النظريّة النقديّة والمجتمع المدني في مجتمع السوق النابض بالحياة
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
تبنّى واضعو النظريات الاجتماعيون الانتقاديون مقاربة تعكس بعض المخاوف المجتمعيّة تجاه التواصل الاجتماعي غير أنّها لا تشدّد كثيراً على أهميّة التقاليد بل على السلطة والنزاع والصراع. ونتج مفهومان مؤثران عن عمل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (Juergen Habermas) الذي كان أكثر تفاؤلاً من غرامشي في ما يتعلّق بالمجتمع المدني. ركّز غرامشي (1971) على العلاقات بين المجالات المختلفة في مجتمع السوق مثل القانون والثقافة والاقتصاد. ومن خلال ذلك، ردّ على الانتقادات التي تشير إلى أنّ العلم الماركسي ركّز كثيراً على الهياكل الاقتصاديّة متجاهلاً الممثلية الاجتماعية.
كتب "غرامشي" بعضاً من أعماله الأكثر تأثيراً في خلال الفترة التي سجنه فيها الدكتاتوري الفاشي بنيتو موسوليني. وتركّز مفهومه الأساسي "للهيمنة" على أنّ السلطة تمارس على حدّ السواء من خلال الإكراه والتوافق، أمّا المجتمع المدني، فهو المكان الذي يهيمن فيه الجانب التوافقي للسلطة، وحيث يكوّن الناس "المنطق السليم" المرتبط بنظرتهم للعالم ولدورهم فيه. ورأى غرامشي أنّ المجموعات الاجتماعية المهيمنة (كالطبقة الرأسماليّة) والمؤسسات (كالدولة) تستطيع ضمان هيمنتها عبر تحديد هذه الآراء المتعلّقة "بالمنطق السليم"، فيظهر عندئذ الوضع الراهن طبيعياً ومشروعاً. وعلى سبيل المثال، باتت النزعة الاستهلاكية أمراً طبيعياً نظراً للترويج الذي تحظى به في وسائل الإعلام. (راجع المربّع 2.10).
المربع 2.10 المعايير الثقافيّة
ناقشنا في الجزء الثاني من الكتاب كيفية الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والنظام الإقتصادي عن طريقة التنظيمات. في الواقع، "تنظّم" أيضاً معايير الحياة اليوميّة الثقافية السوق والشركات إلا أنّ تأثيرها ليس ملموساً على قدر الدولة. قد نملك الحريّة في صياغة معتقداتنا إلا أنّنا نعبّر عن الحريّة ضمن قيود ثقافيّة نجهل وجودها أحياناً.
تعدّ المعايير الثقافيّة مهمّة لأنّها بمثابة "اللاصق الاجتماعي"، إذ تربط بين مختلف الشعوب المتوّعة والممارسات، أساس كلّ مجتمع. ولكن يمكن نقضها على الدوام بطريقة تؤكد أنّ الاعتقاد الذي كان سائداً في عصر ما قبل التنوير يقضي بعدم اعتبار النّاس كلام ملكهم كلاماً إلهياً. وفي المجتمع الحديث، استحالت بعض السلوكيّات والمعتقدات أمراً طبيعياً، فعندما تعتاد شيئاً ما، لا تشككّ فيه، وعلى هذا المنوال أفضت المعايير الاجتماعية إلى استقرار مجتمع السوق وتماسكه.
تشبه المعايير الاجتماعية ما أسماه بورديو "بالحقول" و"الخلقات" (Bourdieu 1990)، وتتمثّل بشكل أساسي بالعلاقات الاجتماعية التي تحدّد سلوكنا. فسيتمتّع الأشخاص في مواقع اجتماعية واقتصاديّة متماثلة بخلقة متشابهة على غرار الخلقة الذكوريّة وخلقة الطبقة العاملة. تقيّد المعايير الاجتماعية سلوكنا وتحدّد أهدافنا (ما نريده) واستراتيجيّتنا لتحقيق ذلك (ما السبيل لذلك). ويجدر الانتباه إلى إمكانية إعادة تشكيل المعايير هذه بفعالية بما أنّ سلوك الفرد يتغيّر مع معايير اجتماعية أوسع، ويتأثر بها.
وتشكّل المعايير والقيم المشتركة أساس الاستقرار الاجتماعي إلا أنّ شكلها يختلف باختلاف المكان والزمان. فهي ليست "طبيعيّة" ولا "دائمة" بل يمكن تشكيلها وإعادة تشكيلها استراتجيّاً. ويظهر هذا التطوّر جلياً في المعارك لكسب "قلوب الشعوب وعقولهم" في فترات الأزمات الاقتصاديّة والضائقة الاجتماعية، فغالباً تشهد هذه الأزمنة إعادة تشكيل المعايير الاجتماعية فتستحدث "لاصقاً" اجتماعياً. مثلاً إنّ دعم العادات الاستهلاكية أمر طبيعي أثناء الإصلاحات الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية مع أنّها كانت تتناقض مع عقليّة التوفير السائدة في فترة الكساد الاقتصادي وسنوات الحرب.
ومع ذلك يمكن أيضاً تحدّي الهيمنة، ويستدعي ذلك أن تفرض المجموعات التابعة أو الحركات أو الأحزاب هيمنتها الخاصّة في المجتمع المدني فتحوّل "المنطق السليم" إلى "الحكم السليم" كنذير لتوليها زمام السلطة. ومن هذا المنطلق، يتّضح أنّ المجتمع المدني مكان تجتمع به سلطة الدولة بالسوق ناهيك عن استيعاب النّاس بفضل منطقهم السليم لمجتمع السوق هذا. فهذا هو المكان الذي نقصده بغية فهم ما هو "طبيعيّ" و"متوقّع"، لأنّه الأمثل وفق اعتبار المجتمعيين لاكتساب القيم. ولكنّ غرامشي يؤكّد على أنّ قيمنا تعكس علاقات القوة السائدة فيعتبر إذاً المجتمع المدني مكان نزاع بين مختلف الأطراف في العالم.
أمّا يورغن هابرماس (Juergen Habermas) فاستشفّ في المجتمع المدني إمكانيّات تفوق تلك التي رآها غرامشي لأنّه اعتبره بمثابة مساحة لإقامة نقاش بنّاء. رأى هابرماس، أنّ المجتمع المدني مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهومه للمجال العام أيّ عالم من الحياة الاجتماعية حيث يشكّل الأفراد سوياً هيئة عامّة. ويكون دورهم في هذه الأخيرة مستقلّاً عن أدوارهم الأخرى كرجال أعمال وعمّال وأعضاء في الدولة. وتظهر الهيئة هذه في ظروف لا تعدّ ولا تحصى وتثبت أهميتها أينما وجدت حرية التجمّع وحرية التنظيم وتشكيل النقابات وحرية التعبير. وتعتبر الحريّات الثلاث هذه جوهريّة لأنّها مصدر الرأي العام في ما يخصّ المصلحة العامّة (Habermas 1989 [1964]، ص.49).
ويشير هابرماس (1989 [1964]) إلى أنّ المجال العام نشأ نتيجة تطوّر تاريخيّ محدّد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر. ولقد انبثق من الانهيار الكبير للسلطة الاقطاعيّة وتماسك العلاقات العائليّة الرأسماليّة. وسمح ذلك بالاعتراف بالأفراد بحد ذاتهم، إذ يتمتّعون بهويّات منفصلة عن الدولة وبعيداً عنها. ففي بعض الأماكن كالمقاهي والساحات العامّة والمسارح، تطوّر المجال العام ليستحيل مساحةً يلتقي فيها الناس من الطبقة الحديثة والهويّات العائليّة والسياسيّة الجديدة للانخراط في حوار عقلانيّ وحاسم بشأن المسائل العامّة (Calhoun 1993, p. 397).
وشكّل المجال هذا بالنّسبة إلى هابرماس مكان "البورجوازيّة" الناشئة حديثاً من النّظام الليبرالي الصاعد الذي قسّم العالم الاجتماعي إلى عوالم عامّة وخاصّة (مراجعة الفصل التاسع). ويسمح المجال العام بمناقشة القيم والممارسات. ومن خلال المناقشات الجادة والقيّمة التي يعتبرها "هابرماس" فعلاً تواصلياً، نتمكّن من تحدّي الممارسات القائمة والمطالبة بنظام سياسي أكثر عدلاً، سواء جاء ذلك عن طريق الدولة أو السوق.
وتشمل المؤسسات هذه ما أطلق عليه فيبر صفة العقلانيّة المفيدة التي تتبع منطقاً "نظاميّاً" عقلانيّاً بدلاً من عقلانيّة واسعة تقوم على نقاش منطقي حول ما يشكّل حياةً جيًدةً. وادعى هابرماس أنّه عندما حصل ذلك، استعمرت "أنظمة" "حياة العالم" (1987). وتشكّل على سبيل المثال وسائل الإعلام التجاريّة ولا سيّما التلفاز، مكوّن الحياة اليوميّة الأساسيّ في الدول الرأسماليّة المتقدّمة كافة. وتعدّ وسائل الإعلام أيضاً عملاً يدرّ أرباحاً بفضل الإعلانات، ما يوسّع قيم نظام الربح حتّى يطال عالم النقاش والحوار فتتأثر حياة العالم.
ولذلك طرح هابرماس إشكاليّة مفهوم المجتمع المدني معترفاً بأنّه لا يتواجد بمعزل عن الأسواق والدولة وإنّما يتداخل معها. وهذا لا يعني بالضرورة أنّ المجتمع المدني يفتقر قيمه الفريدة ومنطقه أو أنّ المجتمع المدني يعجز عن التأثير في طبيعة الدول والأسواق (كما سيرد لاحقاً في قسم الحركات الاجتماعية)، إلا أنّنا نشير إلى أنّ العلاقة ليست بالبسيطة والواضحة.
وجاء عمل مدرسة "فرانكفورت" التي ارتبط بها هابرماس في البداية، بالإضافة إلى تيودور أدورنو (Theodore Adorno) وهيربرت ماركوس (Herbert Marcuse)، ليكون أقلّ تفاؤلاً فيما يتعلق بإمكانية التغيير، إلا أنّه حظي بالتأثير عينه. رفض أدورنو (1991 [1964]) مصطلح "الثقافة الشعبيّة" (Popular Culture) مفضلاً "الثقافة الجماهريّة" (Mass Culture) وفيما بعد "الثقافة الصناعيّة" (Culture Industry) للإشارة إلى أنّ الثقافات التي سادت في الحياة اليوميّة لم تنبثق عن الشعب بل كانت تشكّل جزءاً من نظام الربح. ويعتبر أدورنو، مقتبساً عن مفهومي العقلانيّة والتسليع، أنّ معايير الثقافة كانت موحّدة ووليدة كتل شعبية، ولا تنطوي إلا على مجال صغير لتعبير نقديّ حقيقيّ. ويشير ماركوس (1991 [1964]) إلى أنّ المجتمع الرأسمالي قد أصبح من "بعد واحد" بما أنّ السياسات ووسائل الإعلام والثقافة بشكل عام سدّت سبل المخالفة كافة.
مع ذلك، يكون تأثير الدولة ومصالح الشركات ضمن المجتمع المدني عرضة لتحديات كثيرة، فعلى سبيل المثال، طوّرت الحركة العمّاليّة وسائل الإعلام الخاصّة بها (وبخاصة الصّحف)، وكذلك المؤسسات التعليميّة (ككليّات الرجال العاملين) والمنظمات الترفيهيّة (كنوادي الرجال العاملين). ويزعم بعض المؤرخين أنّ هذه المؤسسات تشكّل "مجالاً عامّاً بديلاً" (2005Scalmer & Irving ) لأنّها سمحت للعمّال بالتعبير جهاراً عن مصالحهم ومخاوفهم خارج إطار الخطابات الرسميّة لإعلام الدولة والشركات.
في حين تطوّرت صحافة العمل إلى أشكال ثقافيّة تجاريّة، باتت تحديات ظهرت مؤخراً تعوّل على الثقافة التجاريّة بحدّ ذاتها. فتعدّل على سبيل المثال "أجهزة تشويش الثقافة" (Culture Jammers) صور وسائل الإعلام الشعبيّة ليصبح محتواها مدمّراً. على سبيل المثال قامت مجموعة BUGAUP (فنّاني اللوحات مستخدمي الكتابات ضد البضائع المضرّة بالصحة) بتشويه إعلانات التبغ والكحول في أستراليا في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، والأمر سيّان بالنّسبة للمجلّة المعاصرة ((Ad Busters التي تغيّر الإعلانات التجاريّة الشعبيّة من أجل فضح المصالح المعادية للمجتمع المروّج لها في إطار هذه الإعلانات (راجع المربّع 3.10). في عملية التحويل هذه تم استقاء الوحي من حركة أوروبيّة متطرّفة تعرف باسم "الوضعية الدولية" ظهرت في الستينيات من القرن المنصرم واستعانت بالثقافة من أجل نقد المجتمع الرأسمالي (Debord 1956).
المربع 3.10 ويكيليكس – المجتمع المدني مقابل الدولة
"ويكيليكس" (Wikileaks) موقع إلكتروني يضع معلومات حكومية سرية في متناول عامة الشعب. وفي الواقع، لمع نجمه على الساحة الدوليّة العام 2010 بعدما سرّب شريط فيديو عسكرياً أميركياً فائق السريّة يعرض طائرات أميركيّة تقتل صحافيين ومدنيّين عراقيّين. واختار موقع "ويكيليكس" عبارة "قتل جانبي" لتشكّل عنوان الشريط إشارةً لعبارة "الأضرار الجانبية" التي استخدمتها الحكومة الأميركيّة منذ حرب الخليج الأولى العام 1990 من أجل وصف مقتل المدنيّين على يد الجيش الأميركي (Wikileaks 2010).
وما هي عبارة "الأضرار الجانبية" إلا مثال صارخ على طريقة الحكومات في الإفصاح عن المعلومات من أجل قولبة التقارير الإعلامية كما تشاء وبالتالي الرأي العام. ولا تدلّ هذه العبارة مباشرةً على البشر ولا تعني أنّ القتلى المدنيّين هم مجرّد آثار جانبيّة لتقدّم التكنولوجيا ولكنّها تشير إلى أنّ مبنى ما قد يتعرّض لأضرار عرضيّة بسبب انفجار قريب.
وفي حين لم تعد الحكومات الديمقراطيّة تملك مراكز رسمية تعنى بالبروباغندا، يشير بعض الفقهاء إلى أنّها لا تزال تؤدّي وظيفة ترويجية. يعتبر كلّ من "إدوارد هيرمان ونعوم شومسكي" (Edward Herman & Noam Chomsky) (1988) أنّ عبارات مثل "أضرار جانبيّة" (Collateral Damage)، تحاول تجريد المجتمع المدني من أحاسيسه فيما يتعلق بالخسائر البشريّة التي تكبّدها الحروب الأميركية. ويندرج ذلك في إطار الطريقة التي استخدمتها الحكومة الأميركيّة ووسائل الإعلام من أجل "نيل الموافقة" على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، فهي لا تركّز كثيراً على مقتل مدنيّي العدوّ إذ تعتبرهم "ضحايا لا قيمة لهم" بينما تسلط الأضواء كافة على مقتل الأميركيّين وحلفائهم المدنيين لأنّهم "ضحايا يستحقون كل تقدير".
فضح موقع " ويكيليكس" ممارسات الجيش الأميركي عبر شريط الفيديو "القتل العرضي" (Collateral Murder) وسرّب آلاف الوثائق السريّة الأخرى، وبالتالي يمكن اعتباره مثالاً عن منظمة في المجتمع المدني تؤكّد على أهميّة المجال العام الذي يمكن فيه إعداد خطاب عقلاني على أنّ تكون المعلومات المتاحة دقيقة.
المجتمع المدني بشكل عمليّ
تشكّل المفاهيم المختلفة للمجتمع المدني أساس النقاشات الجارية حول أدوار الدول والأسواق المناسبة. ويعتبر المجتمع المدني عامةً مجالاً إيجابيّاً يساعدنا على التمتّع بالسلطة والاستقلاليّة. ولكنْ، يعتبر عدد من واضعي النظريات أنّ المجتمع هذا يعمل بأساليب مختلفة، فيعكسون مفاهيم متنوعة للمجتمع المدني وبالتالي لمجتمع السوق. ويُعدّ كثير من المهتمين أنّ الحركات الاجتماعية هي العامل الأساسي في المجتمع المدني إلا أنّ الأفراد، و"رأسمالهم الاجتماعي" ومستوى "مشاركتهم المدنيّة" تشكّل أيضاً عوامل مهمّة في مناقشة مسائل الاقتصاد ودول الرفاه ناهيك عن الدور البارز المتنامي الذي تضطلع فيه المنظمات غير الحكوميّة من خلال توفيرها الخدمات العامّة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]