العلوم الإنسانية والإجتماعية

نوعية الحياة في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

يقول الاقتصاديون التقليديون إنّ المعايير المعيشية المادية هي ليست العنصر الوحيد لضمان الرفاهية، معتبرين أن هناك عوامل مهمة أخرى أيضاً مثل الصحة والعلاقات والثقة بالنفس. لكنّ التركيز الكلاسيكي الجديد على القيمة الشخصية وخيار المستهلك يميل إلى منح الامتياز للاستهلاك المتنامي كوسيلة لقياس المعايير المعيشية الآخذة إلى الارتفاع. وأصبحت وجهة النظر هذه عرضة للنقاش والمساءلة شيئاً فشيئاً.

نزعة الاستهلاكية والسعادة

ثمة أدلة متزايدة على أنه بالرغم من التزايد السريع في المداخيل، لا يزال العديد من الناس يشعرون بالفقر (Hamilton & Denniss 2005)، ما يعكس نوعا من التناقض. فإن كان الاستهلاك المتزايد مسؤولا عن رفع نوعية الحياة لدينا، فكيف يمكن للأشخاص في المجتمعات الأكثر ثراءً التي تواجدت يوماً أن يشعروا أنهم لا يملكون ما يكفي؟

إحدى الإجابات هي مجموعة متنامية من الأدبيات حول العلاقة بين الاستهلاك والشعور بالسعادة، والتي تعتبر أن الوفرة تقلل من أهمية الاستهلاك لناحية الرفاهية. ويصف روبرت فرانك (Robert Frank) (2000) نزعة الاستهلاكية المتزايدة على أنها شكل من أشكال "حمى الترف" (Luxury Fever). ويعتبر آخرون أن مجتمعات الأسواق تعاني من "حمى الثراء" (Affluenza) (عن de Graff et al 2001؛ Hamilton & Denniss 2005)، كون الناس يقترضون المال ويعملون لساعات أطول بهدف شراء المزيد من دون أن يشعرهم ذلك بسعادة أكبر. إلى حد تولّد رغبات جديدة عبر جعل الناس يشعرون بعدم الاكتفاء أو بعدم الأمان، وهو ما تعتبره بعض الحركات النسائية صحيحاً عن صناعة الجمال، (Wolf 1992) فإن دورة الاستهلاك قد تجعلنا نشعر بالسوء أكثر.

يرتكز انتقاد آخر على المعنى الاجتماعي للاستهلاك. فيعتبر فيبلين (1899) على سبيل المثال أنّ الاستهلاك كان طريقة لعرض المنزلة وإظهار مرتبتنا على السلم الاجتماعي، بدلاً من كونه طريقة لإشباع رغباتنا الخاصة. لذا، قد نلجأ إلى شراء سيارة فخمة أو منزل كبير كطريقة لإظهار نجاحنا الاجتماعي. ويبني بورديو (1984) على هذه النظرية واصفاً كيف أن الفئات الاجتماعية المختلفة تميل إلى تناول أطعمة مختلفة وارتداء ملابس مختلفة، ما يعكس عدم المساواة البنيوية عبر أنماط الاستهلاك.

يسمّي علماء الاقتصاد البضائع التي يتم شراؤها لأثرها الاجتماعي بـ "البضاعة المكانية" (Positional Good). وخلافاً لعملية إنتاج سلع "خاصة" عادية، فإن زيادة إنتاج البضاعة المكانية تساهم في شكل قليل جداً بزيادة المنفعة أو نوعية الحياة. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ البضائع مرغوبة تحديداً بسبب عدم قدرة الآخرين على دفع ثمنها، لذا، فإنه مع توفر سلعة معينة أكثر فأكثر، تصبح البضاعة الجديدة مسؤولة عن تحديد المنزلة الاجتماعية. يؤدي هذا إلى ميل دائم لنزعة الاستهلاكية مع محاولة الناس مجاراة جيرانهم. ومع ذلك، فإن مدى مفهوم "حمى الثراء" موضع جدال كبير (انظر المربع 3.8).

المربع 3.8 نزعة الاستهلاكية والدّين

تُبدي إليزابيت وارين (Elizabeth Warren) (2007) اهتمامها بمعرفة السبب وراء دَين المستهلكين المتزايد. في العام 1970، كان العامل العادي ذو المدخول المتوسط يقوم بادّخار حوالي 11% من مدخوله، بينما أصبحت نسبة الادخار نفسها في العام 2006 سلبية، على الرغم من أن معظم العائلات المتوسطة الدخل تضم عاملين مأجورين بدلاً من عامل واحد. ورد البعض سبب ارتفاع دَين المستهلك إلى "حمى الثراء" (Affluenza).

لكن سرعان ما اكتشفت وارين أن نمط إنفاق المستهلك لا يتطابق مع هذه النظرية. في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كانت العائلة العادية المؤلفة من أربعة أشخاص تنفق مالاً أقل على الأشياء المرتبطة بنزعة الاستهلاكية – مثل الثياب والغذاء والمعدات- مقارنة بما كانت تنفقه عائلة مماثلة في حقبة السبعينات.

وتتراوح أسباب هذا الاختلاف بين ثقافية واقتصادية. لقد تغير ذوقنا وأصبح ميالاً أكثر للملابس العادية والأطعمة التي تحتوي على لحوم أقل. كما أصبح الاقتصاد العالمي على نطاق واسع أكثر إنتاجيةً، ما أدى إلى تخفيض الأسعار، ولكن قوبلت هذه المدّخرات بزيادات في مجالات أخرى. تنفق العائلات الأميركية العادية اليوم مالاً أكثر على التعليم ورعاية الأطفال والتأمين الصحي والمنازل.

مع أن منزل العائلة العادية اليوم أكبر بنسبة 5%، إلا أن تكاليف الرهن باتت أكبر بنسبة 75%. هذا وقد ارتفع التأمين الصحي بالهامش نفسه. ويترافق وجود دخلين معاً في العائلة نفسها مع تكاليف أخرى، لأنه قد يلزم العائلة باقتناء سيارتين، وتوفير الرعاية للأطفال بالإضافة إلى دفع ضرائب أعلى.

تقول وارين إن فشل السياسة العامة في تأمين خدمات اجتماعية بأسعار معقولة، وليس جشع المستهلك، هو السبب الرئيسي وراء الديون. وتفيد الأدلة الأخيرة بأنّ العديد من الناس يعملون لساعات أكثر من أجل تسديد ديونهم مستهلكين بذلك وقتاً يفضلون قضاءه مع عائلاتهم أو في القيام بأنشطة ترفيهية (Schor 1992,1998 ;Drago, Wooden & Black 2009 ) 

قياس نوعية الحياة

إن كان للاستهلاك آثار سلبية، فكيف يمكننا إذاً تقييم النمو الاقتصادي والرفاهية؟ ناقشنا في الفصل الثالث عدداً من التدابير البديلة للنمو الاقتصادي، مثل مقياس النمو الحقيقي ومؤشر التطور الإنساني (الفصل 3).

تُعدّ هذه تدابير نمو موضوعية بواقع أنها تسعى إلى قياس جوانب يمكن ملاحظتها من الحياة– مثل الدمار البيئي، ومستوى القدرة على القراءة والكتابة ومتوسط العمر المتوقع. ولكن أصبح الاقتصاديون شيئاً فشيئاً أكثر اهتماماً بالتدابير ذات الطابع الشخصي الخاصة بالرفاهية: تدابير تنظر إلى كيفية شعورنا إزاء حياتنا وإن كنا نعتقد أننا أفضل من دونها.

تتناسب هذه التدابير الشخصية أكثر مع المقاربات التقليدية الكلاسيكية الجديدة التي تستند إلى نظرية غير موضوعية حول الرفاهية والقيمة (انظر الفصل 2)، لكنها تذهب إلى أبعد من ذلك. وحيث يعتبر الاقتصاديون تقليدياً أنه لا يمكننا معرفة مدى المنفعة التي يتمتع بها الشخص، تحاول التدابير غير الموضوعية قياس الرفاهية. وهم يقومون بذلك عبر أساليب تستخدم في علم النفس المعرفي ومنها الاستفتاء.

كانت النتائج التي تم التوصل إليها مثيرة للاهتمام. فمن الواضح أن المداخيل المتزايدة ترتبط برفاهية شخصية أعلى، لكن العلاقة القائمة أضعف بكثير مما تخيلها الكثيرون. إذ تكون هذه العلاقة في أقوى مستوياتها في حالة الأشخاص ذوي الدخل المنخفض وفي أضعف مستوياتها في حالة الأشخاص ذوي الدخل المرتفع، ما يقترح أنه بعد إشباع الحاجات الأساسية، يصبح المدخول أقل فعالية في عملية رفع نوعية الحياة لدينا.

أثبتت عوامل أخرى أنها ذات أهمية أكبر لناحية نوعية الحياة وهي: الصحة، والعلاقات العائلية، والعمل الآمن والمُرضي، بيدَ أنّ هذا لا يعني أنه يجب التوقف عن بذل الجهود لتحصيل مدخول أعلى. ولكن بالتوافق مع نظرية "حمى الثراء"، إذا جاءت المداخيل المرتفعة على حساب علاقاتنا أو قدرتنا على التحكم بعملنا وأوضاعنا الاقتصادية، فإنّ هذا يمكن أن يقلل فعلاً من نوعية الحياة. وتعكس أهمية العلاقات بالنسبة إلى رفاهيتنا صدى أبحاث أخرى تظهر أن عدم المساواة (كم نملك مقارنةً بالآخرين) أكثر أهمية من المدخول (كم نملك كأفراد) في الدول الغنية (انظر الفصل 4). 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى