كيفية إخضاع الطب للتغيرات الحاصلة بشكل معتاد في دورة الحياة
1996 تقنيات الطب البيولوجية وحقوق الإنسان
الدكتور يوسف يعقوب السلطان
KFAS
العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
إخضاع السلوك للطب
على مستوى الممارسة العلاجية والوصف الشعبي تمتد قدرة الطب البيولوجي المتقدم لتخضع الطب للتغيرات التي تحدث بصورة معتادة في دورة الحياة، ورد فعل الضغوط، والانحراف عن المعايير.
ولعل أشد حالات إخضاع الانحراف الاجتماعي الظاهر للطب في التاريخ الحديث هي الجهود التي بذلت في الاتحاد السوفييتي وغيره من الدول الشمولية لحرمان المعارضين للسياسة أو الخارجين عليها من حقوقهم ومسئولياتهم وإسقاط الثقة عنهم وذلك بوصف سلوكهم وتشخيصية على أنه مرض عقلي (انظر الفصل 6).
وترجع فكرة الإخضاع للطب إلى توسيع الاستخدام الاجتماعي بدلا من الاستخدام العلاجي الاكثر محدودية لفئات التشخيص الطبي أو تصنيفاته.
وبهذا المعني الاخير تكون التشخيصات "ومعظمها على ما يبدو متلازمات مرضية نفسية" مبنية على مفاهيم معينة ومن صنع الإنسان وذات اغراض ثقافية وكلها تشير إلى حالات مثالية للمرض (فابريجا Fabrega، 1987) وبتطبيقها على أنماط معينة من السلوك الذي يحدث طبيعيا.
تعتبر بمثابة متلازمات مرضية قابلة للتشخيص، وما دام ينظر إليها على أنها أمراض، فإنها تستبعد من مسئولية الأسرة أو اي جماعة اجتماعية، وتدخل في نطاق سلطة ومسئولية الاطباء الذين لا يقتصر المتوقع منهم على التشخيص فحسب بل والعلاج أيضا أو اي شيء آخر يعدل هذه الحالات.
ويعتقد البعض أن القليل من فئات أو مجموعات التشخيص الجديدة المبنية على نتائج احتمالية لانتشار سلوكيات يمكن ملاحظاتها فيها تمييز ضد بعض الأقليات وعلى ذلك نجد تحليلات تفصيلية لقيمة أمور متعلقة بأبحاث تجري على اختلافات جنسية (لونجينو Longino، 1990) وعلى المستوى السريري أو الاكلينيكي المحدود الذي يشخص التعب والتوتر الذي يسبق الحيض على أنه متلازمة أعراض ما قبل الحيض، فقد أثار اتهامات بأنه تمييز ضد المرأة.
وهناك فكرة أخرى مثيرة للجدل وهي الإقرار بتشخيص القلق المصاحب للفترة المتأخرة من طور الجسم الأصفر في المبيض (فرانسيس وغيره Frances et al، 1990).
ويجادل البعض في النظر إلى عدم الخصوبة أو العقم علي أنه خلل يجب علاجه وليس حالة تحدث بشكل طبيعي مع انها غالبا تكون غير مرغوبة.
ولقد أثار توسيع دواعي الإخصاب في الأنبوب ليشمل عدم خصوبة الزوج اتهامات بالتمييز ضد الإناث لأن الأنثى هي من بين الزوجين التي تعتبر الوحدة التي تخضع للتشخيص والعلاج، فهي دون زوجها، التي تتعرض للمخاطر المتوقعة والأعباء النفسية المنهكة بسبب العلاج الجراحي (لابوري Laborie، 1987).
ومن المسائل الخاصة المثيرة للعناء والقلق، كما سبق أن لاحظنا، أن التساؤلات الاجتماعية والاخلاقية التي لها صلة بالقرارات الخاصة بالعلاج أو التربية يمكن الحد والتقليل منها بإعادة تعريف القضية بأسلوب بيولوجي (نيلكين وتانكريدي Nelkin and Trnacredi، 1989).
فإذا أخضعنا حالة معينة للطب بتوصيفها على أنها مرض، وبخاصة إذا كانت ذات طبيعة وراثية أو بنائية، وكان السبيل إلى السيطرة على المشكلة أو إزالتها ممكنا عن طريق شكل من أشكال العلاج الطبي، فلن يكون هناك مجال لتدخل الإصلاحات أو البرامج الاجتماعية في الأمر، وهنا يتدخل الطب بطريقة غير ملائمة لحل مشاكل ينبغي حلها بوسائل اجتماعية.
فالتقنيات الجديدة للتشخيص الوراثي والتدخل العلاجي في الجينات على سبيل المثال قد أدى إلى تقليل الاهتمام بالعوامل الاجتماعية والبيئية المؤثرة والمساهمة في إحداث القصور الوظيفي والمرض.
وكان المعالجون النفسيون فيما مضى من بين من ينادون بالإصلاح الاجتماعي كسبيل من سبل تقليل تكرار حالات السلوك المختل، وبخاصة السلوك ذا الطبيعة غير الاجتماعية أو المعادية لمصلحة المجتمع.
وقد أوحى هذا براي ينظر إلى المضمون الاجتماعي على أنه أحد المحددات الهامة لكيفية تفكير الفرد وشعوره وأفعاله.
ولكن تحت تأثير التقدم في علوم الطب البيولوجي وبخاصة في مجال الوراثة والعقاقير تغير هذا المضمون الاجتماعي للطب النفسي.
وفي محاولة للوصول إلى هوية طبية جلية واضحة تخلى الطب النفسي (باستثناء الكثير من الحالات) عن تركيزه السابق على كون التاريخ الشخصي الماضي هو المحدد لسلوك البالغ، وذلك بالتحول إلى فكرة أن المرض العقلي عامل لخروج النظام البيولوجي كثيرا عن سياق واتساقه.
وأصبحت دلالة الشخص وأهميته في النظام غامضة. وقد نجم عن ذلك اختفاء مصطلح "ثقافة" من الدليل التشخيصي والإحصائي للجمعية الأمريكية للاطباء النفسيين (ِAmerican Psychiatric Association) ويذكر الدليل هذا المصطلح ذكرا عابرا في النص المعدل (DSM-IIIR) ولقد دار جدال حول طرق تضمين المجلد التالي (الرابع) من هذا الدليل (DSM-IV) الإشارة إلى الثقافة وذكرها بطريقة اكثر ملاءمة وإنصافا.
ولقد شجع استخدام عبارة السلوكيات المختلة غير المترابطة والخارجة كثيرا عن السياق الاجتماعي، كمعيار تشخيصي شجع الميل إلى رؤية الكثير من الظواهر على أنها تعكس طبيعة الكائن الحي ذاته (وهو الإنسان الفرد) أكثر من التفاعل بين الكائن الحي والبيئة.
وبينما نجد التشخيص الشعبي في المجتمعات التقليدية يتضمن أنواع الضغوط مثل الرعب أو الخوف والحرمان أو السحر والمؤثرات الغيبية الآتية من مصدر خارجي، نجد أن المجتمعات الحديثة تميل حاليا إلى التركيز على الفهم الشائع لعلم الطب البيولوجي الذي يمكن التعبير عنه بمصطلحات مثل الوراثة أو تلف أو اختلال المخ أوالمشكلات البنائية والخلقية.
ومن آثار ذلك التخلص من وصمة المرض العقلي والنظر إليه كما ينظر إلى أي من الأمراض ذات الأصل البيولوجي بدلا من الأصل النفسي الاجتماعي أو الشيطاني.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]