للثراء في مجتمعات السوق. في هذا السياق، استخدم عالم الاجتماع السياسي رونالد إنغلهارت (Ronald Inglehart)(1972؛ 1990) بيانات مسح شاملة من مختلف أنحاء العالم المتقدّم، ليبيّن أنّ مفهوم الناس لعدم المساواة والسياسة كان يتغيّر. فوصف سياسة "ما بعد ماديّة" (Post-Materialist) جديدة يهتمّ فيها الشباب في ستينات وسبعينات القرن العشرين بالمسائل الطبقية التقليدية المتمثّلة في الأجور وظروف العمل على نحو أقلّ، إذ إنّ اهتماماتهم كانت قد أصبحت أكثر تركيزاً على المسائل غير المادية كالجنسانية وحقوق الإنسان والبيئة، وهي مواضيع أثّرت بشكل واضح على التطوّرات السياسية منذ ذلك الحين (راجع الفصل التاسع)، وذلك بعد مأسسة إعادة توزيع الدخل في دولة الرفاه.
وعلى النقيض من النضالات التاريخية للطبقة العاملة، دلّت هذه الاتّجاهات على تقارب حول "قيم الطبقة المتوسطة" (Middle-Class Values)، ما دفع بالكثير من الكتّاب إلى إعلان "موت النظام الطبقي" (Pakulski & Waters 1996) (Death of Class) . لم يعد التركيز الشديد على التفسيرات ’الطبقية‘ لعدم المساواة يبدو مناسباً، لا سيّما مع صعود تفكير ما بعد الحداثة الذي نبذ العوامل المفردة أو "الروايات الكبرى" (Grand Narratives) في شرح الظواهر الاجتماعية. فقد تخطّوا مسألة ملكيّة الموارد الاقتصادية ونظروا في المفاهيم الأيديولوجية وقوّة اللغة والأفكار في صياغة الطريقة التي يتصرّف فيها الناس. ولم يكن ذلك بالضرورة متعارضاً مع أهمية القوة الاقتصادية، إلّا أنّه نقل التركيز إلى جوانب أخرى لعدم المساواة ، كالجنسانية والعرق والجنس (التي نبحث فيها لاحقاً في هذا الفصل).
على الرغم من ذلك، لا يزال ثمّة دلائل على عدم مساواة اقتصادية بين الطبقات كون العديد من الترتيبات السياسية المحققة بشقّ الأنفس والتي خفّفت من حدّة التباينات من خلال إعادة التوزيع، تمّ الاعتراض عليها خلال العقود الماضية. في هذا السياق، فإنّ المستوى العام لعدم المساواة آخذ في الارتفاع منذ ثمانينات القرن الماضي في معظم البلدان الغنية، كما أنّ نسبة الدخل المحصّل على شكل أجور تتراجع مقابل ارتفاع نسبة الدخل المحصّل على شكل أرباح (منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD 2010, p. 35)). في دراسته لأنماط عدم المساواة المتغيّرة في الولايات المتّحدة، خلُص بول كروغمان(Paul Krugman) ، الحائز على جائزة نوبل (2009)، إلى أنّها ناتجة بالدرجة الأولى عن القوى السياسية، لا سيّما تأثير التغيّرات في تنظيم سوق العمل، والضرائب المفروضة، والإنفاق الاجتماعي. وقد أدّت هذه التوجّهات إلى إعادة النظر في النظام الطبقي.
وفي سياق العولمة والهيمنة المتزايدة للشركات متعدّدة الجنسيات (راجع الفصل السابع)، استند مايكل هاردت(Michael Hardt) وأنطونيو نيغري(Antonio Negri) (2004) إلى الجوانب المعيارية للنظرية الماركسية من أجل "تجديد النظام الطبقي"(Renovate Class) . لقد وضعا مفهوم "الجموع" باعتبارها عامل التغيير في عالم يتّسم بتباينات متزايدة بين الاقتصادات المتطوّرة والنامية. بذلك يتّسع النظام الطبقي ليشمل العاطلين عن العمل والطلّاب والعمّال المنزليين والفلّاحين، وبهذه الطريقة يدمجان العالم الغني والمجموعات الأفقر في العالم النامي. وبحسب هاردتونيغري، يمكن للجموع أن تقاوم على نحو جماعي رؤوس الأموال العابرة للحدود وعمليّات التسليع.
بالاستناد إلى أفكار كلّ من فيبر وماركس، يدلّل إريك أولين رايت (Eric Olin Wright) (2009) على أنّ ملكيّة رأس المال الاقتصادي تبقى أساسية لشرح عدم المساواة الاقتصادية. لكن، ونظراً لانتشار الثراء، تتّخذ بعض العوامل الأخرى قدراً من الأهميّة أيضاً. فالحصول على الموارد كالمعارف والمهارات والتعليم، على سبيل المثال، يوفّر فرصاً منها قدرة كبيرة على المفاوضة في سوق العمل ومزيد من الاستقلالية في العمل. كما يظهر التركيز على التعليم لدى بيار بورديو (Pierre Bourdieu) (1986)، إلّا أنّه يعتبر التدريب والتعليم مصدراً للامتيازات الطبقية، فإدراك المعارف من خلال المؤهلات يعكس مصالح الفئات الاجتماعية القوية، وبالتالي، تتمّ إعادة إنتاج الامتياز المرتبط بالمؤهلات والمعارف الثقافية من خلال نظام التعليم. على غرار رأس المال الاقتصادي، يتمّ تناقل "رأس المال الثقافي" هذا من جيل إلى آخر، وبالنسبة إلى بورديو، فإنّ النظام الطبقي يرتبط بالمزايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
النضالات خارج إطار النظام الطبقي
كان العديد من الانتقادات التي تطال النظريات الطبقية التقليدية يشير إلى إدراك متزايد بأنّ النظام الطبقي ليس الشكل الخطير الوحيد من أشكال عدم المساواة في مجتمعات السوق، إذ كان ثمّة فوارق تترتّب عليها آثار على القدر نفسه من الأهميّة. عملياً، تعكس عدم المساواة صورة أكثر تعقيداً للتفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية النابعة جزئياً من الفشل التاريخي في بسط المساواة القانونية التي وعد بها حكم القانون.
ومع انتشار مجتمعات السوق في أوروبا والأميركيتين، كانت النساء محرومات من حقّ الانتخاب وعاجزات عن التملّك. كما نشط العمل على طرد السكّان الأصليين من أراضيهم. أمّا هؤلاء الذين كانوا يعيشون في ظلّ الاستعمار، فكانوا محرومين من حقّ تقرير المصير، فاستحوذت قوى أجنبية على مواردهم وغالباً ما كانوا يخضعون للعبودية أو ظروف شبيهة بالعبودية. وعلى الرغم أن أشكال عدم المساواة الرسمية المقوننة أزيلت تدريجياً، إلا أن التفاوتات الاقتصادية الكبرى لا تزال سائدةً. تكمن التفاوتات الكبرى بين الدول ولكن لا تزال توجد تفاوتات ملحوظة بين الرجال والنساء وبين المجموعات العرقية المختلفة وبين أبناء البلاد والمهاجرين في الاقتصادات المتطورة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]