دون ساق تقف عليها
2014 لنسامح التصميم
هنري بيتروكسكي
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
التكنولوجيا والعلوم التطبيقية الهندسة
الأطفال يحبّون القطارات؛ ويحبّون الرافعات أيضاً، وعندما كنت طفلاً، كانت إحدى قاطرات السكك التي معها رافعة مركبة فوقها نموذجي المفضل. وكان جسم الرافعة يدور على محور، والساعدان على جانبيه وترفع وتُنزل الذراع والكلّاب المتدلية منه. حالات الخروج عن السكة، التي تحدث بشكل متكرر، لا حاجة لتمثيلها، وقاطرة الرافعة كانت تُجلب إلى الخدمة لإعادة التسوية للعربات التي خرجت عن الخط (Rolling Stock) ورفعها لتعود إلى مساراتها. والرافعات كانت أيضاً ضمن مشاريعي المفضلة لطواقم تشييد المباني (Erector Set Building). وأول طاقم عملت عليه كان محدود الحجم والسعة. وعندما بدأت أحلم في أن انتقل إلى طواقم تشييد أكبر وأكثر براعة، كانت الرافعات التي شيدتها في مخيّلتي أكبر طولاً، وأكثر تحرّكاً، وتوجّه بمحرّك (Motor-Driven). ولكن الأطفال، وهم يكبرون، يبدأون بالشعور بالملل من تجميع وتفكيك نفس الحمّالات الفولاذية والبكرات والسواعد في دفء وأمان بيوتهم، ولذا يتطلّعون خارجاً لمغامرة أكبر – حتى إن كانت تعني المخاطرة بالفشل، فالأطفال يتعلّمون كثيراً من اللعب.
قضيت الأثنتي عشرة سنة الأولى من حياتي في جزء من بروكلين حيث البيوت المتلاصقة والمماشي الجانبية المثقّبة، ونوافذ النفق المشبكة كانت مصدراً كبيراً للمتعة بالنسبة للأولاد، حيث تأتي أصوات القطارات المقبلة من خلالها وعصف الهواء الممتدّ المدفوع كالمكبس في مقدمتها من خلال الأنفاق المظلمة. تلك كانت التيارات الصاعدة التي تنفخ بالتنورات والفساتين – من ضمنها [فستان] مارلين مونرو في الصورة الشهيرة – ولكن بالنسبة لأولاد غير بالغين فإن هذه الحالات أقل جذباً من التيارات الهوائية التي ترفع مظلات المناديل المربوطة إلى حلقات معدنية ضدّ قوة الجاذبية، والأمر الأكثر جاذبية وديمومة بالنسبة لشبابيك الأنفاق، مع ذلك، كان الكنز الذي يسقط فيها سهواً من الناس بينما هم يسرعون للحاق بالقطار المسبوق بتباشير الصوت والريح.
تبعاً لتشكيلة المحطة، فالأرضية التي تحت تجويف شبابيك المماشي الجانبية قد تكون 15 أو 20 قدماً تحت مستوى الشارع. وبالأخص في حوالي منتصف النهار، عندما تشرق الشمس بعيداً في الفراغ، كنا، نحن الأولاد، نرى الجوائز القابعة في الأسفل: قطع نقود، ومفاتيح، وأقلاماً، وخواتم، وأقراطاً، وأصبح التقاط هذه القطع الثمينة قضاء وقت وممارسة لصبر طفولي بالنسبة لنا، والآلة الوحيدة التي احتجناها كانت خيطاً ذا طول مناسب، وثقل – كقفل صغير قد فُقد مفتاحه من زمن – كي يربط في نهاية الخيط، وقطعة من العلكة اللزجة. (في بعض الأحيان يتم استبدال القفل والعلكة بقطعة مغناطيسية صغيرة، ولكن ثبت أنها غير مؤثّرة في استرجاع معظم هذه الكنوز). ومثلما تتحرّك رافعة الجسر فوق أرضية المصنع، كنا نضع أنفسنا فوق الأشياء التي نرغب في التقاطها وندلي الخيط من خلال خلايا المشبك الذي بتقديرنا أنه فوق هدفنا. وكانت هذه خطوة حاسمة، بالنسبة للخلايا ذات الأبعاد 1 × 2 إنش التي تسمح بقدر محدود من الضبط الأفقي الدقيق. فإن أخطأنا هدفنا بمقدار كبير، كان علينا رفع الخيط وإعادة إنزاله من خلال خلية أخرى.
أصبحنا ماهرين في تموقعنا فوق ثروتنا، لكن كانت تلك هي بداية المهمة. فعندما نرى أن العلكة اللزجة قد أصبحت فوق ما نأمل التقاطه، عندئذٍ ندع الثقل يسقط بحرية خلال الإنشات الأخيرة لكي ننجز الالتصاق. ثم كانت تأتي مرحلة الاسترجاع، حيث كان يتمّ رفع الخيط بسرعة ثابتة، ولكن، كما هو الحال في أي نظام، فقد كان ذلك أمراً عرضة للفشل في جميع مراحل العمل، ويقيناً، عندما تقترب الجائزة – لنفرض أنها قطعة نقود، كما هي الحال عادة – من الجانب السفلي من الشباك، كانت هناك أمور كثيرة قد تُخفق، العلكة، التي تكون قد تلوّثت بالأوساخ بسبب المرات التي لم تُصب الهدف، قد لا تستطيع الالتصاق بقطعة النقود، وقد تسقط إلى الأسفل قبل وصولها إلى أعلى؛ أو قطعة النقود، إن لم تكن ممركزة تماماً تحت الثقل، قد تكون إحدى حافاتها بارزة بما فيه الكفاية لكي تصطدم بجانب خلية الشباك وبالتالي قد تُنتزع وتسقط بسبب الجاذبية؛ أو قد نستطيع إخراج القطعة بسلام من الشباك ولكن حماسنا لامتلاكها يجعلها تنزلق من بين أصابعنا لتسقط ثانية في التجويف. خاصة إن كان الهدف هو الربع [ربع الدولار]، والذي لم يكن من السهولة إخراجه من خلال الفتحة خاصة إذا كان بحالة أفقية، عندئذٍ نراقب مسار سقوطه بدقة ونحوّل جسم رافعتنا إلى موقع استقراره الجديد ونحاول ثانية، وقد تعلّمنا من حالات فشلنا، بالطبع، ونجاحاتنا ازدادت تبعاً لذلك.
بقدر قساوة صلابة المشبك الفولاذي على أكواعنا وركبنا، كنا نستطيع أن نقضي ساعات على شباك النفق، وبدأنا نتعلّم بالغريزة وتيرة مرور القطارات وما يسبقها من هبّات هواء تضايق خطوطنا وتُسقط بضاعتنا، وما كنا نحصل عليه بعد مكوث طويل قد تكون حفنة من النقود المعدنية – كانت المفاتيح والحليّ تحظى بقليل من اهتمامنا – وقلما تجاوزت الدولار أو ما يقاربه، ولكن ربما ما كان أهم من النقود، التي عادة ما تُصرف على حلوى رخيصة (Penny Candy) كانت متعة الممارسة – ولذة الإنجاز – التي حازت على إعجابنا وأسرت مخيلتنا. وكنا نحوم كالهيلوكوبتر حول أرض المعركة أو السفينة الغارقة، منتشلين جثث الجرحى. لقد كنا رافعات بشرية، هيلوكوبترات أمتعة من نوع ما، ولم يكن يخطر ببالنا أن بعضنا سيكونون مهندسين، مسؤولين، ليس لتشغيل ولكن لتصميم الأذرع والحبال ولرافعات بناء حقيقية والسيطرة عليها، والتي ليس من المفروض لها أن تفشل في العمل.
التصميم هو عمل مكتبي خلف الكواليس؛ البناء هو معركة في الجبهة. تطوير المخطّطات لجسر ذي مجاز طويل أو مبنىً عالٍ قد يستمرّ في فضاءٍ سيبرانيٍّ خيالي يتمّ الوصول إليه من خلال مطراف حاسوب في مكتب مُكيّف، لكن تحقيق تصميم كامل عبر نهر واسع أو في قلب مدينة مزدحمة السكان سيتمّ بالضرورة في العالم الحقيقي، حيث المخاطر عالية والهفوات قد تكون قاتلة. ففي الفضاء السيبراني، الخالي من الكتلة، حيث تتحرّك المعلومات (نظرياً) بسرعة الضوء، كلمات ثقيلة وأرقام مذهلة يمكن قصّها ولصقها من هنا إلى هناك برمشة فأرة [الحاسوب]. وفي فضاء الأرض، مع ذلك، حيث قوانين الجاذبية والتغلب عليها يستغرق وقتاً وجهداً، قد يتطلّب الأمر عشرات آلاف الأميال من الأسلاك الفولاذية بين المراسي وفوق أبراج الجسور المعلّقة الشاهقة الارتفاع، وآلاف الأطنان من العارضات الفولاذية التي يتمّ رفعها في الهواء ثم يتمّ تركيبها مع بعضها البعض بلمسة خفيفة كالريشة، وبسرعة جنونية مقصودة فوق مسارات سفنٍ مزدحمة، وكذلك بالنسبة للمباني العالية، حيث تُرفع العارضات والأعمدة من شوارع تجارية مكتظّة وتُنقل فوقها.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]