العلوم الإنسانية والإجتماعية

عدم المساواة في مجتمعات السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

يمكن اعتبار عدم المساواة الاقتصادية من جهة مجرّد مقياس موضوعي للاختلاف بين الناس من حيث الموارد الاقتصادية المتاحة لهم. ولكنّ آراءنا غالباً ما تكون حاسمة حيال عدالة التباينات. في هذا الإطار، يدلّل العديد من علماء الاقتصاد على أنّ توزيع المداخيل التي تنتجها الأسواق هو عادل كونه يعكس مساهمات مختلف الأشخاص في الاقتصاد. إلّا أنّ هذا الرأي ليس محطّ إجماع. وعليه، فإنّ فهم عدم المساواة لا يتطلّب الانتباه إلى كيفية توزيع الموارد وحسب، بل أيضاً إلى وجهات النظر المختلفة حول كيف يجب أن يتمّ توزيع الموارد. المسألتان مرتبطتان، وطريقة قياسنا لعدم المساواة، والموارد التي نشملها، وما نقارن، والفترة الزمنية التي نعتمدها؛ كلّها عوامل تتأثّر بمفهومنا لأهميّة عدم المساواة.         

من الناحية التقليدية، ثمّة مقياسان رئيسيان لعدم المساواة بين الأفراد (راجع المربّع 1.4). المقياس الأول هو الدخل، الذي يمثّل سيلاً من الموارد يتلقّاه المرء على مرّ الزمن. أمّا الثاني فهو الثروة، التي تمثّل مخزون الموارد المملوكة. وقد تركّز معظم اهتمام علماء الاقتصاد على الدخل باعتباره مقياس عدم المساواة. يعزى ذلك جزئياً إلى كوننا نملك بيانات حول الدخل أكثر مما نملكه حول الثروة، وأيضاً إلى كون الدخل عادة مؤشراً أكثر دقة على مستويات المعيشة. إذ إنّ الشخص الذي يملك أصولاً ماديّة – عقاراً سكنياً مثلاً – ولكن من دون دخل ثابت، لن يتوافر له المال الكافي لتلبية احتياجاته الأساسية.           

المربع 1.4 قياس عدم المساواة

يعتبر الدخل مؤشراً على مستوى معيشتنا، ولكن على غرار مقاييس النمو الاقتصادي التي تطرّقنا إليها في الفصل الثالث، لا بدّ من الحذر. فمعرفة مستوى دخل الشخص لا تكشف لنا غيرها من الظروف ذات الصلة. على سبيل المثال، غالباً ما يتحمّل أهل الأطفال الصغار تكاليف مرتفعة وهم يحتاجون إلى موارد أكثر من المتقاعدين المتقدّمين في السنّ لتحقيق مستوى المعيشة نفسه. أضف إلى ذلك أنّ الدخل قد لا يشمل سوى الموارد النقدية، وبالتالي فإنّه يستثني غيره من الموارد المفيدة، حيث إنّ الاستفادة من عمل الزوجة غير المأجور، أو من الخدمات العامة المجانية، أو من الموارد المشتركة للأسرة، تعتبر موارد قد يتعزّز من خلالها مستوى معيشة الفرد.

نظراً لهذه التعقيدات، طوّر علماء الاجتماع عدّة مقاييس لتوزّع الدخل. وفي هذا السياق، تركّز بعض الدراسات على توزّع الدخل الفردي، فيما تركّز أخرى على توزّع دخل الأسرة. وعادة ما تعكس هذه الأرقام توزيعاً مرجّحاً لدخل الأسرة، أي أنّه يتمّ تعديل الدخل ليعكس احتياجات الأسر المختلفة، من حيث الحجم (عدد الأشخاص) والتركيبة (الأطفال مقابل البالغين).

وعادة ما يتمّ تحديد مقاييس عدم المساواة من خلال ترتيب جميع الأسر من الأفقر إلى الأغنى. عندها يكون بالإمكان التعبير عن مستوى عدم المساواة بأكثر من طريقة، كمقارنة عدة مجموعات أو تحديد درجة إجمالية لعدم المساواة. تنطوي الطريقة الأولى على تقسيم السكّان إلى عشر مجموعات متساوية، تمثّل كلّ منها عشرة في المائة من إجمالي  السكّان. تطلق على هذه المجموعات تسمية الشرائح العشرية. تجدر الإشارة إلى أنّ التقسيم يتيح مقارنة المجموعات، وقد يتمثّل ذلك مثلاً في مقارنة فجوة الدخل بين الشريحتين العشريتين الأولى والأخيرة.

نشير في السياق عينه إلى "معامل جيني(Gini Coefficient) "، الذي وضعه عالم الاجتماع الإيطالي كورادو جيني (Corrado Gini) ، وهو من المقاييس الأخرى لعدم المساواة. هذا المعامل عبارة عن درجة تتراوح بين الصفر والواحد، حيث يدلّ الصفر على مساواة تامة (الدخل متساوٍ تماماً بين الجميع) والواحد على انعدام تام للمساواة (شخص واحد يحصل على كلّ الدخل). يعتبر معامل جيني طريقة فعّالة لمقارنة عدم المساواة بين البلدان أو على مرّ الزمن داخل بلد واحد. على سبيل المثال، استعانت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي بمعاملات جيني لإثبات أنّ عدم المساواة في الدخل ازداد في معظم البلدان الغنية منذ الثمانينات، وأنّه لا تزال ثمّة فروقات كبيرة بين البلدان (راجع منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي 2010، الجدول رقم 1).

إنّ نمط دخل الفرد هو نتيجة مشاركته الاقتصادية، علماً بأنّ الاختلاف في أنواع المشاركة ومستوياتها يمكن أن يؤدّي إلى تفاوت شديد على المستوى الاجتماعي. تنتج المداخيل من الإيرادات – "عوائد"(Returns)  عوامل إنتاج مختلفة – ومن بيع أصول متنوّعة. إذ يمكننا، على سبيل المثال، أن نحقّق مدخولاً من العمل على شكل أجور أو مرتّبات، أو عبر استثمار المال والحصول على الأرباح أو الفوائد، أو من خلال تأجير الأصول كالأراضي والمباني. كما قد نحصل على دخل "غير متوقّع"(Windfall)  نتيجة بيع أصول بسعر أعلى من السعر الذي دفعناه لقاءها في الأصل. تُطلق على هذا النوع من المداخيل تسمية الأرباح الرأسمالية.

ويمكن لمخزوننا من الثروات أيضاً أن يؤثر في دخلنا. فالواقع أنّ إيرادات عوائد الأصول، كأرباح الأسهم أو إيجارات العقارات، قد تكون كبيرة لدرجة أنّ المشاركة في سوق العمل لا تعود ضرورية! لكن بشكل عام، لا تنطبق هذه الحالة إلّا على نسبة ضئيلة من الأشخاص في المجتمع. في المقابل، يتلقّى العديد من الأشخاص تحويلات، كالمساعدات الأسرية الحكومية أو دعم الدخول عندما يعجزون عن العمل. وفي هذا الإطار، غالباً ما يكافح العاطلون عن العمل، لا سيّما الذين يعانون من فترات طويلة أو متكرّرة من البطالة، لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهم الأكثر عرضة للعيش في الفقر.

وجود الفقر

في حين يشير عدم المساواة إلى الحالات التي يمتلك فيها بعض الأشخاص أكثر من غيرهم، يحدث الفقر عندما لا يمثلك الشخص الموارد اللازمة حتى لتأمين متطلّبات الحياة الأساسية. ومع أنّ العديد من علماء الاقتصاد يعتبرون أنّ شيئاً من عدم المساواة مفيد، إلّا أنّ استمرار الفقر حول العالم وفي البلدان الغنية اجتذب اهتماماً أكبر. الجدير بالذكر أنّ ثمّة تصوّرين شائعين للفقر – أحدهما مطلق والآخر نسبي – غالباً ما يستخدمان في سياقات محدّدة.

يستخدم مفهوم الفقر المطلق أساساً في البلدان الفقيرة و"النامية" (Developing) حيث لا يحصل الكثيرون على المياه النظيفة أو الغذاء أو المأوى. ويقدّر البنك الدولي هذا "الفقر المدقع" (Extreme Poverty)  بمستوى من الموارد يساوي تقريباً 1.25 دولار أميركي في اليوم. كما أنّ نسبة الأشخاص الذين يعيشون في هذه الحالة يتراجع عالمياً، من أكثر من 40 في المائة في العام 1990 إلى 25 في المائة في العام 2005 (البنك الدولي 2008). إلّا أنّ الأزمة المالية العالمية الأخيرة أوقعت حوالى 64 مليون شخص إضافي في فقر مدقع (Habib et al, 2010) . أمّا في البلدان الغنية "المتقدّمة"، فيعتبر الفقر المطلق مقياساً أقلّ فائدة.          

غالباً ما يستعاض عنه بمفهوم الفقر النسبي (Relative Poverty)، الذي يفترض بأنّ الموارد اللازمة لتأمين متطلّبات الحياة الأساسية تختلف بين البلدان وبمرور السنوات. يشير الفقر النسبي إلى المقاييس التي تهدف إلى تحديد الأشخاص الذين يفتقرون إلى متطلّبات الحياة الأساسية بحسب معايير مجتمعهم. في أستراليا، في سبعينات القرن الماضي، قامت لجنة تحقيق ملكية في شؤون الفقر بتحديد "خطّ للفقر" ( (Poverty Line استناداً إلى تكلفة مجموعة من السلع والخدمات الأساسية" (الحكومة الأسترالية 1975)، وهو ما يعرف غالباً باسم خطّ فقر هندرسون (Henderson Poverty Line). وثمّة مقياس آخر يشيع استعماله، ألا وهو نسبة الأشخاص الذين يحصلون على أقلّ من نصف متوسّط الدخل، ما يفترض بأنّ إمكانيّة وصولهم إلى الموارد منخفضة نسبياً.

وقد انتقد بعض علماء الاقتصاد مقاييس الفقر النسبي باعتبارها شبيهة جداً بمقاييس عدم المساواة. فرأى هؤلاء أنّ ازدياد مداخيل الأغنياء مع عدم تراجع مداخيل الفقراء (مع أنّ هذا حدث فعلاً في بعض البلدان)، لا يجب أن يكون مدعاة للقلق. في المقابل، تشير أدلّة أخرى إلى أنّ التفاوتات الكبيرة في البلدان الغنية ينبغي أن تكون مصدر قلق بما أنّها تزيد من أشكال الخلل الاجتماعي المرتبطة بالفقر، ومنها ضعف الصحة البدنية والعقلية(Wilkinson & Pickett 2009) . ذلك أنّ استمرار عدم المساواة والفقر على الرغم من الثروة الكبيرة المنتجة في الاقتصادات الرأسمالية، يلفت الانتباه إلى العمليات السياسية والتاريخية التي تحدّد توزيع الموارد الاقتصادية، وهي مسألة نناقشها في جزء لاحق من هذا الفصل.

كيف غيّرت الرأسمالية عدم المساواة

تزامن تطوّر مجتمع السوق مع تغيّرات سياسية وثقافية بارزة وفّرت في الوقت عينه الأسس لإنتاج السلع الرأسمالية. وقد عارضت أفكارُ عصر التنوير حول الحرية الفردية والمساواة، عدم المساواة وعلاقات القوة التقليدية للنظام الإقطاعي. فبينما كانت حقوق الشخص ودخله وثروته تعتمد على رتبته أو طبقته الاجتماعية، كما ورثها عن والديه، وفّر اقتصاد السوق، أقلّه نظرياً، فرصة لـ"التحرّك" حيث يمكن للأفراد أن يحسّنوا موقعهم لجهة توزيع المداخيل.     

في السياق عينه، أعطى نظام جديد للحقوق الفردية، قائم على المساواة أمام القانون، الحقوق القانونية نفسها للمواطنين. وقد وضعت حقوق الملكية الفكرية وإنشاء حكومة دستورية يحكمها البرلمان إطاراً لحمايتها من خلال سيادة القانون. إنّ ظهور هذه المساواة السياسية إلى جانب نشأة اقتصادات السوق، اعتُبر عملية منسجمة على نحو متبادل من قبل العديد من مفكّري عصر التنوير، إذ إنّ دعم جون لوك (John Locke)  (1976 [1689]) للثورة الإنجليزية في العام 1688 جمع ما بين الدفاع عن الحقوق الفردية والدفاع عن الملكية الخاصة. وفي مرحلة لاحقة، دمج جون ستيوارت ميل (1970 [1869]) تأييده للأسواق الحرة مع دعوات لمنح النساء حق التصويت.

كان الليبراليون الأوائل يعتقدون بأنّ حماية الملكية الخاصة أساسيّة حتّى يسعى الأفراد لتحقيق مصالحهم، وبأنّ مجتمع السوق أتاح التفاعل الحر بين الأفراد، بغض النظر عن العرق أو الدين أو (في حالة ميل) الجنس. إذ بدا وكأنّ نظام السوق الجديد يشير إلى نهاية الانقسامات الاجتماعية القديمة، وقد أطلقت على المجتمع الاستعماري للولايات المتحدة تسمية "أرض الفرص" (Land of Opportunity) تحديداً لأنّه كان غير مقيّد بالنظام الطبقي لـ"العالم القديم"(Old World)  في إنجلترا، إذ بدا وكأنّه يمنح كلّ الناس (البيض) فرصة النجاح. غير أنّ سكّان أميركا الأصليين والأفارقة الذين نقلوا عن طريق تجارة الرقيق، على سبيل المثال، غالباً ما كان يتمّ إقصاؤهم بوحشيّة.

والواقع أنّ تطوّر مجتمعات السوق أسوة بعصر التنوير كان بطيئاً ومتفاوتاً، ولا يزال غير مكتمل في كثير من الحالات. لم يكن المفهوم الحديث للمساواة – أنّ جميع الناس يولدون متساوين – يطبّق في البداية إلّا على المواطنين الذكور، والبيض، والأثرياء نسبياً. ولم تطالب فئات اجتماعية أخرى بحقوق المواطنة لها إلّا في وقت لاحق. تشمل الأمثلة على التقدّم الملحوظ نحو المساواة في بعض البلدان إنهاء الرقّ المقنن والفصل الرسمي بين الأعراق المختلفة، بالإضافة إلى الاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية وحقّ النساء في التصويت والتملّك. تجدر الإشارة إلى أنّ مجتمعات السوق ترتبط بوضوح بتصوّر مهمّ للمساواة، إلّا أنّ هذا التصوّر يقتصر على المساواة "الرسمية" (Formal) .

هذا يعني بأنّ الأشخاص "متساوون أمام القانون" ويتمتّعون بالحقوق القانونية والسياسية عينها، بما فيها الحقّ في الشراء والبيع وفي أن تكون ممتلكاتهم محمية. غير أنّ هذه المساواة القانونية تشدّد على "الأصول القانونية"  (Due Process)بدل الاهتمام بالنتائج الفعليّة. إنّ الأشخاص المختلفين يتّخذون خيارات أساسية مختلفة تتحدّد بحسب قدرتهم على كسب المال في السوق أو التحكّم بثروة متراكمة (أو موروثة). بالتالي، فإنّ الأفراد الذين يتمتّعون بالمساواة القانونية قد لا يتمتّعون بالإمكانية الفعلية نفسها للحصول على "حياة جيّدة" تشمل الخدمات الصحيّة أو عملاً مرضياً، على سبيل المثال. والحقيقة أنّ عدم المساواة الاقتصادية من السمات الدائمة لمجتمعات السوق وقد برزت بشكل خاص في مرحلة التصنيع الرأسمالي في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

حدّد عالم الاقتصاد سيمون كوزنتس(Simon Kuznets)  (1955) سببين رئيسيين لذلك، أوّلهما أنّ الأشخاص الذين يملكون ثروات أكبر تكون معدّلات الادّخار الخاصة بهم أعلى، ما يسمح لهم بمراكمة المزيد من الثروات. وقد أدّى ذلك إلى عدم مساواة كبيرة لأنّ معظم الناس كانوا يعيشون حياة الكفاف (ولم يكونوا يستفيدون من دعم الدخول في فترات الركود الاقتصادي كما هو الحال اليوم). أمّا السبب الثاني فهو أنّ الرأسمالية شجّعت التحضّر، وفي حين أنّ متوسّط الدخل في المدن أعلى منه في المناطق الريفية، إلّا أنّ الدخول أقلّ مساواة وأكثر تقلّباً. كما اعتبر كوزنتس بأنّ الظروف التنافسية للصناعات السريعة التطوّر كانت تعني توزيعاً متقلّباً إلى جانب كونه غير متساوٍ للدخول في الأسواق. وكانت النتيجة أن أصبح بعض الأشخاص أثرياء جداً في حين استمرّ الكثيرون بالعيش في فقر مدقع.

في ظلّ هذه الظروف، وسّعت الحركات الشعبية مطالبها من المساواة القانونية إلى المساواة الاقتصادية، وغالباً ما ربطت ذلك بقيمة الحرية الفردية العائدة لعصر التنوير. غير أنّ معنى الحريّة نفسه محلّ نزاع، فقد دلّل أشعيا برلين (Isaiah Berlin) (1969) على أنّ الليبرالية التنويرية تنطوي على فكرة الحرية السلبية، حيث كان الناس قادرين على متابعة "حياتهم الجيّدة" لأنّ ممتلكاتهم كانت محمية من السرقة والاحتيال والعنف. في المقابل، تعني فكرة الحرية الإيجابية منح الناس إمكانية الوصول إلى الموارد، كالرعاية الصحية والطعام والإسكان، للحدّ من الارتياب وتمكينهم من المشاركة بشكل كامل في المجتمع. أمّا عملياً، فإنّ تأمين أيّ من هاتين الحريتين قد يعني انتهاك الأخرى (Berlin , 1969). في هذا السياق، تتأثّر آراؤنا حول عدالة التباينات الناتجة من توزيع السوق في الرأسمالية بحسب تقديرنا للحرية الإيجابية أم السلبية.

 

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى