قصة لقاء “فاراداي” بالعالم “همفري ديفي” والأحداث التي جرت بينهما
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
فارادي ولقائه بديفي همفري ديفي التاريخ المخطوطات والكتب النادرة
أعظم اكتشافاته … ميشيل فاراداي !
ولما بلغ ميشيل الثالثة عشرة رأى والداه ضرورة أن يعمل ليساعدهما . ولكن أي عمل يمكن أن يعمله؟ عمل بسيط، مجرد صبي للطلبات الصغيرة عند بائع كتب يدعى "جورج ريبو" .
ويذكر زبائن مستر ريبو أن ميشيل كان غلاماً ذا عينين لامعتين، فوق رأسه خصلة من الشعر البني. و
يذكرون ذلك الرأس الذي كان مدفوعاً للأمام لإلقاء الأسئلة . وقد تسبَبَّت هذه الدَّفعة لرأسه المتطلعة إلى الأمام في إسالة الدماء من أنفه ذات مرة عندما انفتح أحد الأبواب فجأة واصطدم بوجهه.
وكان زبائن مستر ريبو مسرورين على كل حال من خدمات ميشيل، وكان ريبو نفسه منه مسروراً ، لذا رقّاه بعد نهاية السنة وجعله يتلقى " تلمذة مجانية " في تجليد الكتب في مؤسَّسته.
كان العمل الجديد بمثابة هدية لميشيل من السماء ثمينة، فقد أتاح له فرصة قراءة كل الكتب التي كانت تجيء للتجليد في ورشة ريبو.
وقد دفعته هذه القراءة إلى أن يجري بعض التجارب الكيميائية البسيطة التي كانت نفقاتها لا تتجاوز بضع بنسات كل أسبوع، ثم صنع بعد ذلك آلة كهربائية استخدم في صنعها أولاً زجاجة أدوية، ثم استبدلها بأسطوانة حقيقية.
وبينما هو يسير في أحد الشوارع لمح فوق لوحة إعلانات إعلاناً عن سلسلة من المحاضرات في الفلسفة الطبيعية، وفوراً تاقت نفسه لحضورها، ولكن أنَّى له الوقت والمال اللذان يمكناه من ذلك؟ لقد كان الحظ إلى جانبه عندما تقدم كلُّ من أخيه ومخدومه إلى مساعدته، مخدومه بالوقت وأخوه بالمال.
وهكذا تذوَّق رشفة أخرى من رحيق العلم، وتقدم خطوةً جديدةً للأمام في طريق حرفته المستقبلية.
ولكن ميشيل نفسه لم يكن حتى ذلك الوقت مدركاً لما قدِّر له من أنه سيصير أحد كبار روَّاد العلم في العالم، بل كان يتوقع أن يظل مجلد كتب طوال حياته!.
وترك ميشيل ورشة ريبو ليعمل في ورشة مسيو "دي لاروش"، وهو رجل فرنسي لم يكن لديه عطف ريبو ولا ذكاؤه . ولكن سرعان ما تركه ميشيل بعد تجربة قصيرة كريهة وأخذ يبحث عن عملٍ في ورشة تجليد أخرى.
كانت تلك الفترة حرجة بالنسبة لميشيل، فقد مات أبوه وكانت أمه تعاني من الفقر المدقع . وبذل ميشيل كل ما في طوقه من جهد ولكنه لم يجد عملاً آخر كمجلد كتب، فماذا يستطيع أن يفعل الآن؟ في ذلك الوقت الذي يتحسَّس فيه طريقه بائساً يائساً، كان العالم الإنجليزي الشهير سير "همفري ديفي" بسبيل أن يصل إلى أعظم اكتشافاته قاطبةً. إذ عندما سألوه – بعد ذلك – ما هي أعظم اكتشافاتك؟ أجاب على الفور : ميشيل فاراداي!.
العالم … الفرَّاش
كان شعار فاراداي طوال حياته هو"عليِّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح"، وكان تطبيقه لهذا الشعار هو الذي جعله يقابل ديفي، وكان فاراداي قد استمع أثناء عمله بالورشة إلى بعض محاضرات ديفي ونسخ هذه المحاضرات بخطٍ منظم جميل، ثم جلَّدها تجليداً جذاباً ، وأرسل هذه النسخة إليه.
وقد رجا العالم الكبير بكل احترام أن يجدله عملاً في معمله . وكانت وظيفته الجديدة هي من الناحية الرسمية وظيفة مساعد لديفي في معمله بالمعهد الملكي.
أما واجباته في الواقع فكانت غسل الزجاجات وتلميع المكاتب وتنظيف المحابر وكنس أرضية المعمل. وهكذا ترقَّى فاراداي من مجلد كتب إلى فرَّاش معمل!.
ولم يمض وقت طويل حتى برهن فاراداي لديفي على أنه "شيءٌ" أهم كثيراً من مجرد فراش، فقد دفع ديفي نتيجة حدة ذهنه وحسن إدراكه ودقة تحليله واقتراحاته النافعة إلى أن يشركه مشاركة حقيقية في إجراء التجارب.
وقد أصيب كل من فاراداي وديفي إصابات معينة أثناء إجرائهما لبعض هذه التجارب، وخاصة تلك التجربة التي انفجر فيها مخلوط من الكلور والنيتروجين.
التجربة … المرَّة
أخذ العالم و"الفرّاش"، أو بالأحرى الاستاذ والتلميذ، يعملان جنباً إلى جنب مستكشفين غوامض الطبيعة، سابرين أغوارها، مفسِّرين رموزها، مروِّضين لقواها .
وبدأ اعتماد الاستاذ على تلميذه يزداد شيئاً فشيئاً كلما ازداد عملهما معاً. وبعد شهور قليلة كان ديفي قد اقتنع تماماً بمقدرة فاراداي لدرجة أنه دعاه ليصحبه "كمساعد فلسفي" في سلسلة المحاضرات التي ألقاها في عددٍ من المدن الأوروبية الكبرى.
وكانت تلك الرحلة إلى القارة الأوروبية معجزة لا شك فيها بالنسبة لابن الحدّاد الشاب هذا الذي لم يكن يتجاوز في ذلك الوقت الثانية والعشرين .
والرحلة كانت قد بدأت يوم الأربعاء 13 اكتوبر عام 1813، وقد كتب فاراداي في مذكراته : " إن هذا الصباح كان بداية عصرٍ جديدٍ في حياتي" .
سافر ديفي يصحبه فاراداي إلى أوروبا. وبينما هما في باريس لمح فاراداي نابليون جالساً في أحد أركان عربته، وقداهتز وجدانه من نبل المسئولين الفرنسيين عندما لاحظ أن العلماء الإنجليز قد سُمح لهم بالمرور في فرنسا بحرية وبدون مقابل، في الوقت الذي كانت الجيوش الإنجليزية تحارب فيه الجيوش الفرنسية!.
وإذا كانت نفس فاراداي قد سُرَّت من معاملة المسئولين الفرنسيين، وإذا كان الأوروبيون أصبحوا يعترفون به كمساعد فلسفي لديفي، فإن زوجة ديفي كانت تعامله أسوأ معاملة.
لا على أنه مساعد لزوجها وإنما مجرد خادم! وقد نضح قلم فاراداي بالمرارة وهو يخط شكواه إلى أحد أصدقائه في هذا الخصوص : "إنها إمرأة عدوانية متسلطة، تسعى دائما إلى تجريحي وإذلالي".
وحقا كانت كذلك، فقد كان تستغل كل فرصة متاحة "لتعرَّفه قيمته!" ناسيةً ، أو متناسية ، أن زوجها نفسه كان قد صعد منذ وقتٍ قريب من مكانٍ مماثل!.
وفي جنيف، وصلت إلى قمة مضايقاتها الحمقى . فقد دعا الفيلسوف السويسري "دي لاريف" عائلة ديفي للطعام، كما دعي فاراداي وخصَّص له مكاناً على المائدة دليلاً على مساواته ببقية المدعوين.
وهنا ثارت ثائرة زوجة ديفي واعترضت على تلك المساواة، وأصرَّت على أن فاراداي إنما هو خادم لزوجها، وبوصفه هذا يجب أنْ يرغم على أن يأكل مع غيره من الخدم .
وعندئذ أمر لاريف، ليظهر اشمئزازه من تصرف زوجة ديفي بأن يتناول طعامه في حجرة منفصلة كما يليق بكرامة فيلسوف شاب يربأ بنفسه عن مستوى المشاحنات التافهة . وكان فاراداي يبتلع ذلك الإذلال بعد أن يخففه بكثيرٍ من الفلسفة!. وزوَّدته تلكم التجربة المرة بخبراتٍ أفادته مستقبلا …
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]