علم الوراثة المندلية: مبدأ عمله ونتائجه
2013 لمن الرأي في الحياة؟
جين ماينشين
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
في حين كان اختصاصيو الأجنّة التجريبيون منهمكين في تقطيع الحيوانات لدراسة التجدّد، والتوالد البكري الصناعي المحرّض، وزرع أجزاء من الأجسام، وزرع الأنسجة، كان علماء آخرون يدرسون الوراثة.
لم يُنكر اختصاصيو الأجنّة، كما أشير سابقاً، أهمية الوراثة. لكنهم وضعوها جانباً هي وما اعتقدوا أنه يتوافق مع التشكّل المسبق.
وبالنظر إلى أن البيضة موروثة، فإن هناك شيئاً مهماً يحدث في النواة والصبغيات. لكن ربما قال اختصاصيو الأجنّة إننا سندرس التطوّر وتخلّق الأجنّة من خلال عملية التمايز، لأن ذلك ما يثير اهتمامنا.
لم يكن إدموند بيتشر ويلسون من دعاة هذا الرأي، كما أظهر في دراسته الرائعة "الخلية في التطوّر والوراثة" (The cell in development and inheritance) في سنة 1896 وفي سنة 1900 ثانية. لكنه انتظر أكثر من عقدين لإنتاج طبعته التالية، وكانت قد توسّعت وتطوّرت كثيراً.
وكما أشير سابقاً، كانت كثير من الأشياء المهمة قد تغيّرت بحلول سنة 1925 بحيث أصبحت الطبعة الثالثة كتاباً جديداً، ذا وجهة نظر جديدة عن الخلايا والكائنات الحيّة. وكان علم الأجنّة التجريبي أحد التغيّرات المهمة، والنظرية المندلية الصبغية للوراثة شكلت تغيّراً آخر، وجمع ذلك بدوره العديد من خيوط الأبحاث معاً.
في نهاية القرن التاسع عشر، أحرز اختصاصيو السيتولوجيا المتمرّسون، ومنهم تيودور بوفري، تقدّماً ملموساً في وصف تفاصيل ما تقوم به الصبغيات في كل مراحل التطوّر. لم يكن في وسع بوفري بطبيعة الحال أن ينظر داخل النواة في أثناء انقسام الخلية.
فذلك مجال يتطلّب جهداً دؤوباً في التثبيت والحفظ والتلوين والوصف والتفسير. وعندما يقوم الباحث بقتل خلية معيّنة لدراستها، لا تعود الخلية نفسها متاحة لمزيد من الدراسة.
قد يقول قائل إن مبدأ الريبة ينطبق: ليس من الممكن دراسة الخلية المتغيّرة ومعرفة ما الذي ستتغيّر إليه أو منه أيضاً.
لذا مع أن بوفري وويلسون وآخرون استنتجوا من ملاحظاتهم أن هناك صبغيات في النواة وأن هذه الصبغيات نفسها تبقى عبر الانقسام الخلوي بعد انقسام الخلية، فإن آخرين خالفوهم الرأي. وأصرّوا على أن الصبغيات تتكوّن من تخثّرات مؤقّتة للكروماتين (مادة قابلة للتلوّن) وأن البنى الصبغية الظاهرة زائلة.
تتشكّل هذه ثم تنفصل، وتعاود التشكّل بطرق أخرى، وهكذا. وليس هناك من طريقة للتحقّق بالأدلة الحالية، مع أنه بدا أن أفضل نهج يشتمل على دراسة أكبر عدد ممكن من الخلايا، قدر ما أمكن من مرات، وجمع البيانات وتركيبها ومقارنتها. أصبحت هذه الأبحاث في نهاية المطاف أساس فهمنا الحالي للجينوم (المجموع الجيني).
كان رأي بوفري، الذي عزّزه ويلسون وطلابه، أن الصبغيات مستقلة ومحدّدة وأنها تحافظ على انفصالها طوال حياة الكائن الحيّ. وهي تنقسم في أثناء انقسام الخلية لكنها تبقى مع ذلك مستقلة ومتميّزة.
وقدّم بوفري الحجّة على مبدأ "استمرار الصبغيات" ومبدأ "فردية الصبغيات" في عمله عن الدودة الممسودة التي توجد في الجياد، "الصفر الكبير الرأس" (Ascaris megalocephala). وهي وسط ممتاز لأنها تمتلك عدداً صغيراً من الصبغيات المرئية نسبياً. مع ذلك لم يقتنع الجميع، بعضهم لأنهم لم يوافقوا على أن للصبغيات أهمية كبيرة. وكان بوفري بحاجة إلى مزيد من الدعم لتفسيره.
قدّمت الوراثة المندلية ذلك بالضبط. حصل غريغور مندل، الراهب الرائع الذي عمل في حدائق الدير على زراعة البازلاء العطرة، على اهتمام كبير في تاريخ العلوم. وبعضهم رفعه إلى مكانة قديس تقريباً، في حين سعى آخرون إلى الانتقاص من أهميته بالإشارة إلى أنه لم يقنع أحداً بنظريته في أثناء حياته. وأصرّ بعض المنتقدين على أن بيانات مندل تبدو جيدة جداً إحصائياً بحيث لا بدّ من أن تكون ملفّقة.
في سنة 1900 "أعيد اكتشاف" عمل مندل على يد ثلاثة باحثين مختلفين، بعد أن أهمل لمدة خمسة وثلاثين عاماً. ومع أن ورقة مندل الأولية لم "تكتشف" قبل الآن، فإنها وقعت الآن على تربة خصبة. لقد تغيّر السياق منذ طبعتها الأولى في سنة 1865، واستحوذت أفكارها على اهتمام اختصاصيي البيولوجيا على الفور. بل إن من لم يقبل مقولة مندل تماماً وجد فيها بعض الإمكانيات.
كان مندل قد استنتج من دراساته أن ثمة انتظامين على الأقل يقعان في الوراثة. وقدّم الافتراض الأساسي بأن الأنماط تمرّر عبر الوراثة شيئاً مادياً ومحدّداً، وليس حيوياً أو عديم الشكل. لم يحاول مندل الادعاء بأنه يعلم ما هو ذلك الشيء في أوراقه القليلة المنشورة.
وإنما قال إن كل نسل يبدأ "بشيء" من والده و"شيء" من أمه. وهذه "الأشياء" هي عوامل ترتبط بالسمات (الخصائص traits)، واستنتج مندل أن كل خلّة ترتبط بعامل واحد أحياناً لكن بأكثر من عامل على العموم.
كان اكتشاف مندل الرائع كما يلي: إذا كان لدينا مجموعة من الكائنات الحية، يمكن أن يعدّ المرء توزيع اختلافات السمة ما ويكتشف انتظامات في نسب التعبير عنها. لنأخذ نتائج البازلاء الهجينة المصنوعة بتهجين نوعين يتسمان باختلافات مرئية بوضوح في عدد محدّد من الخصائص.
وجد مندل سبع خصائص، أو سمات، تكشف انتظامات يمكن التنبّؤ بها ولاحظ نسبة الأفراد الحاملين لكل من هذه الاختلافات لكل خاصية. إذا كان يتفحّص غلاف البازلاء، على سبيل المثال، فإنه يدوّن نسبة حبوب البازلاء التي لديها غلاف متجعّد وتلك التي لديها غلاف أملس.
وعندما جمع البيانات تمكّن من توقّع كم عدد التي لديها حبوب بازلاء صفراء أو خضراء، وأزهار ملوّنة معيّنة، وما إلى هنالك. وتستطيع الخلاصات الكمية التنبّؤ متى يمكن أن ينتج هجين ربع النسل بسمة معيّنة، أو نصفه أو ثلاثة أرباعه. أي أن دراساته منحته القدرة الإحصائية والتجريبية على التنبّؤ بنسبة كل اختلاف بين النسل في كل من العديد من الأجيال المتعاقبة.
يمكن على سبيل المثال تهجين الضروب الحمراء والبيضاء في بعض الكائنات الحية والحصول على نسل أحمر بأكمله لا قرنفلي. أو تهجين ضرب يحمل فيه جميع الأفراد ما أسماه مندل عاملاً "سائداً" في خاصيّة ما مع ضرب يحمل ما أسماه مندل عاملاً "متنحياً" في تلك الخاصية والحصول على نسل يحمل جميعه الخاصية السائدة – مثل لون أو حجم أو شكل. لكن التهجين المتصالب الذي يكون فيها لكل فرد مزيج من العوامل السائدة والمتنحية يؤدي إلى شيء مثير جداً للاهتمام من الناحية الحسابية.
لم تشمل خصائص مندل السبع لون الزهرة وإنما تفاصيل عن البذور والقرون، أو طول الساق أو موقع الزهرة. قارن مثاله الأول شكل البذور الناضجة: هل هي ملساء أم متغضّنة؟
التهجين المتصالب لهذين الضربين يعطي في الجيل التالي نسبة تساوي تقريباً (قريبة جداً من النباتات الحقيقية لأن الطبيعة شديدة التشوّش في الواقع) ثلاثة أنسال ذات خاصية سائدة إلى واحد ذي خاصية متنحية.
وعند تهجين هذه الأنسال فيما بينها اعتقد مندل أن الجيل التالي يجب أن يعطي نسبة 1:2:1 بين مختلف ائتلافات العوامل الموروثة.
لكن ما الذي يعنيه ذلك؟ كيف يمكن أن تكون النسبة 1:2:1 وهناك عاملان فقط يقابلان ضربين مختلفين يحملان تلك الخاصية المعيّنة بداية؟ فيما يلي رأي مندل: عندما يجتمع عاملان في الواقع بأربع طرق، تعطي اثنتان منهما النتيجة نفسها.
الاحتمالات هي هجين من (1) عامل سائد من الأم مع متنحٍّ من الأب، (2) سائد من الأم مع سائد من الأب، (3) متنحٍّ من الأم مع سائد من الأب، (4) متنحٍّ من الأم ومتنحٍّ من الأب. إذا لم تكن الخاصية مرتبطة بالجنس، وبما أن السائد يسود، كلما ساهم السائد تكون النتيجة خاصية سائدة.
لذا فإن النتائج الأربع المحتملة هي (1) سائد، (2) سائد، (3)، سائد، (4) متنحٍّ. عندما تكون الاحتمالات متساوية لكل توافق، فسيشمل النسل ثلاث نبتات تحمل الخاصية السائدة لكل نبتة تحمل الخاصية المتنحية. لكن لاحظ، كما فعل مندل، أن الخاصيات السائدة ليست متماثلة جميعاً: (1) و(3) هجينان حقيقيان.
وهما يظهران كنباتات ذات خاصيات سائدة، لكن يوجد مختبئاً في داخلها عوامل للسيادة والتنحّي. بالمقابل، (2) سائدة "صرف"، مثلما (4) متنحية صرف. وقد أدرك مندل أن للاختلاف نتائج تترتب على ما يحدث في الجيل التالي، وكانت قدرته على التوقّع هي التي جعلت وجهة النظر المندلية قوية جداً.
قادته دراساته إلى ما سمّي لاحقاً بقانوني مندل. ينص "قانون الفصل" (Law of Segregation) على أن النسل يرث "عاملاً" من كل من والديه وأن هذه العوامل تنفصل، أي أنها لن تمتزج أو تندمج، وإنما تظل منفصلة. لذا فإن عوامل الفصل التامة لسمتي الأحمر والأبيض لا تنتج القرنفلي، وإنما الأحمر أو الأبيض. وهذا رأي متحفّظ يشرح لماذا يكون النسل شبيهاً بالوالدين أو الجدين وليس بشيء جديد مختلف تماماً، أو بين هذا وذاك.
ثانياً، ينص ما أسمي "قانون التفارز المستقل" (Law of Independent Assortment) لمندل على أنه لكل خاصية منفصلة، تظل العوامل منفصلة وغير مرتبطة بعضها ببعض بأي طريقة. أي أن العوامل المتعلّقة بتجعّد غلاف البازلاء أو ملاسته تتفارز تماماً وبصورة منفصلة عن تلك المتعلّقة بلون الزهرة أو الخصائص الأخرى. العوامل تشبه حبوب بازلاء منفصلة في كيس أكثر مما تشبه الخرز المرتبط في المسبحة – لم يعبّر مندل عن ذلك بتلك الطريقة وإنما مفسّروه.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]