قصة فشل “ابن الهيثم” في إقامة السدود بمصر
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
إقامة السدود بمصر ابن الهيثم علوم الأرض والجيولوجيا
الجفاف… والسنوات العجاف
في القاهرة كان الحاكم بأمر الله قد أخمد ثورة ضده قام بها رجل يدعى (أبو ركوة)، ولم يكد الحاكم يستريح من أمر هذه الثورة حتى فوجئ مع أهل مصر بانقطاع مياه الأمطار عن نهر النيل في جبال الحبشة وسهول السودان.
وانشغل الحاكم في سنوات الجدب بقمع الفتن التي نشبت من جديد بين أهل الطوائف والأديان، وأصدر أمره بإعدام الرعاع الذين راحوا يمارسون أعمال السلب والنهب في سُعار البحث عن الطعام، وخفَّف من تشدده مع أهل الطوائف لكي يواجه أهل مصر محنة الجفاف صفاً واحداً.
وطال الجفاف والسنوات العجاف على مصر حتى دخل الجدب عامه الرابع وقد هلك الزرع والضرع ومئات الآلاف من الدواب والناس.
وذات صباح، في الصيف الرابع، حمل الحمام الزاجل من أسوان والنوبة إلى القاهرة أخبار عودة الفيضان إلى مجرى النيل في منطقة الجنادل.
وكانت الأمطار تسقط غزيرة على فروع النهر في جنوب الوادي وجبال الحبشة. وطيَّر الحاكم بريد الحمام بأخبار البشرى في طول البلاد وعرضها.
أبو علي يحلم.. لنيل مصر!
عكف أبو علي في ذلك الوقت وفي حمص بالشام على خريطة لمصر يفكر في وسيلة لتدبير مياه نهر النيل، فلا ينقطع جريانها عن أرض مصر في عامٍ من الأعوام.
رأى على الخريطة النيل وهو ينحدر من أرضٍ عالية يقال لها (جبال القمر)، كما رأى منخفضاً بين الهضاب جنوب مصر، وتخيل المياه الوفيرة التي يحملها النهر في أغلب الأعوام صاباً أكثرها في البحر عند المصب.
وقال أبو علي لنفسه: ماذا لو احتجزنا هذه المياه الضائعة من سنوات الزيادة لننتفع بها في سنوات النقص؟! ألا تكون في ذلك، لو تمكنا منه، النجاة لأهل مصر في سنوات الجدب.
ويوماً جلس أبو علي مع الأمير، ومعهما أبو الحسن الشابشتي مدير مكتبة دار العلم بالقاهرة، حيث قال أبو علي بيقين العالم المهندس: لو كنت بمصر لصنعت لنيلها صنيعاً لا يكون معه جدب ولا جفاف، سداً كان هذا الصنع أو بحيرة، تخزن فيه المياه للسنوات العجاف، هكذا ينبغي أن تفعل الشعوب بأنهارها ليستقر له العيش في وديانها.
نقل أبو الحسن، إثر عودته إلى القاهرة، ما قاله أبو علي إلى الحاكم بأمر الله الذي لمعت عيناه لهذا الكلام، وبات ليلته يحلم بنهر لا ينضب ماؤه، وبعمل لا يقل في جلاله عن بناء الأهرام يخلد به اسمه على مر الأيام.
ولم يكد يشرق فجر يوم جديد حتى أعاد الحاكم بأمر الله أبا الحسن إلى الشام ليأتي له بالمهندس البصري.
مخاوف… ست الملك!
وصل أبو علي إلى القاهرة حيث كان الخليفة في استقباله وأعوانه.
وتشاور صفوة رجال الحاكم بأمر الله في مشروع أبي علي متخوفين من عواقبه المالية، فهو مشروع رهيب مهيب ولا قبل للدولة كلها بإنجازه والإنفاق عليه.
ولم تكن ست الملك، شقيقة الخليفة، بأقل من رجاله تخوفا، فقد ذهبت إلى أبي علي في داره وأفهمته إنه لو كان مشروعه هذا ممكناً لشيَّده الفراعنة وهم من هم في فن الهندسة، وناشدته ألا يعبث بأحلام أخيها الخليفة.
الرجوع… بخفي حنين!
كان لا بد من بحث إمكانية تنفيذ المشروع على الطبيعة. ومن ثم صعد أبو علي في رحلته إلى الجنوب مع مجرى النيل يتبعه مهرة البنائين.
وتفحص المنطقة جيداً في الأقصر وبينما عيناه تدوران في المكان، من فوق ربوة، همس لنفسه: لا لم يحن الوقت بعد، لم يحن بعد، وهنا دبَّ في نفسه شعور بالخوف، وقرر العدول عن تحمل تبعة تنفيذ مشروعه وكانت العودة غير المظفرة
فقد سارع أبو علي قافلاً إلى القاهرة منحدراً مع مجرى النهر يتبعه البناؤون، وهم يتغامزون ويتلامزون وفيما بينهم يتهامسون وعلى مصيره من غضب الخليفة يشفقون.
مواجهة… الحاكم بأمر الله!
دخل أبو علي على الخليفة في قاعة عرشه حيث قال له الأخير بغلطة: أوجدت فكرتك خاطئة أيها المهندس البصري أم وجدت نفسك عاجزاً عن التنفيذ ؟ وراح أبو علي في صدق وشجاعة، يؤكد له أن المشروع كله مستحيل التنفيذ في عصره، إلى أن يأتي زمن ترتقى فيه العلوم وتتقدم وسائل البناء فيقدر أهل مصر على التحكم في نيلهم بالسدود والبحيرات من غير أن تتسرَّب مياهه.
ماذا كان يفعل الخليفة، بل ماذا كان أبو علي فاعلاً، لو رأيا السد العالي؟… وإذا علمنا أن الحاكم بأمر الله كان دكتاتوراً سفاكاً للدماء شديد التقلب في مزاجه على الرغم مما عُرف عنه من تشجيع للعلم والعلماء، فقد يخطر في بالنا أن عنق ابن الهيثم كان مصيرها السيف على أيدي جلادي الحاكم بأمر الله بعد ذلك الفشل المبين أو على الأقل طرده من البلاد.
ولكن ليس هذا ما حدث على أي حال، فالثابت أن الحاكم قبل اعتذاره واقتنع بما أبدى من أسباب، بل ولّاه منصباً من مناصب الدولة، وتتفاوت التفسيرات في فهم هذا الموقف من جانب الخليفة: فمن قائل إنه تظاهر بقبول عذر المهندس البصري حتى يبقيه في مصر فلا ينتفع بعلمه واحد من حكام الدول العربية الأخرى، وربما كان أبو علي نفسه متشيعاً واعتبر القاهرة المكان الطبيعي في ظل سلطة الفاطمين عندما كانت بغداد معقل السنة المتعصبين.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]