نبذة عن حياة العالم الفارابي
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
العالم الفارابي شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
في عام 1972 أُقيم في بغداد مهرجان لإحياء ذكرى الفارابي (شكل رقم 6) وفد إليه علماء وفلاسفة من أرجاء العالَمين العربي والإسلامي بل ومن أنحاء القارات الست.
وأُلقيت عنه وعن مؤلَّفاته، في علوم الموسيقى والفلسفة والطبيعيات والرياضيات والسياسة والاجتماع، البحوث والدراسات . وفي مصر نُشرت بحوثٌ تذكارية عن الرجل وعن مؤلَّفاته.
وحيثما كانت للثقافة وللفلسفة مواطن وعلماء، كانت ذكرى الفارابي العطرة عبر العصور، والتي تركت بصماتها على ثقافة العرب والغرب وأنجبت من بعدها وبفضلها فيلسوفين عظيمين قدمتهما للعالم هما: ابن سينا وابن رشد. وكان الفارابي هو معلمهما الأول.
وطوال عصر النهضة الأوروبية الحديثة درج المستشرقون على إطلاق لقب المعلم الثاني على الفارابي الفارسي الأصل، التركي الموطن، العربي الثقافة والدِّين.
وحيَّا ذكراه المستشرقون والعلماء: دي فو لفكره، وماسينيون لفلسفته، وروجر بيكون لريادته وشموليته.
حارس البستان
في قرية وسيج بإقليم فاراب فيما وراء نهري سيحون وجيحون – بجمهورية تركستان الآن – ولد محمد بن محمد بن طرخان.
وكان فارسي الأصل، تركي الموطن، عربي الثقافة والدِّين منذ دخل أبوه في دين الإسلام ونزح بأهله إلى فاراب.
وفي مسجد القرية ومساجد الإقليم حفظ محمد القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث والتفسير وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وألمَّ بالعربية.
وكان محمد زكي النفس هادئ الطبع ليس له من أمور الدنيا والجسد، فروحه يُحلِّق حيث يحلِّق عقلُه ويتسامى عقله إلى حيث يسمو روحه. يُؤثر الوحدة والتأمل في أمور الدنيا والدين وحياة الناس حكاماً ومحكومين.
وكثيراً ما كان يخرج محمد من عزلته ليمارس مع إخوانه الزراعة في مزرعة أبيه، وهو قائد صغير من قواد الجيوش السَّامانية، يحرث ويسقى ويرعى الزرع ويحرس بستان الفاكهة في مواسم الإثمار، ويبدو أن العمل الأخير قد استهواه فمارسه طوال حياته.
العالم… الصغير!
لما بلغ محمد الثلاثين من عمره أراد والده أن يستلَّه من وحدته فحدَّثه في أمر الزواج، ولكن رده كان قطعاً: نذرت – يا أبت – نفسي لحياة العلم والعلماء.
وإني لأوثر أن تكون حالي على ما هي عليه الآن، أقرأ في كتب الأولين والمعاصرين وفي كتاب الطبيعة المفتوح.
ولعب القدر لعبته. ففي فاراب كان يعيش عالم مجهول لديه كتب شتى في المنطق والفلسفة والموسيقى والرياضيات.
ولما أراد هذا العالم السفر خشي على مكتبته من الضياع فحملها إلى العالم الشاب. وفرح محمد بكتب العالم المسافر وعكف عليها بفرحٍ ونهمٍ يُعلِّم نفسه بنفسه.
وكانت الكتب مؤلَّفة بأقلام علماء مسلمين من جنسيات مختلفة كما كان بعضها مترجماً عن اليونانية خاصة ومن ثم لم تخل من كتبٍ لأرسطو وأفلاطون.
قرأ العالم الصغير محمد كتاب (النفس) لأرسطو مائة مرة! وقرأ كتاب (السماع الطبيعي) لأرسطو أيضا أربعين مرة ! وكان يبذل جهداً مضنياً في تحصيل العلم والغوص في أعماقه والتنقيب في أسراره ومكنوناته بدأبٍ ظاهرٍ وصبرٍ عجيب.
وبين كافة الناس، العاديين منهم والعلماء اشتهر العالم الصغير محمد في إقليم فاراب بلقب (الفارابي) : (محمد بن محمد بن طرخان الفارابي) زهواً به وإعلاءً لشأنه.
تلميذٌ.. في الخمسين!
تاقت نفس الفارابي للترحال طلباً للمعرفة ورؤيةً للدنيا ولقاءً بالعلماء، زاده لحمٌ مُقدَّد وجبنٌ مُجفَّف وتمر وزيتون ودراهم معدودو ومعه بغلته وكتبه التي لا تفارقه في حِلِّه وتَرحالِه.
جاب الفارابي أرجاء آسيا الوسطى (جنوبي الاتحاد السوفيتي السَّابق الآن)، وبلاد فارس (أيران)، وخُراسَان (أفغانستان) . وأينما نزل في بلدٍ ترك وراءه نُسخة من كتبه لعالم أو جانباً من معارفه لطالب علم.
ولما بلغ من العمر خمسين سنة، وكان ذلك في عام 922 ميلادية، دخل بغداد بعد طول ترحال. وعلى منأىً منها استأجر بيتا آوى إليه وبغلته وكتبه. وراح يتأمل أحوال المدينة.
فكان اللقاء …. بمن؟ بإمام علماء المنطق في زمانه (أبو بشرمتَّي بن يونس) بعد صلاة المغرب في المسجد الكبير ببغداد. وتأمل أبو بشر ملياً في الفارابي، فبدا له طويل القامة عريض المنكبين قوي البنية وقد ابيضَّ شعره واخشوشنت يداه لخدمته لنفسه أو لممارسته أعمال الفلاحة والبستنة.
قال أبو بشر مداعباً: أبعد كل هذا العمر تأتي لتدرس علوم المنطق والفلسفة والرياضيات؟! فقال له الفارابي وهو يبتسم: يا سيدي أبا بشر، النابغة الذبياني نبغ في قرض الشعر بعد الأربعين، والعلم يُطلب من المهد إلى اللحد. وإن لي في العلم لشأناً، وقد تركت ورائي شروحاً في المنطق والفلسفة، ثم جئت إليك ففوق كل ذي علمٍ عليم.
ارتاحت نفس أبي بشرٍ للفارابي ورتَّب له من يجعله يُتقن العربية نحواً وصرفاً ورأى انه سيكون فيها من النابهين.
وعرض عليه أن يكون له راتبٌ من بيت الحكمة أو بيت المال أو أحد الأمراء ممن يرعون العلم والعلماء، ولكن عالمنا أبى حيث كان يتكسَّب من عمله الذي اختاره لنفسه من سنين ألا وهو حراسة البساتين.
وهنا وجد أبو بشر نفسه أمام طرازٍ جديد من العلماء وفريد، آثر حياة العزوبة على حياة الزواج، وأفرغ قلبه وعقله لحب العلم، وحرَّر روحه من شهوة المال والطعام، واختار لنفسه عملاً لم يختره عالم من قبل وهو حراسة البساتين.
لقاء العالم… السرَّاج!
صحب أبو بشر ضيفه الفارابي للقاء عالم النحو والصرف أبي بكر السرَّاج، وكان اسماً على مُسمَّى، فقد كان بالفعل سرَّاجا للخيل والبغال والحمير مثل كثيرين من علماء ذلك الزمان الذين يتكسَّبون رزقهم من عمل أيديهم ليحيوا أحراراً بعقولهم.
وقرأ الفارابي على يدي العالم السرَّاج معجم (العَين) للخليل بن أحمد، وهو أول معجم وضع للغة من لغات الأرض. كما قرأ (الكتاب) لسيبويه في النحو، وكتباً أخرى في البلاغة والصرف.
واستغرق درسهما واتقانهما عامين من حياته في بغداد، لم ينقطع فيهما عن دراسة المنطق والفلسفة في الوقت نفسه على يدى أبي بشر.
وبلغ الفارابي من اتقانه للعربية وعلومها حداً راح يضع به مصطلحاتٍ عربيةٍ تقابل ما يُناظرها في اليونانية والفارسية لعلوم المنطق والفلسفة والرياضيات والموسيقى.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]