دراسة بيضة الكائنات الحية
2013 لمن الرأي في الحياة؟
جين ماينشين
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
غير أن الصورة تغيّرت مع اكتشاف كارل إرنست فون باير (Karl Ernst von Baer) في سنة 1827 أن الثدييات أيضاً تبدأ بمثابة بيوض، مثل الدجاج والضفادع والأنواع الأخرى التي يمكن رؤية بيوضها بسهولة.
وهذه البيوض ليست "بيضة" هارفي الافتراضية التي رأى أنها يجب أن تكون البداية المادية لأي شكل من أشكال الحياة. بل كانت بداية مادية مرئية وملموسة.
أعدّ فون باير للبحث ولاحظ هذه البيضة أولاً في كلب يملكه أستاذه في الفيزيولوجيا كارل فريدريك بورداك (Karl Friedrich Burdach) في دوربات، روسيا. إن استعداد بورداك للتضحية بكلبه منحه بعض الاعتراف بالفضل في هذا الاكتشاف العظيم أيضاً.
لم يرَ فون باير البيضة فحسب، بل حدّد أيضاً أن من المرجّح أن تكون انتقلت من الأم بدلاً من نشوئها عن طريق التولّد التلقائي بسبب الإخصاب. وكما كتب في نهاية دراسته لبيوض الثدييات، "كل حيوان ينشأ من الجماع بين الذكر والأنثى يتطوّر من بيضة، ولا يتكوّن شيء من سائل "تكويني" خالص".
عند هذه المرحلة، استحكم الخلاف بين مواقف دعاة التخلّق المتوالي والتشكّل المسبق، ولم يكن في استطاعة اكتشاف تجريبي بمفرده أن يزحزح أتباع كل موقف عن معتقداته اليقينية. وكما في النقاشات الجارية اليوم، لم يكن النقاش يتعلّق بالعلم وما يمكن ملاحظته بقدر ما يتعلّق بالافتراضات غير العلمية. مع ذلك فإن اكتشاف بيضة الثدييات أثار أسئلة إضافية ونهجاً جديداً، وأحدث فرقاً كبيراً على المدى الطويل.
إذا كانت حياة كل فرد تبدأ بمثابة بيضة، أو إذا كانت البيضة موجودة في مرحلة مبكّرة على الأقل، مثلما بيّن فون باير وجودها لدى الثدييات، فإن هناك استمرارية مادية بين التولّدات. وعلى علماء الأجنّة على الأقل أن يسألوا عن طبيعة البيضة وما مقدار ما تحمله معها من الوالد إلى النسل.
يمكن أن تنشأ حياة جديدة من خلال عملية تخلّق متوالٍ، مثلما كان أرسطو على يقين من ذلك. ويمكن أن تأتي إلى الحياة من لا حياة في مرحلة ما، وستأتي مرحلة من دون شك عندما تصبح مستقلة وحية. ولا بدّ من فهم هذه اللحظة للتولّد والعمليات التي تطلقها من خلال البيضة المادية، واستمرارية اتصالها بالأم.
غالباً ما نركّز على القفزات العظيمة للنظرية والتفسير التي تقودنا إلى الأمام نحو فهم جديد. ولا نرى عادة بالسهولة نفسها تراكم البيانات على نحو دؤوب أو نعتبر تقدّم الأساليب والمعدات أمراً مهماً. ربما تعوّدنا عن طريق التفكير في "الثورات العلمية" أن نمنح الفضل للأفكار الخلاّقة ومن ثمّ أن نمنح قيمة أكبر للنظرية والتفسير.
الأرض تدور حول الشمس، والشمس ليست مركز الكون: عند العودة إلى الماضي بدت هذه الرؤية للعالم الذي تشكل الشمس مركزه مختلفة اختلافاً جذرياً عن التفسير السابق بحيث ظل اهتمامنا متركّزاً على الإنجازات النظرية لكوبرنيكوس (Copernicus) وغاليليو (Galileo) وسواهما.
إننا نعرف بطبيعة الحال أن غاليليو وجّه منظاره إلى السماء وحقّق اكتشافات مهمة، لكن الجمهور العام لا يدرك على الأرجح إسهامات غاليليو في رؤيتنا لأقمار المشتري أو الفوّهات القمرية بقدر ما يعرف ما تعنيه "الثورة الكوبرنيكية".
وعلى نحو ذلك، نحن نعرف أن داروين قدّم لنا نظرية التطوّر عن طريق الانتقاء الطبيعي، مع ذلك فإن النتائج ذات الأساس الصلب لدراساته للأحافير أو استيلاد الحمام غير معروفة بالقدر نفسه. مع ذلك، فإن هذه الأمثلة أيضاً عن ممارسة العلم مألوفة لدى عموم القراء أكثر من تفاصيل علم الأجنّة.
في ما يتعلّق بدراسة الحياة، كان التقدّم في الفحوص المجهرية ضرورياً جداً لتجاوز الصورة الأرسطية للسوائل التي تمتزج معاً بطريقة غامضة. فقد مكّن المجهر ذو العدسة الواحدة ليفينهوك من رؤية النطاف على سبيل المثال (على الرغم من أنه خلص إلى أن النطاف هي طفيليات).
اعتقد ليفينهوك أنه يستطيع رؤية حيوانات دقيقة أو "حُوَينات" (Animalcules)، تتزاوج وتنشئ الحيوانات، وهو تفسير سرعان ما فقد حظوته في وجه تراكم الأدلة الناتجة عن المجاهر الأقوى والأساليب المتقدّمة.
لقد أكّد أن النطاف تدخل البيضة وتنضمّ إليها، لكنه لم يلاحظ الاتحاد بوضوح فجوبه ادعاؤه بنزاع شديد. وفي حين أن ليفينهوك اعتمد على العدسة الأحادية لمجهر بسيط، استخدم آخرون عدستي المجهر المركّب.
ظلّت المزايا محدودة في البداية، بل كان في وسع بعض الملاحظين أن يروا أفضل بالعدسة الأحادية بسبب التشوّهات في الجهاز المركّب. لكن بحلول عشرينات وثلاثينات القرن التاسع عشر، قلّلت التحسينات التي طرأت على العدسات الانحرافات ووسّعت المدى الفعّال للتكبير. ومع تحسّن العدسات تحسّنت أيضاً أساليب إعداد مواد الدراسة وحفظها.
استخدم فون باير وآخرون تقنيات كشفت بوضوح أكبر تفاصيل الحياة الجديدة الناشئة. راقب فون باير تطوّر بيضة دجاجة، مثلما فعل أرسطو وآخرون، وشاهد أكثر من أسلافه بكثير لأنه استخدم مجاهر أفضل وتقنيات متقدّمة لتقسية البيضة و"تثبيتها". فالبيضة العادية، كما يعرف كل من طها فطوراً تقليدياً، شديدة السيولة والمرونة.
وقد حقّق ماورو روسكوني (Mauro Rusconi) الاكتشاف المهم بأن غلي البيوض في مختلف مراحل التطوّر يحفظ تفاصيل التطوّر الجنيني. فسمحت عملية التثبيت هذه للمراقبين في الواقع بوقف عملية التطوّر عند لحظة معيّنة وفحص شرائح من المراحل التطوّرية المختلفة. وافترضوا أن ما رأوه يقود إلى معرفة سليمة عن عمليات الحياة العادية.
طوّر فون باير هذا النهج واستخدم القدرات المحسّنة للمجاهر ليحقّق مزايا مهمة. فعمل على دراسة البيضة المقسّاة وتفحّص السطح الخارجي أولاً ثم قشّر الطبقات ونزعها لينظر في الداخل. وكتب عن الباحثين السابقين الذين لم يتمكّنوا من رؤية التفاصيل "لأنهم كانوا من دون شك لا يعرفون أي طريقة لنزع بياض البيضة من أجل تقسية الصفار وبالتالي تحليله".
كانت بيوض الدجاج مفيدة لاختصاصيي الأجنّة الأوائل على وجه الخصوص لأنها كثيرة، وتوجد طازجة على مدار السنة، وغير مكلفة نسبياً، وسموحة بقدر معقول تجاه نكزها ووكزها وحتى طهيها. كما أن بيوض الضفادع كبيرة وسموحة، وتتطوّر بأكملها خارج الجسم من دون قشرة غير شفّافة.
ولأنواع الضفادع المختلفة ألوان وأحجام مختلفة، كما أنها تتيح إجراء مقارنة مفيدة. في سنة 1834، وصف فون باير المراحل الأولى لتطوّر الضفدع. تطوّر البيضة ثلماً قليل العمق في البداية ثم يزداد عمقاً، ويقسم في النهاية البيضة إلى قسمين، ثم إلى أربعة، وهكذا. وقد تابع العملية حتى الانقسام العاشر في الضفادع البُنّية (انظر الشكل رقم 3).
وصوّر فون باير هذه الانقسامات بطريقة جميلة ووصف انتظام العملية التي رأى أنها تدحض التشكّل المسبق. كيف في النهاية يمكن أن يوجد كائن مسبق التشكّل في بيضة غير مخصّبة، وينقسم بواسطة هذا التثلّم، ويحتفظ بشكله؟ وأكّد فون باير أن ذلك عديم المعنى. مع ذلك لم يكن واثقاً من الأهمية البنيوية والوظيفية لتثلّم الأقسام وتقطّعها. هل العملية مصمّمة للسماح لكل قسم منفصل بالوصول إلى النطفة والارتقاء بأسباب التطوّر بالتخلّق المتوالي؟ ولماذا هذا التقطّع؟
قدّمت نظرية الخلية التي أدخلت حديثاً إطاراً للتفسير. مع ذلك استغرق الأمر حتى نهاية القرن التاسع عشر لحل التعقيدات التطوّرية للجنين وفهم هذا التطوّر من خلال الخلايا. بل استغرق مدة أطول لفهم لماذا يساعد التفسير الخلوي للحياة في التعامل مع العديد من المشاكل البيولوجية.
من المجدي تتبّع هذا الدرب من الاكتشاف والتفسير، لأن المسار يخبرنا كثيراً عن مقدار فهم الباحثين لاكتشافاتهم بشأن تعقيدات التطوّر وخياراتهم في أثناء ذلك.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]