مساهمات أخرى في فهم النموّ الاقتصادي
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
دفعت الانتقادات لنظرية النموّ الخارجي (Exogenous Growth) بخبراء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد إلى تطوير نماذج "نموّ جديدة" (New Growth) بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وهدفت تلك النماذج إلى شرح النموّ من الداخل، في إطار النموذج بدل الاعتماد على تحولات في متغيرات خارجية لم تكن جزءاً من النموذج رسمياً. ومفتاح نماذج النموّ الداخلي الجديدة هو التركيز على التعليم والمعرفة.
في الستينات، ركّز الفائز بجائزة نوبل غاري بيكر (Gary Becker) على التعليم في نظريته "رأس المال البشري" (Human Capital). وقال بيكر (1993 [1964]) إن مهارات ومعارف العمّال تساهم في نموّ الإنتاجية ما يشرح النموّ على المدى البعيد في الولايات المتحدة.
وأضاف بول رومر (Paul Romer) (1986; 1990) وغيره من المنظّرين في النموّ الجديد على هذا الجدل. فتستند نظريات النموّ التقليدية إلى مبدأ تراجع الإيرادات الهامشية. ويعني ذلك أنه كلّما استخدم المنتج عامل الإنتاج، تتراجع الزيادة في المخرجات.
فإذا استخدمت شركة عدداً إضافياً من الموظفين على الآلات عينها، ستتراجع المخرجات لكلّ عامل (على الرغم من أن الإنتاج الإجمالي قد يرتفع). ولكن رومر قال إن العكس صحيح حين يتعلق الأمر بالمعرفة. فحين تظهر معرفة جديدة، ستتفاعل مع المعرفة الموجودة أصلاً، ما يؤدي إلى إنتاجية أعلى. ويتجاوز ذلك علم الاقتصاد البسيط. ويضيف رومر أن ثقافة الاقتصاد قد تكون موصلة لخلق المعرفة، من خلال مؤسسات تتطور على مرّ الوقت تشجع الناس على تطوير أفكار جديدة وتكنولوجيات جديدة. يقول بعض المنتقدين إن هذه النظرية لا تذهب بعيداً بما يكفي. فعلى الرغم من أنها تتعاطى مع زيادة العائدات مقابل المعرفة إلا أنها لا تشير إلى كيفية انطباق زيادة العائدات بشكل أوسع في الاقتصاد (Arthur 1994). وعلى الرغم من أن نظرية النموّ الجديدة تضيف إلى النماذج النيكولاسكية التقليدية فهي تحافظ على الكثير من العناصر ذاتها. فهي تعتمد بشكل كبير على الرياضيات المجردة ما يصعّب فهم تعقيدات الديناميكيات التاريخية.
وجهات النظر المؤسساتية
قدمت تطورات أخرى في إطار الاقتصادات مساهمات إضافية للدمج بين بعديّ الحياة الاقتصادي والاجتماعي. يرتبط أحدها عن كثب بتطور نظرية النموّ في "الاقتصادات المؤسساتية الجديدة" التي سبق أن ذكرنها في الفصل الثاني. وتهدف إلى فهم الدور المعقد للمؤسسات – مثل الشركات والبيروقراطيات بالإضافة إلى القواعد القانونية والاجتماعية في تشكيل الحياة الاقتصادية.
وبنفس طريقة رومر فإن الاقتصادات المؤسساتية الجديدة يدلل من خلالها دوغلاس نورث (Douglass North) (1990) أن النموّ يتأثر بالتقاليد الاجتماعية والثقافية البعيدة المدى. ويمكن لهذه التقاليد أن تفتح المجال أمام التبادل الحرّ أو قد تقود إلى الفساد ومحاباة الأقارب. أظهرت ألينور أوستروم (Elinor Ostrom) (1990) كيف يمكن حلّ بعض المسائل الاقتصادية من خلال تقاليد ثقافية محددة تشجع على التعاون. وتساعدنا هذه النظريات أيضاً على فهم لماذا قد تكافح بعض المناطق لتحقق نمواً خلال وقت معين (الفصل 4).
وتستند الاقتصادات المؤسساتية الجديدة أيضاً إلى أعمال اقتصاديين نمسويين، أبرزهم جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpter) ويرفض شومبيتر في كتابه Capitalism, Socialism And Democracy (1943) التنافسية المثالية (Perfect Competition)، ويشير إلى أنه في الكثير من الاقتصادات يوجد القليل من الشركات المتنافسة. إلا أنه دلل على أنه يمكن للاحتكار أن يفيد الاقتصاد من خلال زيادة مستوى الإنتاج. وبدل المنافسة في السعر، شدد على المنافسة في الابتكار التقني والتنفيذي. ويساهم ذلك في النموّ لأن الاختراعات الجديدة واكتشاف سبل جديدة للقيام بالأمور يؤدي إلى إنتاج سلع جديدة أو إضافية، قد تكون بسعر أقل.
وقال شومبيتر إنه بما أن الرأسمالية تعتمد على هذه العملية، فهي إذاً في حالة مستمرة من "التدمر الخلاق" (Creative Destruction). تمرّ تكنولوجيات الإنتاج بدورة حياة، إذ تقضي عليها ابتكارات جديدة خلاقة تشجع عليها المنافسة. فمع مرور الوقت تجد شركات كانت قد أحدثت في الماضي ثورات وهيمنت على صناعات، أرباحها تتراجع ودورها يخفت فيما يقدم منافسوها تكنولوجيات جديدة أو وسائل تجعل التكنولوجيات الموجودة أكثر غزارةً. هنا قد تكون الأسواق فوضوية ولكن هذا بحد ذاته قوّة.
نظر المنظّرون الماركسيون أيضاً إلى المؤسسات والبنيات الاقتصادية. وتقول المدرسة التنظيمية الفرنسية إن المراحل الطويلة من النموّ الاقتصادي المستديم تظهر لأن المؤسسات الداعمة تسهّل التراكم الرأسمالي. فتنظّم هذه البنيات عملية التراكم، فتأخذ وقتاً لتترسخ وهي نتاج التجربة والتفاوض والنزاعات التي تنتهي إلى تسويات مؤسساتية.
طورت مبادئ "البنيات الاجتماعية للتراكم" (Social Structures Of Accumulation)(Kotz, McDonough & Reich 1994) و"أنظمة التراكم" (Regimes Of Accumulation) و"صيغ التراكم" (Modes Of Regulation) (Boyer & Saillard 1995) من أجل وصف المؤسسات التنظيمية المماثلة.
نشأت هذه المقاربة عن النظرية الماركسية في بدايتها وتركزت على كيفية تصالح مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة على مرّ الوقت، وكيف قد تؤدي النزاعات والتناقضات في داخل البنيات الاجتماعية الداعمة إلى انهيار الأسواق والإنتاج. لذا هي تجمع بين التركيز على زيادة الإنتاج وبين احتمالات الأزمة. كما قد تطرأ متغيرات ملحوظة جداً في الأطر الوطنية للنموّ (المربع 3.3)
المربع 3.3 أعجوبة النمور الآسيوية
منذ السبعينات شهدت مجموعة من الدول الآسيوية ثورةً صناعيةً سريعة وحققت مستويات نموّ عالية وثابتة. نذكر من هذه الاقتصادات أربعة تعرف بـ"النمور الآسيوية" هي كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ. أصبحت هذه الدول محطّ جدل اقتصادي حول السياسات التي شجعت على هذا النموّ الاقتصادي (Haggard 2004).
انتهجت الدول الثلاث سياسات نموّ متوجهة نحو التصدير. فزادت صادراتها لتحفز على النموّ بدل أن تركز على صناعات من أجل السوق
المحلي. وقد تخصصت كلّ منها في قطاع محدد، سنغافورة وهونغ كونغ في قطاع الأموال وكوريا الجنوبية وتايوان في تكنولوجيا المعلومات.
في تجسيد لنظرية الأفضلية المقارنة، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي (1987) إلى أن هذا الموقف التجاري الأكثر انفتاحاً قد يكون مسؤولاً عن نجاح تلك الدول.
ولكن آخرين اعتبروا أن الوضع أكثر تعقيداً. مثلاً، في كوريا الجنوبية كانت السياسات الصناعية قوية، حيث عملت الحكومة عن كثب مع شركات كبرى وأدارت الاستثمار من خلال السيطرة على قطاع الأموال (Wade 1990). إن هذه الفكرة أقرب إلى نظرية بورتر (1990) حول الأفضلية التنافسية، فيشدد على أن هذه الأفضلية متعمدة وليست نتيجةً طبيعيةً لعمليات السوق. كما أن السياسات الصناعية ضمنت معدلات عالية من الادخار والاستثمار، ما أدى إلى توسع سريع في الإنتاج الصناعي، في ما يتلاءم مع نموذج الفائض.
زعم البعض أن هذا النموّ مدعوم بعوامل ثقافية. ففي آسيا، ربط ذلك بـ "الأخلاقيات الكونفوشية" (Fukuyama 1995)، بينما كان فيبر عزا ذلك خلال بدايات الرأسمالية في أوروبا إلى "أخلاقيات العمل البروتستانتية" وكلتاهما تشجعان على ثقافة الادخار. لقد لعبت دول شرق آسيا دوراً جيوسياسياً مهماً خلال الحرب الباردة، فكانت تلك الدول تحيط بحكومات شيوعية في الهند الصينية، لذا حصلت على امتيازات تجارية من الغرب الذي سعى إلى دعم الحكومات غير الشيوعية.
ومؤخراً، شهدت اقتصادات آسيوية أخرى تجارب متفاوتة، فالأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينات ألحقت ضرراً كبيراً في دول مثل إندونيسيا (Krugman 1999)، في حين زعمت ماليزيا أنها نجت من الأزمة من خلال تشديد التحكم الحكومي بالاستثمار والآن تظهر الصين والهند على أنها "النمور" الاقتصادية الجديدة ولكن بحجم أكبر بكثير. وقد تساعدنا تجربة النمور الآسيوية السابقة على فهم اقتصادات النموّ الجديدة هذه (الفصل 5).
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]