عملية “التصنيف” التي يمر بها طفل ما قبل العمليات في ضوء نظرية بياجيه
1995 مستويات النمو العقلي
الدكتور محمد مصيلحي الأنصاري
KFAS
عملية التصنيف نظرية بياجيه العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
عندما يقول فرد ما مثلاً إن "هذه قصة منطقية" فإن هذا الفرد يعني في الأغلب والأعم أن هذه القصة ، تحمل معنى ، وأنه وجد في أحداثها ما يمكن أن يتابعه وأن يصنفه ، وانه قد اصدر حكمه هذا في ضوء شيء حقيقي قد لمسه في الواقع ويمكن تطبيقه في النوعيات المماثلة من النشاط التي قد تواجهه في حياته ..
إننا ندرك أعمالنا ، أفكارنا ، رموزنا ، وحتى أحلامنا وخيالاتنا إما على أنها شيء له معنى أو أنها مجرد لغو ، على أنها منطقية أو غير منطقية ، والتعرف على أن شيئا أو حدثاً ما منطقياً او غير منطقي يتضمن التركيز على ما في الشيء أو الحدث من عمليات أو ميكانيزمات وعلى مدى وضوح مجموعة الاحداث أو المكونات التي يأخذها شخص ما في اعتباره ككل.
وبعيدا عن الجدل الفلسفي ، القديم الجديد ، عن جوهر المنطق وكنهه ، فإننا نكتفي بتعريف (Voyat, 1982, P. 149).
" المنطق هو ما يتطابق مع قوانين السبببية الصحيحة ". وهذا هو ما دعى بياجيه لأن يعتبر أن دراسة نمو المنطق المبكر عند الطفل هو في حقيقته دراسة للقوانين السببية التي يبينها ويستخدمها الطفل منذ بزوغ الفكر لديه وحتى وصوله إلى مرحلة العمليات المحسوسة ، وبدءاً بعمليتي التصنيف والتسلسل التي وضعهما بياجيه كعنوان فرعي لكتابه :
The Early Growth of Logic in the Child; Classification and Seriation مستهدفاً ، فحص ودراسة نشوء وتطور وبناء هذين النمطين من أنماط التعامل مع الواقع .
إن الهدف الأساسي من وراء الاهتمام بدراسة عملية التصنيف من وجهة نظر بياجيه يأتي من حقيقة أن التصنيف يتصل وبعمق بالقدرة على الوصول إلى محك تدريجي للتعميم .
أي أن النشاط التصنيفي ، لا بد وأن يتضمن تجريداً لعلاقات التشابه والاختلاف بين أشياء أو أشخاص أو أحداث تتجمع في كليات مجردة تستغرق كل أفراد المجموعة المعنية ، أي أن التصنيف يقوم على نشاطين رئيسيين.
يشير أولما إلى التجريد والحصول على عدد من الملامح المشتركة المستقرة التي تتكون بناء عليها المجموعة ، وهذه العملية يسميها بياجيه Intension of a set أو مفهوم المجموعة ، وهو مجموعة الخصائص المشتركة لافراد هذه المجموعة معاً ، مع مجموعة الاختلافات التي تميزهم عن فئة أخرى ، ويشير ثانيهما إلى مدى المجموعة أو نطاقها ، Extension of a set أي مجموعة الافراد أو العناصر التي تمثل هذه الفئة أو المجموعة كما حددت بمفهومها .
وهكذا فإن هناك علاقة بين مفهوم المجموعة ومداها ، الأول يتمضن تجريد المتشابهات والثاني يشير إلى عدد العناصر التي تحتويها ، ويعتبر بياجيه أن المنطق المبكر يتمثل في وصول الطفل إلى حل مشكلة التناسق بين المفهوم والمدى لمجموعةما (Gruber & Voneche, 1977, P. 359).
وهذا ما يفشل فيه الطفل قبل الخامسة طبقاً لبياجيه الذي يعتبر أن التعليل المنطقي في علاقته بالتصنيف ينمو قبل تكوين الفروض المنظمة وإمكانية التحقيق منها بالاستنتاج مما يسفر عنه تطبيقها .
كما أن دراسة المنطق المبكر يمكن أن تكشف عن ان الاطفال ليسوا غير قادرين على عمل فرض حول الواقع والتحقق منه فحسب ، بل أيضاً ، إن هناك فروقاً عميقة بين عمليات اختبار الفروض لدى اطفال ما قبل العمليات والاطفال في نهاية مرحلة العمليات المحسوسة .
حيث نجد أن طفل ما قبل العمليات يستطيع فقط ان يصنف او يرتب الاشياء أو الأحداث التي يراها أمامه ، وباختصار فإن نشاطه يكونم حدوداً باختبار فرض واحد في المرة .
وقبل أن نشرع في التعرف على كيفية دراسة بياجيه لعملية التصنيف أو تحديده لمراحل نمو وتطور هذا المفهوم لدى الطفل ، ينبغي الإشارة إلى أن مفهوم التصنيف قد حظي باهتمام ودراسة العديد من الباحثين خارج مدرسة جنيف ، يأتي في مقدمتهم (Vygotsky, 1962; Olver & Hornsby, 1966; Schwartz, 1977; Smith & Medin, 1981).
وأن معظم هذه الدراسات قد استهدفت، تحليل بنية التصنيف لدى الأطفال ، مما قد يلقي المزيد من الأضواء على بنية المفاهيم عندهم، وكيف تقترب هذه البنية منطقياً من بنى الكبار ، كما استهدفت أيضاً اختبار الأسس التي يقوم عليها تصنيف الأطفال ، مما قد يكشف شيئاً من المحتوى المحسوس أو المجرد لمفاهيمهم على اختلافها (Gelman & Biallargeon, 1983. P. 175).
إلا أنه رغم تعدد وكثافة دراسات التصنيف وتنوع مجالاتها إلا أن ما قدمه بياجيه سواء في الفترة الأولى من دراسته للتصنيف بين عامي 1920 – 1930 أو الفترة التي عاد فيها لدراسة التصنيف في الفترة من 1950 حتى وفاته وبعد تعديل منهجه وربطه التصنيف بالتوليفية والربط العارض ومختلف مفاهيم ما قبل العلميات ، يعد بحق مسارا ًجديداً لتكوين مفاهيم وأنشطة التصنيف عند الطفل .
بداية ، لفهم وجهة نظر بياجيه في التصنيف ، ينبغي أن نتوقف أمام ما يراه حول الفئة ، ولنضرب لذلك مثالاً مما يشير إليه ، لنفترض أنه يوجد أمامنا مجموعة من أشياء ملقاة بشكل عشوائي ، فيها مثلث أحمر كبير ، دائرة زرقاء صغيرة ، دائرة بيضاء كبيرة ، ومثلث اسود صغير ، وهي جميعها اشياء مختلفة ومميزة عن بعضها بحيث لا يجد الطفل صعوبة في إدراك أن أي شيء فيها مختلف عن اي شيء آخر ، افترض أيضاً أننا نريد أن نضع هذه الأشياء وفي مجموعتين مختلفتين.
أحد الطرق التي قد يلجأ إليها الطفل هي أن يضع المثلث الكبير مع المثلث الصغير في مجموعة ، وأن يضع الدائرة الصغيرة مع الدائرة الكبيرة في مجموعة.
وقد يلجأ طفل آخر إلى وضع الأشياء الصغيرة مع بعض في مجموعة بصرف النظر عن الشكل أو اللون ، على أن يضع الاشياء الكبيرة في المجموعة الأخرى.
ويشير بياجيه إلى عدة خصائص يمكن استنتاجها من المثال السابق حول تكوين المجموعة أو الفئة :
أ- لا يمكن أن يكون عنصر ما منتمياً إلى مجموعتين أو فئتين في نفس الوقت ، على سبيل المثال إن وضع المثلث الأحمر الكبير في مجموعة المثلثات يمنع وضعه في مجموعة الدوائر ، كما أن وضع هذا المثلث في مجموعة الأشكال الكبيرة يمنع وضعه في مجموعة الاشكال الصغيرة ، وهكذا فإن الفئات بينها منع وانفصال متبادل .
ب– كل عناصر المجموعة – أي مجموعة لا بد وأن يتوافر فيما بينها بعض أوجه التشابه ، فالدائرة الزرقاء الصغيرة والدائرة البيضاء الكبيرة ، كل منهما لها خاصية الاستدارة .
ج- كل فئة ينبغي أن توصف في ضوء قائمة بمواصفات اعضائها ، حيث يمكننا أن نورد الأشياء التي تتكون منها الفئة مثلاً ، مثلث أحمر كبير ومثلث أسود صغير (فئة المثلثات) ومع ملاحظة أن القائمة يمكن أن تتضمن اشياء محسوسة مثل الدائرة الزرقاء أو افكاراً مجردة او أحداث وأفعال مثل قائمة تتضمن كلمات معينة .
د- الخاصية المحددة لفئة ما ، هي التي تحدد أي العناصر يمكن أن توضع فيها ، أي أن المفهوم هو الذي يحدد مجال تطبيقه ، مثلاً إذا عرفنا أن أساس تكوين فئة ما هو الاستدارة ، وأساس تكوين فئة اخرى هو الشكل المثلث ، عندئذ يمكننا أن نتوقع محتوى أو قائمة بما يكون موضوعاً في كل فئة
هذه بعض الخصائص الأساسية للفئات كما يحددها بياجيه ، وهو يتساءل في ضوء هذه الخصائص ، عما إذا كان الطفل يصنف الأشياء تبعاً لهذه الخصائص.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]