هل الأدلة تشير إلى أن فيروس كورونا المستجد خرج من مختبرات بيولوجية؟
د. إسلام حسين
صدرت مؤخراً تصريحات مدوية عن العالم الفرنسي لوك مونتانييه، الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 2008، عن دوره في اكتشاف فيروس HIV المسبب لمرض نقص المناعة البشرية المكتسب AIDS. وقد روج هذا البروفيسور في هذه التصريحات لإحدى فرضيات نظرية المؤامرة التي تدّعي أن فيروس كورونا المستجد هو من صنع الإنسان وأن شفرته الوراثية تحتوي على أجزاء دخيلة من فيروس HIV. وبحسب هذه النظرية، فقد ساهمت هذه التعديلات الوراثية في منحه الخصائص التي مكنته من الانتشار السريع والتحول إلى وباء عالمي. وعلى الخط نفسه، تكررت اتهامات الرئيس ترامب التي يشير فيها (دون تقديم أي دليل) إلى سيناريو خروج هذا الفيروس من مختبر أبحاث الفيروسات في ووهان بالصين.
وتسببت تصريحات البروفيسور مونتانييه في ارتباك شديد لدى جمهور الناس، وخصوصاً لأنها تحمل “ختم الجودة” التي تمنحه جائزة نوبل لحاملها. ولكن قبل الشروع في شرح بعض التفاصيل التي تدحض نظرية الخروج من المختبر الصيني، دعني أولاً عزيزي القارئ أؤكد على أن الأفكار التي سأسردها في هذا المقال لا تُنقص من قدر إنجازات علماء كبار أضاؤوا لنا الطريق باكتشافاتهم المذهلة. وخالص التقدير والاحترام لهم ولعلمهم، وما أحاول أن أقوم به هنا هو تقديم الحجج العلمية لتصحيح بعض الأفكار المغلوطة التي لا تستند إلى أدلة علمية.
حينما سُئل البروفيسور مارتن شالفي، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2008، عن التغيير الذي طرأ على حياته بعد الفوز بالجائزة، كان رده أنها حولته إلى شخص مسموع الكلمة. للأسف هناك من علماء نوبل من أساء استخدام هذا التكريم للترويج لآراء غير علمية. وربما ساهمت هذه المكانة الرفيعة، مع الكثير من الثناء والاحتفاء، في ترسيخ شعور لدى بعضهم بالثقة العالية في النفس مهدت لهم الطريق نحو الانحدار للترويج لمفاهيم تندرج تحت تصنيف العلم الزائف؛ ظاهرة عرفت بـ “متلازمة نوبل”. وللأسف الأمثلة على ذلك كثيرة، فهناك جيمس واتسون الحاصل على جائزة نوبل سنة 1962 عن دوره في اكتشاف التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA. وفي أحد تصريحاته الصحفية سنة 2007 ألمح واتسون إلى أن ثمة عوامل وراثية وراء انخفاض معدل ذكاء الأفارقة مقارنة بالبيض. وبالطبع، لا توجد أي أدلة علمية تدعم هذه الادعاءات التي أثارت ضجة كبيرة، أجبر بعدها واتسون على التقاعد من منصبه كرئيس واحد من أهم مختبرات أبحاث الوراثة في العالم مختبر كولد سبرينغ هاربور Cold Spring Harbor Laboratory. وهنا تكلم كاري موليز الحاصل على جائزة نوبل عن ابتكاره لتقنية تفاعل إنزيم البلمرة المتسلسل PCR عام 1983، والمستخدمة حالياً في تشخيص العدوى بفيروس كورونا. وادعى أن فيروس HIV ما هو إلا مؤامرة ولا يسبب مرض الإيدز. وأخيراً، العالم الكبير لاينوس باولينغ، الحائز على جائزة نوبل مرتين والذي أدى دورًا مهمًا في وصف طبيعة الروابط الكيميائية ويعتبر أحد الآباء المؤسسين لعلم البيولوجيا الجزيئية قد أصيب بهوس عجيب تجاه فيتامين سي في مرحلة متأخرة من عمره، وروج في محاضراته وكتبه أن فيتامين سي يعالج أمراض القلب والإيدز و السرطان!
عودة إلى البروفيسور منونتانييه، بعد فوزة بجائزة نوبل بسنتين، روج هو الآخر لادعاءات مفادها ان الأعشاب تعالج مرض الإيدز. وتبنى أيضًا أحد أكبر المفاهيم الخاطئة عن اللقاحات: أنها تسبب مرض التوحد، الادعاء الذي نُفيَ بشكل قاطع علمياً. ولم يكتفِ بذلك، بل روج لأحد مفاهيم العلم الكاذب الذي يدعي أن المادة الوراثية تنبعث منها موجات كهرومغناطيسية من الممكن استخدامها كأداة تشخيصية للأمراض المعدية. وكانت هذه لمحة تاريخية سريعة عن البروفيسور صاحب نوبل الذي أطلق ادعاءاته في الهواء، دون أي أدلة علمية، فهل لنا أن نصدقه؟ هل تعطي جائزة نوبل ضوءاً أخضر لحاملها يسمح له بأن يكسر كل الضوابط العلمية المتعارف عليها؟
هناك نوعان من الأدلة تدحض نظرية خروج فيروس كورونا من مختبر في الصين: أدلة عقلية وأدلة علمية، ولنبدأ أولا بالأدلة العقلية. أليس من أهم مواصفات السلاح البيولوجي أن يستهدف صنفًا معينًا من البشر دون أن يضر ببلد المنشأ؟ أليس من السذاجة إطلاق سلاح بيولوجي دون امتلاك لقاح أو دواء لحماية بلد المنشأ؟ أليس من السذاجة إطلاق سلاح بيولوجي يوقع أضرارًا صحية جسيمة بكبار السن، ويترك الشباب عماد اقتصاد وقوة أي بلد؟ ولذلك أستطيع أن أزعم أن هدف السلاح البيولوجي هو في تضاد تام مع نتيجة الوباء العالمي. فالحرب البيولوجية هي بالفعل حقيقة، ولكنها تاريخية، لأن الدول الكبرى أوقفت برامجها لتطوير الأسلحة البيولوجية في سبعينات القرن المرضى بعد تيقنها من صعوبة استخدام مثل هذه الأسلحة دون أن تضر بشعوبها.
فماذا عن الأدلة العلمية؟ العديد من نظريات المؤامرة نسجت حول مختبر الفيروسات في ووهان وذلك بسبب قربه من سوق المأكولات البحرية الذي يُعتقد أنه كان نقطة انطلاق الوباء. وهناك أربعة سيناريوهات محتملة تدور حول فكرة خروج فيروس كورونا من هذا المختبر سنفندها واحداً تلو الآخر:
1- فيروس كورونا المستجد هو أحد الفيروسات التي عثر عليها الباحثون الصينيون في عينات الخفافيش
يحفل السجل البحثي لهذا المختبر بالعديد من المحاولات لعزل فيروسات تنتمي إلى عائلة الكورونا من الخفافيش لفك شيفراتها الوراثية، ورصد الفيروسات الشبيهة بسارس الكلاسيكي الذي ظهر في عام 2002. ولكن الأغلبية العظمى لهذه الفيروسات التي تكيفت مع الخفافيش لا تسبب عدوى في الإنسان، ولا بد من أن تكتسب بعض الطفرات التي قد تمكنها من الانتقال إلى الإنسان. ونحن نعلم من تحليل الشيفرة الوراثية لفيروس كورونا المستجد أنه يختلف بمقدار 4% عن أقرب الفيروسات له المعزولة من أحد الخفافيش في عام 2013. ويقع أحد أهم هذه الاختلافات في جزء من البروتين الشوكي مسؤول عن الارتباط بمستقبلات الخلايا، يعرف بالدوبامين المرتبط بالمُستقبل Receptor-binding domain أو اختصارًا: البروتين RBD. ويعتقد العلماء المتخصصون أنه اكتسبه عن طريق خاصية الخلط الجيني Homologous recombination مع أحد فيروسات الكورونا التي تصيب الحيوان آكل النمل الحرشفي، نظراً للتطابق الملحوظ في تتابع الشيفرة الوراثية. ومن ثم فرصة العثور على فيروس في العالم الطبيعي (كما هو) يتمتع بخاصية الانتشار السريع بين البشر هي فرصة ضعيفة جدًا. وحينما تصل هذه العينات التي قد تحتوي على كمية بسيطة جدًا من الفيروس، إلى المختبر، يتعامل العلماء معها بحرص شديد، لأنهم بطبيعة الحال حريصون على سلامتهم الشخصية. والخطوة الأولى في تحليل هذه العينات يتطلب إضافة بعض المواد الكيميائية التي تُفقد الفيروس قدرته على العدوى.
2- خلط الباحثون الصينيون فيروسي الخفاش وآكل النمل خلطًا جينيًا في المختبر
نمتلك قدرًا كبيرًا من المعلومات عن الخصائص البيوكيميائية للأحماض الأمينية المكونة للبروتينات، ومن خلالها نستطيع باستخدام بعض النمذجات الحاسوبية توقع قدرة منطقة البروتين RBD على الارتباط بالمُستقبِلات. والملاحظة التي أدهشت الباحثين أن الأحماض الأمينية المكونة للبروتين RBD، التي اكتسبها فيروس كورونا المستجد من أحد فيروسات آكل النمل، هي عكس كل التوقعات التي تكشف عنها النمذجات الحاسوبية. بمعنى آخر، لو حاول إنسان تصميم هذه المنطقة بناء على المعلومات المتاحة، بحيث إنها تصير أكثر قدرة على الارتباط بمستقبلات الانسان، لأختار أحماض أمينية تختلف تمامًا عن الموجودة حالياً في فيروس كورونا المستجد. أي أن “التوليفة” التي اختارتها الطبيعة غلبت جميع التوقعات البشرية. ولو افترضنا أن هناك من كان يخطط لهذا، فهل سيبدأ بفيروس مجهول الهوية وفرصته في إصابة الإنسان بالعدوى ضعيفة، أم بفيروس آخر معروف عنه مقدرته الفائقة على إصابة الانسان بالعدوى؟
3- استزرع الباحثون الصينيون الفيروس بالتمرير المتسلسل في المختبر حتى اكتسب خاصية الانتشار بين البشر
السيناريو الآخر المثار على الساحة بقوة هو أن الباحثين الصينيين استزرعوا الفيروس بالتمرير المتسلسل Serial passage في مزارع الخلايا أو حيوانات التجارب حتى اكتسب القدرة على إصابة خلايا الإنسان بالعدوى. سيناريو الاستزراع بالتمرير المتسلسل في مزارع الخلايا غير وارد إطلاقًا، لأن البروتين الشوكي الخاص بفيروس كورونا المستجد يتميز بوجود بعض المجموعات السكرية (Glycan sites) تعمل بمثابة درعٍ واقية يساعد الفيروس على تفادي الاستهداف بواسطة الأجسام المضادة. وهذا النوع من التكيف لا يحدث إلا في وجود جهاز مناعي مكتمل وغير متوفر في المزارع الخلوية. وماذا عن التمرير في حيوانات التجارب؟ ما هي فرصة ظهور منطقة بروتين RBD متطابقة في الشيفرة الوراثية مع فيروس آكل النمل؟
4- أدخل الباحثون الصينيون بعض الأجزاء الصغيرة من فيروس HIV
وهذا هو السيناريو الذي تبناه البروفيسور مونتانييه، والمبني على مسودة ورقة بحثية لم تخضع لمراجعة الأقران خرجت من مجموعة من الباحثين الهنود، ثم سحبوها بعد يومين واعتذروا بعد أن إنهالت عليهم التعليقات من المتخصصين التي أوضحت لهم جوانب القصور في هذه الدراسة. ستجد عزيزي القارئ ردًا تفصيليًا على ادعاءات هذه المسودة في هذا الفيديو:
ولكن باختصار، بإجراء بحث بسيط في المحرك البحثي BLAST، والذي يسهل لنا مهمة البحث عن التشابهات في الشيفرات الوراثية، نستطيع استنتاج أن هذه الأجزاء الصغيرة التي ادّعى الباحثون الهنود إضافتها من فيروس HIV موجودة في العديد من الميكروبات الأخرى، أي أنها ليست خاصة بفيروس HIV. وهذه الأجزاء الصغيرة موجودة أيضًا في فيروس كورونا الأقرب لفيروس كورونا المستجد والمعزول من الخفاش في عام 2013، أي أنها ليست بالجديدة على عائلة كورونا. هل غفلنا حقيقة أن فيروس HIV يصيب نوعًا مختلفًا من الخلايا؟ ما هي المميزات التي سيكتسبها فيروس كورونا إذا أضيفت إليه أجزاء من HIV؟ هل تناسينا أن فيروس HIV يسبب عدوى مزمنة من الممكن السيطرة عليها بواسطة الأدوية المضادة لهذا الفيروس؟ لو كان هناك من يخطط لهذا، فهل سيلجأ إلى فيروس غير قاتل؟
الآن عزيزي القارئ، وبعد الاطلاع على السيناريوهات المطروحة على الساحة والردود العلمية عليها، أتمنى أن أكون قد قدمت الأدلة التي تدعم أن فيروس كورونا المستجد خارج من رحم الطبيعة.