نبذة عن حياة العالم “جريُجور جُوهان مِندِل”
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
العالم جريجور جوهان مندل شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
كان مجهولاً، حياً وميتاً! فقد حاول أن ينشر أبحاثه في مجلات غير معروفة، وأن يبعث بها إلى مشاهير عصره، بيد أن أحداً-مغموراً كان أم مشهوراً- لم يلتفت إليه! حتى إنه عندما رحل لم يدر أحد ما الذي فعله ذلك الرجل وما الذي توصل إليه.
فقد عاش – كما قلنا – مجهولاً كذلك ومات. ولم يشأ القدر أن يغمطه حقه لهذه الدرجة، فكشف عنه الغطاء ولو بعد فوات الأوان!. ذلكم هو مندل (شكل رقم 109)، القس الراهب مؤسِّس علم الوراثة…
عندما يجوع… العلماء!
ولد جوهان في قرية التبرين بإقليم مورافيا، وكانوا يلقبونها (زهرة الدانوب).
ومن ثم تربى لديه ميل إيجابي نحو دراسة كل ما ينمو من الكائنات الحية، وكان والده مزارعاً ولكنه يهوى فلاحة البساتين.
وكان جوهان الصغير يقضي الساعات الطويلة وهو يعنى بالنباتات في حديقة أبيه.
وقد استطاع – لحسن حظه وحظنا- أن يتعلم شيئاً عن أسرار الطبيعة في مدرسته الإبتدائية.
إذ أن كونتيسة فالتبورج، وهي سيدة المقاطعة التي تقع بها قريته، كانت قد أصرَّت على إدخال دراسة علم الحياة كجزء من البرنامج المدرسي في مدارس المنطقة.
ولكن مفتش وزارة المعارف، بايرفريدل، اعترض على ذلك قائلاً: (إن دراسة علم الحياة في المدارس الابتدائية تعتبر فضيحة!!) غير أن الكونتيسة رفضت أن تزيل هذه (الفضيحة) من مدارس المقاطعة، وكان ذلك من حسن حظ يوهان الذي ساعدته دراسته المبكرة لعلم الحياة أن يكون أحد علمائه المشهورين فيما بعد.
وبعد أن أتم جوهان تعليمه الإبتدائي في قريته دخل المدرسة الثانوية في المدينة المجاورة، واستمر يكافح خلال السنوات الست التي قضاها بتلك المدرسة وهو يتغذى (نصف تغذية) ويشبع (نصف بطن)، لأن والديه لم يكن بإمكانهما تمويله بما يكفي وجبات ثلاثاً كاملة في اليوم!
وقد أدى به الجوع والفاقة والحرمان في النهاية إلى مرِضٍ خطيرٍ أصابه في عام 1839، اضطر بسببه إلى أن يتعطل عن الدراسة بضعة أشهر.
مصائب قوم عند قوم….!
كاد فقر يوهان ومرضه أن يضعا حداً لدراسته، بيد أن حسن الحظ أتاه مُتنكراً في ثوب حظٍ عثر بوالده!
فبينما كان الوالد يقوم بقطع شجرة ذات يوم، وإذ بجذعها يسقط فوق صدره ويهشم بعض ضلوعه، وبهذا أصبح والده غير قادر على مواصلة عمله في مزرعته، فاضطر إلى بيعها لزوج ابنته الكبرى، وأعطى جانباً كبيراً من الثمن الذي قبضه لابنيه الآخرين: جوهان وتريزيا.
وكان المبلغ الذي أعطاه لتريزيا يعتبر بائنة لها. ولكن الفتاة الصغيرة أعطته كاملاً لأخيها. وشجعت هذه (المنحة) جوهان على أن يلتحق بمعهد (أولميتز) ليدرس الفلسفة.
وبعد سنوات أربع من الدراسة الشاقة التي يتخللها الجوع الدائم أو فترات متقطعة من المرض أصبح على استعداد لكي يبدأ حياته العملية. ولكن سؤالاً محيراً واجهه في هذا الصدد: ما هي المهنة التي يمكنه امتهانها؟ طبعاً لا بد وأن تكون بحيث تسد عوزه وترحم فاقته.
وقد كتب هو عن ذلك يقول: (من الواجب عليّ أن أختار مهمة تنقذني من القلق الدائم على وسائل الرزق). و
لتحديد المهنة قصد إلى أحد مدرسيه، ميخائيل فرانتس، وطلب نصيحته ونصحه الأستاذ قائلاً: (إن حياة الأديرة هي أفضل ما يحقق مطالبه!).
عملاً بالنصيحة دخل جوهان في 9 أكتوبر عام 1843 ديراً من أديرة (الأوغسطينيين) في قريته التبرين، وتسمَّى باسم (جريجور) واستقر في حياةٍ تجمع بين العلم والتعبد.
عالمٌ يرسب في الامتحان … مرَّتين!!
بعد أن استقر بجريجور المقام في حياة الدير الجديدة، تقدم في ربيع عام 1850 للامتحان ليعمل مدرساً في مدرسة ثانوية في بلدته التبرين، وكان قد سبق له العمل فترةٍ ما كمدرس منتدب، ولكنه تواقٌ الآن لأن يحصل على منصب ودخل ثابتين.
وقد كتب في طلب الاستخدام المقدم منه: (إن الموقِّع أدناه، الذي يحترمكم كثيراً، سوف يكون سعيداً إذا تمكن من أن يحظى برضاء ممتحنيه الفائقي الاحترام وبذلك تتحق أمنيته) ولكن جريجور لم يتمكن من أن يحظى برضاء ممتحنيه (الفائقي الاحترام)، فقد (أسقطوه) في العلوم الطبيعية .
وكتبوا في تقريرهم (إن الطالب المذكور لم يتقن بعد ذلك الموضوع بدرجة تسمح له بأن يكون مدرساً في المدارس الثانوية!).
وخاب الرجاء. ولكن لا بأس من تكرار المحاولة. وهكذا عاد جريجور إلى كتبه ثم تقدم للامتحان مرة أخرى بعد بضعة شهور. ولكن الممتحنين (كتموا أنفاسه) في هذه المرة أيضاً. وقالوا : (إن ورقة الإجابة عن هذا الامتحان الثاني- لا تسمح لنا بأن نعتبر صاحبها كفؤاً للتدريس في المدارس الابتدائية!)
ولكن هل بهذه السهولة يفشل من سيكون فيما بعد عالماً من علماء الطبقة الأولى؟! الحق أن فشل جريجور في امتحانيه لم يكن ناجماً عن قصورٍ في استعداداته، بل العكس، فقد كان السبب الرئيس في فشله هو تفوقه غير العادي، فقد كانت إجاباته تعلو على مستوى ممتحنيه!.
وكتب هؤلاء الممتحنون محتجين: (إن هذا الطالب لا يهتم أبدا باستخدام الاصطلاحات الفنية المتفق عليها، ولكنه يستعمل كلماته الخاصة، ويعبر عن آرائه هو بدلاً من اعتماده على المعرفة التقليدية التي ألفناها وتعودنا عليها).
يا ترى هل هذه (طبيعة) يتميز بها جريجور وحده دون آله أم هي مميزة لهم جميعا؟.
إن جريجور ينحدر من سلالة عنيدة صلبة الرأي، فقد كان من طباعهم التي تجري في دمائهم أن يختاروا سبيلاً معيناً للعمل، وأن يبدأوا اتجاهاً جديداً ثم يتابعوا طريقهم إلى النهاية بالرغم من كل ما يعترضهم من فشل، لذا لا غرو في أن يكون السبيل الذي اختاره جريجور هو أن يكتشف بعض أسرار الطبيعة الخفية لا من بطون الكتب وإنما من قلب الطبيعة ذاتها، يصادقه – أي القلب- ليبوح له بما خفي ويعلمه بما أوعى!.
لقد كان حب جريجور للطبيعة منحدراً إليه من أسلافه المزارعين وفالحي البساتين. وبعد فشله المتكرر في الامتحان، ومهما كانت الاسباب، فقد قفل عائداً إلى الدير ثانية.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]