تعاريف مختلفة لـ”ظاهرة الفكاهة” في المجتمع
2002 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثالث عشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
ظاهرة الفكاهة الفنون والآداب المخطوطات والكتب النادرة
على الرغم من صعوبة وضع تعريف جامع للفكاهة، فإنها – في معناها العام – تعني كل قول أو فعل أو حركة أو إشارة تدفعنا إلى الضحك أو الابتسام.
فالمزاح واللهو، أو الهزل والدعابة، أو المرح والسرور، أو التهكم والتندر والسخرية كلها ضروب من الفكاهة.
ومن طبيعة النفس البشرية أنها سرعان ما تمل الجد والصرامة والعبوس والآلام، فتلتمس في الفكاهة بابا للتسلية والترويح عن النفس، أو منفذا للتنفيس عن آلامها وهمومها، أو مهربا من الواقع الذي يثقل كاهلها بتبعات الحياة ومسؤولياتها الكبرى.
ولهذا لاغرو أن يصف الفلاسفة الإنسان بأنه حيوان ضاحك. فالضحك – صنو الفكاهة – ظاهرة إنسانية بحتة، يشترك فيها العامة والخاصة على حد سواء، على الرغم مما يمر بالإنسان من ويلات ومتاعب وأزمات.
والفكاهة ظاهرة نفسية، ومن ثم فهي لم تشغل بال الفلاسفة فحسب، بل شغلت أيضا علماء النفس، فوضعوا – كالفلاسفة – للفكاهة تعريفات لا حصر لها، وبحثوا في أسبابها وأنواعها ودوافعها وشروطها. وهم قد درسوا أيضا وظائفها النفسية والاجتماعية والتربوية، ومنها الحفاظ على سلامتنا العقلية.
فالفكاهة علاج ناجح لكثير من الحماقات البشرية والانحرافات أو العيوب الاجتماعية. وهي تعمل على تحقيق الاتزان العاطفي وبلوغ الصحة النفسية والتنفيس عن المشاعر المكبوتة.
وهو ما يتضح جليا في الفكاهة السياسية، وفي الفكاهة الشخصية من بعض أشكال السلطة. ولعل من هذا القبيل ما يروى عن تلميذ يكره ناظر المدرسة لأنه كان قاسيا، فكان يقول لزملائه كلما رأى الناظر: «كل من ينظر إلي ألعنه، ألا لعنة الله على الناظر»! وقد تكون الفكاهة عندئذ ذات وظيفة تعويضية أو هروبية من بعض المواقف الحرجة في حياة الإنسان.
والواقع أن الفكاهة هي السيف المشهر الذي تسلطه الجماعة على رقاب الخارجين على معاييرها الجمعية وآدابها العامة، وعلى عاداتها وتقاليدها.
وتسخر الجماعة أيضا من المنحرفين عن أنماط سلوكها المعتبرة، وقيمها ومثلها العليا، على نحو ما يفعل البخلاء والمتسلطون، والمتكبرون، أو الحمقى والمغفلون، أو المغرورون والطفيليون أو الكذابون أو المدعون وأشباههم.
ولا يملك المجتمع إزاء تقويم سلوك هؤلاء إلا الفكاهة سلاحا حتى يعودوا إلى حظيرته من ناحية، ولكي ينفر الناس من طباعهم وخصالهم المرفوضة من ناحية أخرى. فكأن الفكاهة نوع من الانتقام أو العقاب الاجتماعي من ناحية، وضرب من «التقويم التربوي» من ناحية أخرى.
والفكاهة ظاهرة اجتماعية، ذلك أن الضحك يتضاعف ويشتد إذا كنا في وسط اجتماعي، حيث تصيبنا «عدوى الضحك». فالإنسان يضحك في جماعة أكثر مما يضحك وهو جالس بمفرده.
والضحك في الجماعة يتخذ معنى أكثر من الضحك الفردي. و«جماعية الضحك» تثري الموقف الضاحك وتكشف عن وظائفه المتعددة.
والفكاهة ظاهرة ثقافية أيضا، فلكل عصر أو زمان فكاهته وأسلوبه الخاص في الدعابة وفي الرؤية الضاحكة أو النظرة الساخرة إلى الأشياء.
ولكل شعب أو مجتمع طريقته في التعبير الفكاهي وفي فهمها. ولن يتيسر للمرء أن يفهم روح الفكاهة في مجتمع غير مجتمعه إلا حين يفهم ثقافة ذلك المجتمع.
وهذا يعني في آخر الأمر أن الفكاهة مسألة نسبية. وليس أدل على ذلك من أن ما يراه شعب ما، أو جماعة ما، أو عصر ما مثير للضحك قد يثير النفور أو حتى الأسى لدى جماعة أخرى، أو في عصر آخر.
هذا فضلا على أن دراسة الفكاهة لدى مجتمع ما أو في عصر ما تكشف عن هذا الدور الكبير الذي تقوم به الفكاهة في التعبير عن الأوضاع السائدة في هذا المجتمع أو ذلك العصر، وفي الإبانة عن آراء الناس ورؤيتهم للحياة وأفكارهم وقيمهم السائدة آنذاك.
وبالرغم من ذلك هناك «الفكاهة القومية» التي تشيع لدى شعب من الشعوب، وهناك النكتة أو النادرة العالمية التي تشترك في تذوقها والاستمتاع بها مجتمعات وشعوب عديدة، وتسمى عندئذ «الفكاهة العالمية» لما تتضمنه من عناصر فكاهية إنسانية، على الرغم من كونها تبدو لأول وهلة محلية أو قومية.
والفكاهة – في حقيقة الأمر – فن وفلسفة. فهي فن لا يجيده إلا القلائل من الموهوبين من الناس. وهي فلسفة لأنها يجب أن تكون تعبيرا عن موقف مفاجئ أو كلمة غير متوقعة أو فكرة متناقضة، نكتشفها أو نعمل على كشفها أو فضحها وتعريتها بالإشارة دون الإطالة، وبالتلميح دون التصريح.
وإذا خلت الفكاهة من بعض هذه العناصر جاءت ناقصة باردة باهتة اللون عاجزة عن الوصول إلى نفوس الناس وقلوبهم.
ومن هنا فالفكاهة بهذا المعنى – أي بما توصف به شكلا ومضمونا – ليست مطلقة لجميع الناس، حيث لا يستطيع أن يبدعها أو يؤديها (يلقيها) أي إنسان، بل توشك أن تكون تخصصا وموهبة في أفراد يبرزون في أدب الأمة، أو احترافا يمارسه المحترفون (كالندماء والمضحكين والمهرجين). والفكاهة في الأدب العربي تشتمل على جميع هذه العناصر والنماذج.
فإذا ما انتقلنا إلى الفكاهة في الأدب العربي، وجدنا أن العرب ليسوا بدعا بين الشعوب، فقد أثر عنهم «تراث فكاهي» ضخم، واشتهر منهم «أعلام» في الفكاهة لا حصر لهم؛ يدفعهم إلى ذلك سماحة الإسلام، انطلاقا من أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يمزح ولا يقول إلا حقا، وأنه كان أفكه الناس إذا خلا مع أهله، وأكثرهم وقارا في المجلس.
وكذلك كان حال الصحابة، حتى إنه أثر عن الإمام علي، رضي الله عنه، قوله: «روحوا القلوب، فإنها تمل كما تمل الأبدان». ونسب إليه قوله: "لا بأس بالمفاكهة تخرج الرجل من حال العبوس".
فكما أن في الفكاهة راحة للجسم فيها راحة للنفس، ما لم تكن سفها أو استهزاء بالآخرين. ذلك أن للضحك مقدارا، وأن للمزاح موضعا ينبغي عدم تجاوزهما.
كما ينبغي عدم التقصير عنهما، ومن ثم يقول الجاحظ – شيخ الساخرين العرب، ورائد الأدب الفكاهي في التراث العربي – في صدر كتابه البخلاء: «ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك صار المزاح جدا والضحك وقارا». وهذا هو معنى الفكاهة الراقية لا الفكاهة الماجنة.
وهكذا يذهب المؤلفون المسلمون إلى أن الفكاهة – أو المزاح كما يسمونها – تكاد تكون ضرورة نفسية وعقلية وصحية، حيث يميل الإنسان إليها بطبعه.
ومن هنا عني الإخباريون والمؤلفون العرب بجمع الفكاهات الأدبية (أو النوادر) منذ صدر الإسلام. يتجلى ذلك في عشرات المصادر المطبوعة والمخطوطة المتخصصة في الفكاهة والنوادر بدءا من كتب النوادر التي جمعها الجاحظ (من أكثرها شهرة نوادر البخلاء)، وانتهاء بكتب ابن الجوزي في النوادر، مما يدخل في دائرة «أدب المسامرة»، مثل كتاب «مسامرة الأخيار» و«جمع الجواهر في الملح والنوادر» و«بهجة المجالس» و«مضحك العبوس ونزهة النفوس»، ونحوها.
إضافة إلى ذلك، موسوعاتنا التراثية، الأدبية والثقافية، حافلة بأفانين الضحك والأدب الفكاهي، وقد أفردت لذلك فصولا وأبوابا وأجزاء، بدءا من «عيون الأخبار» لابن قتيبة، مرورا «بالعقد الفريد» لابن عبد ربه، و«محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني، و«نثر الدرر» للآبي، و«ربيع الأبرار وفصوص الأخبار» للإمام الزمخشري، وانتهاء «بالمستطرف في كل فن مستظرف» للإبشيهي، ونظائره المتأخرة.
والحق إن الفكاهة «صناعة وبضاعة» كانت مشتهاة، خاصة في مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، وفي بلاط الملوك والسلاطين.
وكان المضحكون والندماء يحصلون منهم على أضعاف ما كان يحصل عليه الشعراء من المكافآت. ومن ثم لا غرو أن يكون هناك معلمون يعلمونهم الهزل، ومدارس لتدريبهم على فنون الإضحاك.
وبالقدر نفسه، كانت الفكاهة سلعة مرغوبة أيضا عند الخاصة والعامة «حتى بيعت النادرة الواحدة بدينار».
وكان طبيعيا أيضا أن يشتهر كثير من أعلام الفكاهة في التراث العربي، مثل أبي دلامة، وأشعب، وطفيل الأعراس، وأبي العبر، وبهلول، وهبنقة. بل استطاع أحدهم أن يتجاوز بنوادره الفكاهة المحلية والقومية إلى الفكاهة العالمية، وهو جحا العربي.
ومن الجدير بالذكر أن الفكاهة – إلى جانب وظائفها السابقة – قد تلعب دورا في إنقاذ حياة الناس من بطش حاكم ظالم أو طاغية مستبد، وتسمى عندئذ بالفكاهة المنقذة.
مثال ذلك هذه النادرة النثرية:
قال الأصمعي: خرج الحجاج متصيدا، فوقف على أعرابي يرعى إبلا وقد انقطع عن أصحابه، فقال: يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجاج؟ فقال الأعرابي: غشوم ظلوم لا حياه الله ولا بياه.
قال الحجاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين؟ فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله! قال: فبينا هو كذلك إذا أحاطت به جنوده، فأومأ إلى الأعرابي فأخذ وحمل. فلما صار معهم قال: من هذا؟
قالوا: الأمير الحجاج، فعلم أنه أحيط به، فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير، قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: أحب أن يكون السر الذي بيني وبينك مكتوما! فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وقد تكون الفكاهة دعابة طريفة غايتها إشاعة جو من البهجة والسرور. مثال ذلك هذه النادرة الشعرية:
خرج الخليفة المهدي وعلي بن سليمان في رحلة صيد، فلما أجريت الخيل وأرسلت الكلاب رمى المهدي سهما فأصاب ظبيا، ورمى علي بن سليمان سهما فأصاب بعض كلابه فقتله. فقال أبو دلامة، مضحك الخليفة:
قد رمى المهدي ظبيا شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما، كل امرئ يأكل زاده
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه
والحق إن الفكاهة في النثر العربي لها أشكال وأنماط كثيرة منها النوادر والمقامات الساخرة والقصص الفكاهية المتوسطة الطول، والقصص الطويلة، إلى جانب الوصايا الهزلية.
وكذلك الشعر الفكاهي، فثمة شعر ساخر – ما أكثره في تراثنا – وثمة معارضات شعرية ساخرة، وثمة وصايا شعرية ضاحكة، وثمة أشعار عبثية لا معنى لها إلا إثارة الضحك لذات الضحك. واليوم ثمة فنون فكاهية أخرى استحدثت في الأدب العربي المعاصر، أشهرها المسرح الهزلي والمسرح الكوميدي.
وأخيرا – ابننا العزيز، وابنتنا العزيزة – اضحكا تضحك لكما الحياة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]