الطب

نتائج حقيقية توصل إليها العالم “يورج” حول علاج مرضى الشلل الجنوبي العام

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول

صبري الدمرداش

KFAS

العالم يورج مرضى الشلل الجنوبي العام الطب

القرار الحاسم

وأخيرا جاء يومه المشهود…

كان يوم 14 يوليو عام 1917، لما جاءه أحد معاونيه وأسرَّ في أذنه أن في المستشفى جندياً مصاباً بصدمة القنابل وبالملاريا، وسأله المعاون: هل نعالجه من الملاريا بالكينا؟

وصمت عالمنا قليلا، فقد أشرف الآن على الستين وهو يعلم أن علاج التوبركلين أشبه بالسراب، فقد جرى وراءة ثلاثين سنة حتى اكتشف أنه حقا سراب من غير أشبه.

ولكن لا بد من قرار حاسم. إنه يعلم أن الملاريا أنواع، حميدة وخبيثة، وهو في كل ليس بعليم. ولكن الفرصة أثمن من أن تُفوَّت، لذا أسرَّ في أذن معاونه شيئاً، فانطلق وإخوان له يستخرجون من عروق الجندي قطيرات من الدم حافلة بطفيليات الملاريا.

 

ولكن ما العمل إذا أخذت الملاريا تنتشر في فيينا؟ وأحوال المعيشة فيها في السنة الثالثة من الحرب العالمية الأولى أعسر من أن يضاف إليها وباء جديد مخيف؟ ألا تلقى التبعة على كاهله؟ ألا يدينه التاريخ ويلعنه اللاعنون؟

ولكن يورج لم يكن يفكر في تلك الساعة في نفسه، فقد رأى – بعين الذاكرة- مواكب المشلولين المجانين وهي تتوالى أمامه وتتعاقب خلال ثلاثين عاماً وهو يعالجهم بالتوبركلين. وأين هم الآن؟ معظمهم قضى نحبه وأقلهم قد شفي وكيف شفي؟ الله سبحانه وحده يعلم.

إذن القرار: لا يعالج بالكينا الجندي المصاب بالملاريا. ومبالغةً منه في الحيطة، بعث طائفة من معاونيه يبحثون حول المستشفى عن البعوض الناقل للملاريا فلم يجدوه.

عندئذ أخذ الدم المستخرج من عروق الجندي ووضع قطيرات منه في خدش ممثل مصاب بالشلل الجنوني العام وأخرى في خدش أحد موظفي البريد مصاب بالمرض نفسه. وأعاد التجربة سبع مرات خلال الشهرين التاليين. وانقضت سنوات وسنوات.

 

استيعاب الدرس

في عام 1927 كان ثلاثة من المصابين التسعة الذين حُقنوا بطفيليات الملاريا يزاولون أعمالهم ويكسبون رزقهم، وهم أوفر ما يكونون صحة عقلية وجسدية، إذ رفعت هذه الطفيليات حرارتهم إلى ما فوق الأربعين درجة مئوية.

وكانت القشعريرة التي تصيبهم تجعلم ينتفضون في أسرّتهم انتفاضاً، حتى لتحسب أن جنونهم قد ثار واشتد، وكانت صيحاتهم تتعالى فترن أصداؤها مخيفة مزعجة. ولكن ثلاثة من تسعة خرجوا من هذا الأتون وقد صهروا فيه الأدران التي كانت تصيبهم بالشلل الجنوني العام. ولكن ماذا عن الباقين؟

مات أحدهم – موظف البريد- وأما الخمسة الآخرون فكانوا قد حُقنوا على ما يبدو بطفيليات نوع من الملاريا خبيث، لذا مات منهم أربعة وأُنقذ الخامس بإعطائه جرعات كبيرة من الكينا.

 

هذه هي الحقيقة، بل قل إنه الدرس، فقد تعلَّم يورج أنه إذا حُقن المصابون بالشلل الجنوني العام بطفيليات الملاريا الحميدة شفتهم حُمَّاها من إصابتهم الأولى، ثم تشفيهم الكينا من إصابتهم الثانية. نعم إنه الدرس والحقيقة معاً تعلمها الإنسان في صراعه الطويل ضد المرض والموت.

ولكن هناك ما يعكر الصفو – مرَّةً أُخرى؟ نعم إن ثلث الذين عولجوا بالملاريا شفوا، وأما الثلثان الباقيان فلقوا حتفهم.

وما السبب؟ السبب أن الثلثين من المصابين الذين عولجوا بالملاريا قد جاءهم العلاج بعد فوات الأوان، ذلك أن نسيج أدمغتهم كانت ميكروبات شلل الحلق قد أتلفته ولا يستطيع أن يرمِّم نفسه.

 

 

الحاضر … الغائب!

وهكذا بعد أن وعي عالمنا الدرس، شرع يعالج المصابين بالشلل الجنوني العام بمجرد أن تبدو الأعراض بالظهور عليهم، أي عندما تبدو عليهم آثار الإعياء وتثبت الكواشف أن ميكروبات شلل الحلق تختفي في ثنايا أدمغتهم ولكن قبل أن يفتك بنسيجها.

وكانت النتيجة، والحال كذلك، مرضية، حيث إن 83% من أولئكم المقضيّ عليهم بالموت المحتوم قد شفوا وعادوا يزاولون أعمالهم، وهم أوفر صحة وأكمل عقلا ونشاطا.

ومضى يورج في تجاربه ومعالجاته حتى توصل إلى ما هو أفعل: إذا اتبعت المعالجة بالملاريا حقنةً كبيرةً من حقُن إيرليش كانت النتائج أفضل ما يكون.

وفي عام 1927 كان عالمنا قد بلغ السبعين من عمره, وها هو على وشك أن يعتزل منصب الأستاذية في معهد فيينا الطبي. فاجتمعت طائفة من تلاميذه وأعوانه وغيرهم ممن كانوا مدينين له – بعد الله – بالعقل والحياة للاحتفال به.

 

وكان العالم قد اعترف بيده الحانية على الإنسانية، إذ مُنح جائزة نوبل في الطب في ذلك العام. ولكن وسط المحتفين والمحتفلين كان عالمنا الحاضر الغائب، نعم كان شارداً لأنه وحده كان يدري أنه ما يزال أمامه من الكفاح الطويل مع أنه في السبعين!.

وهل تحول السبعون دون مواصلة الكفاح؟

إن الملاريا تشفى من الشلل الجنوني العام، إن كان المرض لم يبلغ من فتكه بنسيج الدماغ مبلغه، هذا حق، ولكن الأحق منه أنه ينبغي منع الشلل الجنوني العام. إذ لماذا لا يعالج بالملاريا الذين يثبت وجود ميكروب شلل الحلق في أجسامهم قبل أن يصابوا بالأعراض الأولى للشلل الجنوني العام، لماذا لا يُحال بينهم أصلاً وبين هذا المرض؟!.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى