نبذة عن حياة الشاعر المتنبي
2003 موسوعة الكويت العلمية للأطفال الجزء الخامس عشر
عبد الرحمن أحمد الأحمد
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
الشاعر المتنبي شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
لم يحظ شاعر عربي بما حظي به المتنبي من شهرة وذيوع صيت، حتآ لقد قيل عنه قديما: إنه شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس.
أما أسباب هذه الحظوة والمنزلة المتقدمة فكثيرة. منها ما يرجع إلى شخص المتنبي نفسه، وما عرف عنه من اعتداد واستعلاء، ومنها ما يعود إلى شعره وما تميز به لغة وصياغة ومعاني ووثبات فكرية وفنية.
ومنها ما يتصل بحياته العاصفة المضطربة في عصر ممتلئ بالفتن والصراعات والحروب.
كل ذلك جعل من ديوانه مادة للشارحين والمحققين بدءا من ابن جني، والعكبري والواحدي والمعري الذي سمى شرحه لديوان المتنبي «معجز أحمد» وغيرهم.
ولد أحمد بن الحسين الكندي الكوفي – المعروف بالمتنبي – في حي كندة بالكوفة سنة ثلاثمئة وثلاث هجرية.
لم يذكر في شعره نسبه أو قبيلته، ولا أشار إلى والده أو جده، وإنما ذكر جدته لأمه، وقد رثاها بقصيدة من أجمل شعره وكان يقول لمن يسأله عن نسبه: «أنا رجل أخبط القبائل [أي: أتنقل بينها] وأطوي البوادي وحدي.
ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة [أي: ذنب أو ثأر] بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها. وما دمت غير منتسب إلى أحد، فأنا أسلم على جميعهم، ويخافون لساني».
وقد فتح هذا الغموض حول نسبه أبوابا للاجتهاد. فمن قائل إن أباه كان سقاء يسقي الماء لأهل كندة. ومن قائل إنه كان واحدا من أشراف العلويين، أخفى نسبه حتى لا يتعرض للأذى.
والمتنبي في شعره يفخر بأن قومه هم الذين يشرفون به؛ يقول في واحدة من قصائد الصبا:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
ويقول في رثاء جدته لأمه:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
ويقول في موضع آخر من شعره:
أنا ابن من بعضه يفوق أبا الباحث
والنجل بعض من نجله
وهو بيت طريف يقول فيه: أنا ابن الذي بعضه يفوق أبا الباحث عن نسبي؛ ونجله تعني: أنجبه (ويقصد المتنبي نفسه).
أما سبب تسميته بالمتنبي فأمر مختلف فيه. قيل إن رفاقه لما رأوه قد نبغ في الشعر وهو فتى صغير السن سألوه: من أين لك هذا الكلام؟
فقال: إنما يوحى به إلي. فوشوا به إلى «لؤلؤ» أمير حمص – ظنا منهم أنه بهذه الإجابة يدعي النبوة – فسجنه ولم يطلق سراحه حتى استتابه. فلحقت به تسمية «المتنبي» أي مدعي النبوة، منذ ذلك الحين.
وقيل بل سمي بالمتنبي لقوله في شعره:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
[وأرض نخلة: اسم موضع قرب بعلبك كان يقع في الشام].
وقوله:
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
فهو يشبه نفسه مرة بالمسيح وأخرى بالنبي صالح، عليهما السلام، فكان ذلك سببا في اتهامه بادعاء النبوة.
وقيل بل هو لقب أطلقه على نفسه، إعجابا منه بشعره وتفوقه على أقرانه، أو لعل بعض المعجبين بشعره هم الذين لقبوه به، تقديرا لعبقريته الشعرية، ولكونه يأتي في شعره بما يعدونه معجزا ليست له سابقة.
ألحق المتنبي في طفولته بكتاب الأشراف العلويين، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم دروس العربية شعرا ولغة. وكان يختلف إلى الوراقين ليفيد من كتبهم، تساعده حافظة قوية، وذكاء متقد وحب للعلم والأدب.
ثم أتيح له أن يصحب الأعراب في البادية سنتين أو ثلاثا، وأن يعود إلى الكوفة عربيا خالصا، عارفا بأسرار العربية وغريبها.
ثم كان رحيله إلى بغداد فرصة سانحة لمصاحبة كثير من العلماء الأفذاذ من أمثال: السكري ونفطويه وابن درستويه وابن دريد، كما لزم أبا القاسم البغدادي وأبا عمران موسى، حتى قيل عنه: «لقد طلب الأدب وعلوم العربية.
ونظر في أيام الناس، وتعاطى الشعر من حداثته حتى بلغ الغاية التي فاق فيها أهل عصره، وطاول شعراء وقته» [وطاولهم: غالبهم وتفوق عليهم].
في حياة المتنبي الشعرية مرحلتان ازدهر فيهما شعره وتألقت عبقريته الشعرية. الأولى بدأت في عام 337 هجرية حين اتصل بسيف الدولة الحمداني أمير دولة «حلب» في الشام»، حيث قضى في صحبته قرابة تسع سنوات، وسميت قصائده في سيف الدولة السيفيات.
ووجد المتنبي في سيف الدولة النموذج الذي يبحث عنه، فهو أمير عربي فارس شجاع، يقف في وجه جيوش إمبراطورية الروم الطامعة في التهام الدولة العربية بعد ضعفها وتمزقها إلى دويلات. ثم هو واسع العلم والمعرفة، محب للشعر، ذواقة له، وهو في ذلك يقول:
عليم بأسرار الديانات واللغى
له خطرات تفضح الناس والكتبا
ووجد المتنبي في معارك سيف الدولة مع الروم مجالا رحبا لجلاء عبقريته الشعرية، ووجد من تقديمه له على سائر الشعراء في بلاطه ما ملأه بالفخر والاعتزاز والكبرياء، الأمر الذي سيكون سببا في غيرتهم منه، وتدبير المكائد له ومحاولة الإيقاع بينه وبين سيف الدولة.
ووجدوا فرصتهم في فخر المتنبي بنفسه في شعره، ووضعه لنفسه في منزلة مساوية لممدوحه حين يقول:
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
أجزني إذا أنشدت شعرا، فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي، فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
[المحكي: الذي يقلده الآخرون].
ويقول في إحدى مدائحه لسيف الدولة مهنئا له بانتصاره على جيوش الروم وشجاعته وثباته في ملاقاتهم:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
ومن طلب الفتح الجليل فإنما
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
[الردى: الموت؛ كلمى: جريحة؛ الصوارم: القواطع يصف بها السيوف الخفيفة]
وحين تنجح الوشايات في الإيقاع بين سيف الدولة وشاعره، ويرى المتنبي أن سيف الدولة يرهف سمعه إلى الحاقدين عليه، ينشده قصيدته المعاتبة، الصادرة عن قلب جريح ونفس مكلومة، والتي يقول فيها:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
[بناظره: ببصره؛ شواردها: كلماتها المنتشرة في كل مكان؛ جراها: بسببها ومن أجلها].
ثم يقول:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إن كان سركمو ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمو ألم
[البيداء: الصحراء؛ القرطاس: الورق].
ويرحل المتنبي إلى مصر سنة 346 هجرية حيث حاكمها كافور الإخشيدي، آملا أن يوليه كافور على بعض بلدان الشام أو مصر. ويبدو أن المتنبي – كما يرى بعض الدارسين والباحثين في حياته وشعره – لم يكن قانعا بعرش الشعر، والإمارة على دولته، فأراد أن يكون له عرش من عروش الدنيا، وهو الذي يقول في إحدى قصائده لكافور:
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك، وإن كان
لساني يرى من الشعراء
[الرواء: الشكل والهيئة؛ فؤادي من الملوك: قلبي قلب ملك].
وعندما لم يحقق له كافور ما كان يؤمله ويطمع فيه من ولاية وملك، يفر المتنبي من مصر تاركا وراءه إحدى هجائياته اللاذعة في كافور، يقول فيها:
إني نزلت بكذابين ضيفهمو
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهمو
من اللسان، فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهمو
إلا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
[القرى: الجود والعطاء؛ نواطير مصر: حراسها وحماة خيرها؛ بشمن: امتلأت بطونهم من كثرة الطعام].
ويتجه المتنبي إلى الكوفة – مسقط رأسه – بعد رحيله من مصر، ويكاتبه ابن العميد في أمرجان ببلاد فارس متوددا آملا في زيارته، ثم يستقدمه عضد الدولة إلى شيراز، مارا بموضع يسمى شعب بوان، يروعه جماله، لكنه لا يرى أثرا للعروبة فيما حوله من وجوه وديار، وهو الذي تغنى في شعره بالهوية العربية لغة ونبضا وحكاما وأمراء، فيقول:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
[الشعب: المراد به هنا الموضع الكثير الشجر والماء؛ مغاني الشعب: أماكنه الجميلة الآهلة].
فالغربة التي يعيشها المتنبي غربة عصر كاملة، غربة وجه ويد ولسان، في مقابل هجنة وعجمة وسيادة لغير العرب على بلاد العرب، يقول:
وإنما الناس بالملوك، وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يبرى بظفره القلم
[وطئتها: مشيت فيها؛ يستخشن الخز: يعتبر الخز شيئا خشنا!].
وفي طريق عودته إلى الكوفة، في موضع يسمى دير العاقول، يخرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي في بعض أتباعه من الشذاذ قطاع الطرق، قاصدا قتله انتقاما منه بسبب قصيدة قالها المتنبي في هجاء «ضبة» ابن أخت فاتك، وأفحش فيها. وتكون نهاية المتنبي في رمضان سنة 354 هجرية.
يلفت النظر أخيرا في شعر المتنبي، هذا الفيض من أبيات الحكمة التي جرت مجرى الأمثال، تتردد على ألسنة الناس وأقلامهم في كل حالات النفس الإنسانية التي عبر عنها المتنبي أروع تعبير وأصدقه، في صياغة رصينة وإحكام مدهش، حين يقول:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
وحين يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وفي قوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
وقوله:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر، كوضع السيف في موضع الندى
وقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقوله:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
وقد تجيء أبياته في الحكمة وهي تنتظم قصيدة كاملة، كما في قوله:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منه
وإن سر بعضهم أحيانا
ربما تحسن الصنيع لياليه
ولكن تكدر الإحسانا
وكأنا لم يرض فينا بريب الدهر
حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن تتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
ولو ان الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس
سهل فيها، إذا هو كانا
[عناهم: أهمهم؛ تولوا: ذهبوا؛ غصة: المقصود هنا حسرة ولوعة؛ الصنيع: المراد: العمل الجميل؛ ريب الدهر: محنه ومصائبه؛ القناة: عود الرمح؛ السنان: الطرف الذي يطعن به؛ المنايا: جمع منية أي الموت؛ لعددنا: لاعتبرنا؛ ومعنى البيت الأخير: أن الأمر يصعب على النفس قبل وقوعه، فإذا وقع سهل وهان].
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]