العلوم الإنسانية والإجتماعية

مخاوف من العولمة في تنظيم مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

سباقٌ نحو القاع؟

في التسعينات من القرن الماضي، برزت حركةٌ اجتماعية عبَّرت عن مخاوفها إزاء آثار العولمة، لا سيَّما دور الشركات المتعدِّدة الجنسيات. وتمكَّن المحتجُّون من إفشال اجتماعٍ وزاري لمنظَّمة التجارة العالمية في سياتل، عام 1999. فقد كانت الحركة تعتبر أنَّ العولمة تُضعِف سلطة الحكومات الديمقراطية وتنقل السلطة إلى الشركات المتعدِّدة الجنسيات.

في الواقع، عزَّزت العولمة الضغوط التنافسية في السوق للدخول في الحوكمة الدولية، فدفعت الحكومات إلى التنافس على الاستثمار والتجارة الأجنبيَين. وباعتقاد الناقدين، خلق هذا الوضع "سباقاً نحو القاع" (Brecher & Costell 2000) (Race To The Bottom). فالشركات تؤجِّج المنافسة بين الدول، فتنقل أعمالها إلى البلدان ذات الضرائب والأجور المتدنِّية وذات الشروط البيئية والعملية الأضعف. وهذا ما قاد الحكومات إلى وضع سياساتٍ مؤاتية للأعمال، ولكنَّها قد تُهمِل مصالح العمَّال والمجتمع بشكلٍ عام، كما أنَّها قد تضرُّ بالبيئة.

وأتت هذه المخاوف في سياق تراجع التوظيف في القطاعَين الصناعي والزراعي في الاقتصادات الصناعية العريقة، في مواجهة المنافسة من قبل الاقتصادات الجديدة الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية. وبمفهوم الاقتصاد التقليدي، يعكس هذا التحوُّل بكلِّ بساطة الفائدة النسبية (راجع الفصل 3). فالاقتصادات الناشئة تمتلك مخزوناً كبيراً من اليد العاملة غير الماهرة. ومن المنطقي بالتالي أن تنتقل الصناعات التي ترتكز على اليد العاملة إلى هذه البلدان. ولكنَّ الاتِّحادات العمَّالية تخوَّفت من أن تولِّد العولمة منافسةً بين العمَّال في بلدانٍ مختلفة، مع تدنِّي الأجور للجميع بنتيجة ذلك.

وقد كان الكثير من الشركات المتعدِّدة الجنسيات في طليعة حركة الانتقال إلى هذه الاقتصادات الجديدة، من خلال إنشاء مصانع في العالم في طور النموّ. وقام بعضها بإعادة تنظيم عملياتها الإنتاجية على أساسٍ عابر للدول، فاستعانت بشركاتٍ محلِّية، وعمدت إلى تغيير العلامات التجارية للمنتجات، لبيعها للمستهلكين في البلدان المتقدِّمة. ولكنَّ الانتقال إلى الإنتاج العالمي يعكس أيضاً السياسات التطويرية التي تعتمدها الاقتصادات الناشئة في شرق آسيا لدعم الصناعات المحلِّية (الفصل 5).

وفيما لجأت حكوماتٌ كثيرة إلى استخدام العولمة كذريعةٍ لاتِّباع السياسات الليبرالية الجديدة للخصخصة وتخفيف الرقابة، استمرَّ التفاوت بين البلدان. وبالفعل، في العقد الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، صنَّف المنتدى الاقتصادي العالمي الديمقراطيات الاجتماعية الاسكاندينافية ذات الضرائب المرتفعة بين الاقتصادات الأكثر قدرةً على المنافسة (المنتدى الاقتصادي العالمي 2010). وفي محاولةٍ لتفسير ذلك، يشير هيرست وتومبسون (Hirst and Thompson) (1996, p. 98) إلى أنَّ القوى العظمى بالتحديد تحتفظ بهامشٍ كبير من استقلاليتها إزاء الشركات والاقتصاد ككلّ، لأنَّ معظم الأنشطة الاقتصادية تبقى "مترسِّخة وطنياً" (Nationally Embeded) على شكل شركاتٍ متعدِّدة الجنسيات، وليس شركات عبر وطنية.

في الحقيقة، تتركَّز معظم الأنشطة التجارية، وأنشطة الاستثمار الأجنبي المباشر، وأنشطة الشركات ضمن حدود كبرى الدول القومية الرأسمالية. ويُعزى ذلك بجزءٍ منه إلى العوامل التاريخية (المؤسَّساتية)، ولكن أيضاً إلى افتقار البلدان النامية أحياناً إلى بعض الشروط الضرورية لنجاح الأعمال. فقد تتأثَّر قرارات الشركة في تحديد موقع أنشطتها الإنتاجية باستقرار الأوضاع السياسية مثلاً، والبنى التحتية ذات الجودة العالية، وتوافر اليد العاملة الماهرة، وليس "الرخيصة" فقط.

وإنَّ الحاجة إلى بلوغ هذه الشروط تعطي الدول سلطة ممارسة الضغط على الشركات والأسواق، وقولبتها وفقاً للأولويات الوطنية. وهذه هي الحال في الاقتصادات النامية حيث قد يكون توافر الموارد الطبيعية أو اليد العاملة الرخيصة من بين الشروط المنشودة. في هذا الإطار، يحذِّر تومبسون وهيرست (1996) من أنَّ نظرية "السباق نحو القاع" قد تنطوي على بعض المبالغات. ولكنَّ ذلك لا ينفي وجود التبعات السلبية للأنشطة الاقتصادية العالمية (راجعوا المربَّع 3.7) التي يجب أن تكون الشركات مسؤولةً إزاءها بنظر الكثيرين.

المربع 3.7 السلاسل السلعية

مع تطوُّر الرأسمالية، أصبح تقسيم العمالة بين العمَّال والشركات أكثر تعقيداً. فعملية إنتاج السلع الفردية أضحت الآن مُجزَّأة إلى عدَّة مكوِّنات منفصلة، يُصنَّع كلٌّ منها في منشآتٍ مختلفة، وغالباً في مناطق مختلفة من العالم. ويُطلِق علماء الاجتماع على هذه العملية المتمثِّلة في إنتاج سلعةٍ من مكوِّناتٍ آتية من مواقع متعدِّدة، مصطلح "السلسلة السلعية" (Commodity Chain) (راجع Hopkins & Wallerstein (1986)).

ومفهومُ السلسلة السلعية هذا يجعلنا ندرك أنَّ الاستهلاك الذي نعتبره "محلِّياً" هو في الواقع جزء من نظام اقتصادي "عالمي". وهذا يلفت انتباهنا إلى دور الشركات في تنسيق عمليات الإنتاج المُعقَّدة هذه. ففي بعض الأحيان، تقوم الشركات بذلك مباشرةً من خلال فروع الشركة الواحدة، أو ما يُعرَف بالتكامل العمودي.

وفي حالاتٍ أخرى، يُستعان بشركاتٍ أخرى للاستحصال على عناصر معيَّنة من عملية الإنتاج. وتحصل بعض الأنشطة في بلدانٍ مزدهرة ومرتفعة الأجور؛ فيما تحصل أخرى في بلدانٍ نامية ذات أجور متدنِّية. والسلسلة السلعية تساعدنا على معرفة مَن يقوم بماذا، ومَن يحصل على ماذا، ومَن يقرِّر.

علاوةً على ذلك، إنَّ السلاسل السلعية تسلِّط الضوءَ على المساحات الهائلة التي تنطوي عليها عملية إنتاج السلع الفردية، إذا تُنقَل المكوِّنات من بلدٍ إلى آخر – ثمَّ تُعاد غالباً. ولقد أثار هذا التنقُّل مخاوف مناصري البيئة بشأن مدى استدامة صيغة الإنتاج العالمية هذه. 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى