نبذة عن حياة العالم “جون دالتون”
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
العالم جون دالتون شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
لم يكن هو الأول، بل سبقه كثيرون، غير أنه أفلح فيما أخفق فيه من سبقوه.
ومن بعده توالى الركب وتواصلت المسيرة، عالم يتبع آخر، والكل يُرسي لبنة أو يُصحِّح وضع، حتى اكتمل البناء أو يكاد، بيد أن المسيرة لا تزال على الدرب الذري الطويل تسير. ذلكم دالتون (شكل رقم 47).
بزوغ ..نجم
صوِّر لنفسك بيتاً مسقوفاً بالقش في إقليم كمبرلاند بإنجلترا، ووالداً ورعاً يكسب عيشه من عمله على نول يدوي، ووالدة وديعة هي الزوجة الطيبة ديبور التي تعيش طبقا لشعارها (من أجل الله والزواج). كانت تلك هي البيئة التي ولد فيها ذلك الطفل ضئيل الجسم، جون، في شتاء إنجلترا عام 1766.
ونما ذلك الطفل الضئيل الجسم (هل تذكر نيوتن عندما كان طفلا؟!) ليصير غلاماً صلب العود حي الضمير.
فما أن يوكل إليه أي أمر حتى يكافح من أجل تحقيقه ومتحدياً في سبيل ذلك كافة الصحاب بعناد وإصرار.
وكثيرا ما كان مستر روبنسون يعطي تلاميذه مسائل صعبة في الرياضيات، وكان معظم التلاميذ يتوقفون عن العمل بعد محاولاتٍ قليلة يائسة طالبين من أستاذهم أن يكشف لهم عن الحل. ولكن جون لم يكن أبدا من فريق المتخلِّين عن العمل بل كان يقول: (أرجوك ألا تساعدني يا مستر روبنسون، يجب أن أصل إلى الحل بنفسي)، وكان يصل في معظم الحالات.
وكثيراً ما كانت المنازعات الحامية في حجرة الدراسة تدور بين التلاميذ حول أفضل الطرق لحل المسائل التي يعطيها لهم مستر روبنسون، واتفقوا ذات يوم على (رهان) ليعززوا ما يعتقدون أنه الصواب.
ولكن ذلك الفتى المتدين كان يكره المقامرة كراهية الموت. ومن ثم أمرهم قائلا: (يجب عليكم ألا تراهنوا بالمال، ولكن يمكنكم أن تراهنوا بالشموع).
وبمجرد وضع هذا المبدأ الأخلاقي الدال على الدهاء، شرع جون في كسب جميع المراهنات، وحصل بذلك على تموينٍ كافٍ من الشموع الصغيرة الرخيصة التي تزوده بالضوء.
وكان فوزه بجميع المراهنات في اقتراح أفضل الطرق لحل مسائل الرياضيات بشكلٍ لا يباريه فيه ند من أقرانه، بمثابة ضوء يشير – ولو من طرفٍ خفي- إلى بزوغ نجم.
أصغر ناظر.. في العالم!
كان جون، قبل أن يصبح أحد علماء الدنيا الأفذاذ، ناظر مدرسة. وما الغريب في هذا ؟ ليس هناك بالطبع ما يثير العجب في مدرس عالم، إلا أن جون كان ناظر مدرسة وعمره اثنا عشر عاماً!
فقد ثبَّت على باب منزله لافته تعلن عن افتتاح مدرسة للتعليم لكل من الجنسين وبأسعار متهاودة. وأعلن أنه سيزود من يلتحق بها من الأطفال بالورق والأقلام والحبر مجانا فضلا عن التعليم!
ولا شك أن هذا الإغراء الإضافي نجح في جذب عدد لا بأس به من التلاميذ، لأن الورق والأقلام والحبر كانت من أندر السلع في إنجلترا آنذاك.
ولكن سرعان ما اضطر جون إلى اغلاق مدرسته وهو في الخامسة عشرة بسبب عزوف التلاميذ عنها! وكان طبيعيا أن ينزح- والحال كذلك- إلى كندال ليلحق بأخيه الأكبر جوناثان.
وهناك قام بالتدريس لمدة اثنى عشر عاما، اكتسب خلالها حصيلة جديدة من الرياضيات والعلوم. وحاول وهو في كندال أن يكوِّن منتدى للمناقشات العلمية، غير أن منظره غير المريح وصوته المنفر عملا على عدم نجاح محاولته.
خارجٌ.. على مدرسة الخوارج!!
سمع دالتون عن أتباع الكنيسة المسيحية في مانشستر أنهم قد أسَّسوا كلية كرَّسوها (للحقيقة، والحرية، والدين).
وكان الغرض من إنشائها أن تكون وسيلة احتجاج على الجامعات البريطانية المتسلطة التي كانت تحرم (الموحدين) و (الكويكريين).
وقدم طلبا ليشغل منصب مدرس للفلسفة الطبيعية والرياضيات في (مدرسة الخوارج) هذه، وحصل على المنصب.
بيد أنه وجد أن القيود الأكاديمية التي تفرضها عليه حياته الجديدة لا توافق مزاجه، ومن ثم كان قراره بأن يهجر هذه المدرسة وأن يتمرد عليها ويعود لإعطاء الدروس الخصوصية، ووجد نفسه مضطرا لأن يعطي دروساً بالليل والنهار ليتمكن من تغطية نفقاته رغم ضآلتها.
وكان على كل طالب (نهاري) أن يدفع له عشرة جنيهات في السنة، وعلى كل طالب (ليلي) أن يدفع شلنين عن كل حصة!
وكتب جون، بروح المرح التي لم تكن تفارقه، يقول: (ولكنني على الرغم من كل ذلك لم أصبح بعد غنيا لدرجة تسمح لي بالتقاعد عن العمل).
وقد قام بتأليف كتاب في النحو ليكون عوناً له على (التقاعد) المبكر. وفي هذا الكتاب انتشل جون دُرر علم النحو الإنجليزي التي أبلاها الزمن وصقلها، وكانت نتيجة ذلك كتاباً عجيباً يزخر بالأضواء المبهرة كما يزخر بالأخطاء القاتلة
كُلُّهُنَّ.. فاتنات!
لم يتزوج دالتون قط، وعندما أخذت السنون تمر وهو لا يزال يتمتع بحالة العزوبية، تساءل أصدقاؤه عما إذا كان قد خطر بباله أن يتخذ له زوجة؟
أجابهم: (ليس لدي الوقت اللازم لذلك. إن رأسي مملوء تماما بالمثلثات والعمليات الكيميائية والتجارب الكهربائية لدرجة لا تسمح لي بالتفكير في مثل ذلك العبث !).
نعم عاش دالتون أعزب، بيد أنه لم يهمل الجنس الآخر على أية حال!!. إقرأ ما جاء في خطابه الذي أرسله الى أخيه الأكبر جوناثان عند زيارته للندن في عام 1809 (أرى حسان شارع نيوبولد كل يوم. وتسترعيني وجوههن أكثر مما تجذبني ملابسهن.
ويلوح لي أن بعض السيدات قد شددن ملابسهن كما تشد الطبول، بينما تتركها أخريات كأنما هي بطاطين تلفَّحن بها. ولكنني أرى أن جميع النساء بدت فاتنات بغض النظر عما يلبسن!.
كذلك لم يكن الحب عليه غريبا، فقد وقع في حبال الغرام أسبوعاً! إقرأ اعترافه في أحد خطاباته لأخيه : (إنني تعرفت إلى ألطف مخلوقة في مانشستر، إنني كنت أحسب قبل هذا أن لدي حصانة تامة ضد سحر النساء وفتنتهن. ولكن هذه – يا أخي- شيء آخر، لم استطع معها أن أقاوم فاستسلمت، غير أن استسلامي لم يدم غير أسبوع!).
فقد كانت هناك حقاً شؤون أخرى تأسره أسرا، وفي مقدمتها محاولاته التي لا تكل للعثور على قانونٍ شاملٍ يسري على التغيرات المختلفة التي تحدث في تركيب المواد الكيميائية. وكان اكتشاف مثل هذا القانون يسحر دالتون أكثر من أية مسألة من مسائل الهوى والغرام!.
وكان دالتون يستطيب الاتصالات الاجتماعية كما يستلذ بطعم الحياة البهيجة ويستعذب. وقد اضطر في الواقع لأن يدفع ثمناً غالياً مقابل حبه الشديد للخمر وللكأس التي (تبهج القلب).
فقد حدث ذات مرة أن أُصيب بحالة خطيرة من حالات التسمم بالرصاص بعد شربه زجاجة من الخمر في إحدى حانات لندن. أجل إن الخمر والكأس لا تُبهجان القلب يا دلتون بل تُميتانه.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]