أحداث تاريخية

قصة إعدام العالم “لافوازييه”

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

اعدام العالم لافوزييه أحداث تاريخية المخطوطات والكتب النادرة

أيتها الحرية … كم من الجرائم تُرتكب باسمك ! .

اجتاحت "رسالة" لافوازييه في الكيمياء كالثورة – وعلى نحو ما ألمحنا – جميع الدوائر الفكرية في العالم .

ولكن كان تيار ثورة أخرى يجتاح فرنسا كذلك . وكان ذلك التيار يقترب من لافوازييه باستمرار ، إذ أن "مؤسِّس الكيمياء الحديثة" بعد أن حرَّر الفكر من "عهد الخطأ" وأوصله إلى  "عهد الصواب" كان على وشك أن يسقط فريسة "لعهد الإرهاب" .

اليوم 27 يناير عام 1791، وفيه تعرَّض عالمنا لهجوم حاقدٍ من جريدة مارا المسماة "صديق الشعب".

وكانت هذه الحملة المسمومة تخدم في الحقيقة مصالح مارا، على الرغم من تظاهره بالمحافظة على مصالح الشعب .

ولكن ما القصة بالضبط؟  أو بمعنى آخر ما سر العداوة بين مارا ولافوازييه ولعلها عداوة من طرفٍ واحد؟ – سنرى .

 

لم يكتف مارا بأن يكون أحد زعماء الثورة الفرنسية بل كان يطمح في أن يكون أحد قادة العلم كذلك. فقد كتب في عام 1780 "رسالة عن طبيعة النار"، ولما عُرضت على لافوازييه أبدى رأيه، الذي ثبتت صحته فيما بعد ، فيها وبالطبع لم يكن في صالح مارا . ولما علم مارا بذلك قرر الانتقام .

ولعل المقالة الملتهبة التي نشرها مارا في عام 1791 كانت أول تنفيذ لذلك القرار "أيها المواطنون الفرنسيون : إني أكشف لكم أمر ذلك السيد لافوازييه، ملك الدجّالين، ورفيق الطغاة، وتلميذ الأوغاد، وشيخ اللصوص.

هل يمكنكم أن تصدّقوا أن جابي الضرائب القميء هذا، والذي يبلغ دخله أربعين ألفاً من الجنيهات في العام، منغمرٌ في مؤامرة شيطانية ليجعل الناس ينتخبونه عمدة لباريس؟ إن الواجب علينا بدلاً من انتخابه لذلك المنصب أن نعلقه مشنوقاً في أقرب عمود مصباح في الطريق" .

كلمات نارية تنم عن حقد وسوء طوية . غير أن لافوازييه لم يأبه بها كثيراً، ظنَّا منه أنها مجرد تنفيسٌ عن الكبرياء المجروحة . ولكن مارا استمر في حملته المسعورة، ولم يمض وقت طويل حتى انضم إليه في فريته وتهجمه عددٌ آخر من  (الثوّار) الذين أصابتهم العدوى وأصدروا مرسوما بإغلاق المجمع العلمي، الذي أصبح لافوازييه مديراً له، متهمينه بأنه "مستودعٌ ميِّت لأفكار الملكيين العفنة" وعندما اعترض لافوازييه على ذلك القرار ألقوا القبض عليه بتهمة خيانة الحكومة الجديدة .

 

هل بإمكان أعدائه إثبات تلك التهمة؟ حاولوا بيد أنهم أخفقوا . وهل يستيئسون؟ كيف؟ لقد وجّهوا إليه اتهاماً جديداً وهو ابتزاز أموال الأمة في أثناء عمله كملتزم ضرائب.

وقاموا بتفتيش منزله ووضعوا أيديهم على أوراقه، وعلى الرغم من أنهم لم يجدوا أدلةً دامعةً ضده نقلوه إلى سجن المحكوم عليهم بالإعدام!! .

ما موقف لافوازييه يا تُرى؟ لم يفقد شجاعته وهو يواجه الموت "لقد عشت حياة سعيدة ومديدة، وسوف يُوفرون عليّ متاعب الشيخوخة وأوجاعها، وسوف أخلّف ورائي علماً كثيراً ومجداً كبيراً . ما الذي ينتظره الإنسان من دنياه أكثر من هذا!" –تلك كانت كلماته إلى ابن عمه أوجيه دي فيلير في خطابٍ أرسله في تلك الظروف العصيبة .

وانعقدت المحاكمة … شكلية متكلفة ، وكان شاهد الإثبات الوحيد ضده، من؟ أحد مستخدميه السابقين، وكان لصاً بارعاً ومزيفاً للنقود محترفاً .

وعندما حاول أحد المحامين المدافعين عن لافوازييه أن يُلفت نظر القضاة إلى أمجاد لافوازييه العلمية ، فما كان منهم غير فظاظة وصدود "إن الثورة ليست في حاجة إلى العلماء ، إنها في حاجة إلى العدالة!"

 

أية عدالة هذه والتهمة غير ثابتة؟! إن العدالة على أية حال كانت آخر ما ينتظره المرء من وسط جنون الثورة المسيطرة في تلك الآونة .

وقد نُعت لافوازييه – على لسان محامي الخصوم – بأنه "مصاص للدماء تراكمت جرائمه العديدة لدرجة تتطلب الإنتقام منه " .

هل هذه تهمة معقولة؟ هل ذلك العالم الممتاز مصّاص دماء؟! هل الذي وهب علمه وأفنى صحته وشبابه من أجل شبابه يمكن أن يخون؟!. ولكن لا بد من الاستسلام للقدر "ارجو يا عزيزتي أن تعتني بصحتك ، وتذكري أنني قد أنهيت عملي ومهمتي على خير وجه، وأشكر الله على ذلك" – هكذا كتب عالمنا بنفسٍ راضية خطاباً أخيراً إلى من قاسمته حلو الحياة ومرَّها قبل أن يُقاد إلى المقصلة .

 

ووضعت الرأس العالمة تحت المقصلة وما هي إلاّ لحظة أو تكاد حتى … لا توقفي أيتها اللحظات، تمردي أيتها المقصلة، ارتدعوا إيها الجلادون، أي ذنب جناه هذا الإنسان ليلقى هذا المصير؟.

ولكن ما قُدِّر يكون . وفُصل الرأس عن الجسد فانتفضت الدنيا واستنكرت ضمائر وهوت أفئدة "أيتها الحرية : كم من الجرائم ترتكب باسمك!". يا لها من صرخة قلب لوَّعته المأساة وأدماه ظلم مُبينْ فأطلقها مدوية في جوف الزمان ليردِّدها من بعده كل ما يعتريه جورٌ أو يلحق به هضم. ولكن قلب من هذا؟ ومن يكون غير قلب أرملة هزتها الفجيعة وعصفت بها محنة أليمة.

وها هي ذي صرخة أخرى ، ولكنها مكتومة … متأنية .. متألمة أطلقها العالم الفرنسي لاجرانج "لم يستغرق قطع رأس لافوازييه أكثر من لحظة واحدة . ولكننا ربما انتظرنا قرناً كاملاً ليجود الزمان برأسٍ مثلها!" .

 

الجريمة الكبرى

لا تزال العبارة التي ردّدها قضاة محاكمة لافوازييه "إن الثورة ليست في حاجة إلى العلماء ، إنها في حاجة إلى العدالة!" وصمة عار في تاريخ القضاء الفرنسي واستخفافاً مُشيناً بالعبقرية عزَ مثيله في التاريخ .

لقد أُعدم لافوازييه وهو أكمل ما يكون عقلاً وأخصب ما يكون إنتاجاً وأبعد ما يكون عن تهمته.

وإذا ما استقرأنا حركة التاريخ لقرنين خليا، لتبينَّا أن أعظم جريمة اُرتكبت إبّان الثورة الفرنسية لم تكن إعدام حتى الملك لويس السادس عشر، وإنما إعدام لافوازييه 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى