تجارب إثبات أن بعوضة “الايدس ايجبتاي” ناقلة لمرض الحمى الصفراء
1995 أمراض لها تاريخ
حسن فريد أبو غزالة
KFAS
مرض الحمى الصفراء بعوضة الايدس ايجبتاي الطب
وكان هناك طبيب كوبي اسمه "فنلي" على دراية بالحمى الصفراء في حدود ما كان عليه أهل زمانه، وزاد عنهم بقناعته أن بعوضة "الايدس ايجبتاي" مما عربوها فصارت بعوضة "عايدة المصرية" هي ناقلة أسباب المرض من إنسان لآخر!.
ربما لم يكن يملك الدليل القاطع الذي يقنع الوسط الطبي بما ذهبت إليه قناعته، ولكن اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بشق قناة بنما، وشراء حقوقها من حكومات بنما كان لا بد أن يسبقه استعداد صحي، حتى لا يقع الاميركان في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الفرنسيون من قبل، فأرسلوا الرائد "ولتر ريد" لتقصي أسباب الحمى الصفراء ودراستها، وتمهيد الطريق أمام المهندسين وعمالهم من يقومون على شؤون الحفر.
ويبدو أن "ريد" كان يميل إلى قناعة الطبيب الكوبي "فنلي" الذي قضى عشرين سنة من حياته في تربية البعوض ودراسته لإثبات نظريته، ولكن دون جدوى، لهذا قام الرائد "ريد" بالمهمة مع فريق من الأطباء العاملين في مدينة "هافانا" في كوبا، وأجروا تجاربهم على المتطوعين الذين كان منهم طبيب اسمه (لازير) أجرى التجربة على نفسه، إذ سمح بأن تلدغه بعوضة مريضة، فأصيب بالمرض ومات بسببه في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1890، لهذا لم يتردد "ولترد ريد" في إعلان قناعته بدور بعوضة "الايدس" في نقل مرض الحمى الصفراء.
غير أن هذا كله لم يمنع جريدة مرموقة مثل "الواشنطن بوست"، من أن يطلع رئيس التحرير فيها بافتتاحية عدد يوم 8 نوفمبر عام 1890م ليقول: "كثر الكلام أخيراً عن موضوع الحمى الصفراء إلى درجة كبرى، ولكننا لا يمكننا أن نجد فيما نشر أو قيل أسخف أو أحمق من هذا الهراء الذي يدعى بأن البعوضة هي سبب هذه الحمى"!.
كما علقت الصحف الأسبانية على أمر المتطوعين بقولها "أمر رهيب حقاً، ومع هذا فهو قتل مع سبق الإصرار".
على أي حال فإن هذه المعارضات هي أمر مألوف لكل ما هو جديد في العلم، لهذا فإن النقد والمعارضة اللذين لاقاهما "ريد" وصحبه لم تقل همتهم، وعقدوا العزم على حرب البعوض ما داموا يتطلعون إلى إعلان الحرب على الحمى الصفراء.
وقد قام بهذه المهمة طبيب في الجيش الأميركي يدعونه "وليم جورجاس"، بدأ بالتجربة في مدينة هافانا" عاصمة كوبا عام 1901م فما نجحت الخطة خلال ثلاثة شهور اتبعها بالحملة على البعوض في منطقة أعمال حفر القناة في "بنما" عام 1904م ومن الطبيعي إنها لم تسر في هدوء، كان لا بد من المعرضة المعتادة التي كانت تعترض المسيرة الطبية بين حين وآخر، إلى أن تم حفر القناة في عام 1914م بطول يتراوح بين خمس وستين كيلو متراً واثنين وثمانين كيلومتراً.
ولعله من أطرف ما صادفته حملة استئصال البعوض أنه كان يعشش في مستشفى "إنكون" بمدينة "بنما" بغزارة، واتخذ منه وكراً، لهذا كان المرض الذين يدخلون المستشفى لأمراض هيئة خفيفة يخرجون منه مرضى بالحمى الصفراء.
ولقد اكتشف فريق المكافحة أن المنطقة تعج بالنمل الأبيض لهذا كانت إدارة المستشفى تضع أرجل أسرة المرضى في علب مملوءة بالماء، وكانت هذه العلب هي المكان المفضل ليبيض فيه البعوض ويتناسل، لهذا كانت أسرة المرضى مستودعات لبعوض "الإيدس ايجبتاي" المشحون باسباب المرض وكأنها قنابل موقوتة.
لقد ثبت أن بعوضة الأيدس هي ناقلة المرض حقاً ولكن ما هو سببه يا ترى ؟
لقد قال الرائد "ريد" إنها أحياء دقيقة وصغيرة جداً، فطلع طبيب ياباني الأصل أميركي الجنسية اسمه "نوجوشي" بإدعائه أنه قد كشف السبب ولكنه لم يكتشفه بل اكتشف لولبيات لمرض آخر يسبب اليرقان يدعونه مرض "ويل".
والغريب أن نجوشي هذا قد مات بالحمى الصفراء فيما بعد أن ادعى أنه عرف سببها، ولم يكتشف السبب حقاً سوى طبيب إنجليزي اسمه "سنوكس" كشفه عام 1927م في أفريقيا ومات به في العام التالي، والسبب فيروس من الفيروسات.
غير أن هذا كله لم يكن يعني شيئاً بالنسبة للناس، لأن وقايتهم من المرض هي الأكثر شأناً، وهي ضرورة تحتمها الحقيقة التي اكتشفها العلماء وهي أن البعوض يعشش في الغابات، وهو من نوع "هومو جوجاس" بمثل ما يعشش بعوض الأيدس ايجبتاي" داخل المنازل أو قريباً منها، وضحاياه في المدن يقابلها القرود في الأدغال سواء بسواء.
لهذا كان ابتكار التطعيم عام 1936م نصراً للطب ضد الداء الوبيل، وهو طُعم بفيروسات مروضة تسمى "17- د" “D-17” يأخذوها من مريض أفريقي اسمه "اسيبي"، وقام على تحضير الطعم طبيب أفريقي من جنوب أفريقيا اسمه "ماكس ثيلر" روضة بتكرار زراعته حتى فقد ضراوته فيما هو لا زال محتفظاً بقوة تمنعه.
لهذا استحق جائزة نوبل لعام 1951م. وقد يكون طريفاً لو عرفنا أن أنثى البعوضة ويس الذكر هي التي تقوم بالمهمة في لدغ الناس وإمراضهم بعد تلقيحها، وتكون ناقلة للمرض بعد أسبوعين تقريباً لتبقى خطرة، ناقلة له بقية حياتها على مدى شهر أو شهرين فيما مدة الحضانة للفيروس عند الإنسان تتراوح بين 3-9 ايام، لهذا كان التطعيم فعالاً بعد اسبوع من تعاطيه، ثم تبقى مناعته فعالة عشر سنوات متتالية، فيما مناعة المرض الطبيعي هي أبدية مدى الحياة.
بعد هذا يبقى السؤال حائراً هو: هل انتهت قصة الحمى الصفراء؟
والجواب يأتينا من السودان ليقول إنه في عام 1940م أصيب بها خمسة عشر ألفاً، يأتينا من أثيوبيا ليؤكد أنه فيما بين سنتي 1960 و 1962م شاعت الحمى الصفراء في أثيوبيا، وأصيب بها مائتا ألف مات منهم عشرون ألفاً.
إنها الحقيقة الصارخة بأن الحزام الاستوائي والمداري في أفريقيا وأميركا فيما بين خطي 12 درجة شمال خط الاستواء و 10 درجات جنوب خط الاستواء، لا زال موبوءاً بالحمى الصفراء وبعوضها المميز.
لهذا كان التطعيم واجباً وقائياً لا حيلة لإنسان أن يتجنبه إذا ما طلب الأمان لنفسه ولأهله ووطنه، وذلك إن كان طريقه يمر بين هذه الخطوط الصفراء.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]