العوامل التي تؤدي إلى سلبية الفحوص الطبية الشرعية
2010 الاستعراف الجنائي في الممارسة الطبية الشرعية
صاحب عيسى عبدالعزيز القطان
KFAS
كثيراً ما يقوم الطبيب الشرعي بفحص جثة فحصاً ظاهرياً وتشريحياً ويكون في منتهى الدقة في عمله ، ومع ذلك لا يتضح له وجود أي علامة بالجثة تشير إلى سبب حدوث الوفاة ، وحينئذ لا يقال إن الفحص الطبي الشرعي كان سلبياً ، وذلك لأن حواس الفاحص من بصر وذوق وشم ليست هي الوسائل الكافية بذاتها إلى الوصول إلى حقيقة ما بالجثة من علامات .
وقد أصبح للفحوص المخبرية كالفحص المجهري والفحص الكيميائي والفحص البكتريولوجي دور هام وفي غاية الأهمية ، لما يستعمل في الفحوص من أجهزة متطورة غاية في الدقة والكفاءة ، فإذا ما استعان الطبيب الشرعي بالمختصين في هذه الفحوص بالإضافة إلى دقته في الكشف الظاهري ، وفي إجراء الصفة التشريحية على الجثة ، ولا يؤدي ذلك إلى نتيجة حاسمة فحينئذ يمكن القول بأن الفحص الطبي الشرعي كان سلبياً .
ومن الوجهة النظرية إنه لا بد وأن يكون هناك سبب لحدوث الموت بكل كائن حي ، إلا أنه ليس من المحتم من الوجهة العملية أن يتضح هذا السبب في بعض الحالات ، وقد يكون عدم اتضاح سبب الموت لهفوة بسيطة فيما اتخذ من إجراءات فنية ، وقد يكون لأسباب أخرى بالرغم من عدم وجود أي هفوات أو تقصير في الفحص . وفيما يلي بعض العوامل التي تؤدي إلى سلبية الفحوص الطبية الشرعية :
1-البدء في إجراء الفحوص دون الإلمام بظروف الحادث أو التاريخ الصحي للمتوفى :
المحقق والطب الشرعي وما معهما من الأجهزة المعاونة هم وحدة لا تتجزأ ويعود نجاح مهمته في خدمة العدالة ، والوصول إلى مدى تعاون هذه الجهات تعاوناً وثيقاً .
ومن صالح التحقيق أن يعطى المحقق مذكرة وافية عن القضية للطبيب الشرعي ، ومن واجب الطبيب الشرعي أن يدرس هذه المذكرة دراسة مستفيضة قبل أن يبدأ في فحص الجثة ، وخاصة فيما يتعلق بكيفية حدوث إصابة المتوفي إن كان قد أصيب.
وفيما يتعلق بأقوال شهود الرؤيا الذين شاهدوا الحادث ، أو المحيطين بالمتوفي قبل وفاته ، وإن كان المتوفي قد وضع تحت العلاج الطبي في المدة السابقة لوفاته فعلى الطبيب الشرعي أن يناقش الزملاء المعالجين ، ويطلب إلى المحقق تكليفهم بكتابة تقرير طبي مفصل بمرئياتهم عن حالة المتوفي في أثناء فترة العلاج ، والخطوات التي اتبعت في علاجه وما كان المتوفي يتعاطاه من أدوية وعقاقير خلال فترة العلاج .
ولكل حالة من الحالات التي يباشرها الطبيب الشرعي ظروفها الخاصة التي تحتم على الطبيب الشرعي أن يسلك مسلكاً معيناً في فحصه ، فإن لم يكن الطبيب الشرعي ملما بكافة الظروف السابق ذكرها وبكافة المعلومات المتعلقة بالمتوفي قبل وفاته.
فقد يتبع الطبيب الشرعي طريقة معنية في فحصه للجثة ، قد تتسبب في ضياع علامات هامة قد تكون هي محور القضية ، أو قد تتسبب في ظهور علامات مضللة إن أخذ بها الطبيب الشرعي واعتبرها علامات حقيقية.
فإن ذلك يؤدي إلى خطأ في تشخيص أو يؤدي إلى طمس معالم الحالة وسلبية الفحص الطبي الشرعي ، مهما أجرى من أبحاث فنية على الجثة ، ومثالاً لذلك فإن في حالة الشك بأن الوفاة قد نشأت عن سدة هوائية بالأوعية الدموية .
فإن ذلك أمر يتحتم معه أن يقوم الطبيب الشرعي بتشريح أجزاء الجثة بطريقة معينة ، حتى تتضح معالم السدة الهوائية ، إن كان هناك سدة فعلاً أو تضيع هذه المعالم إن لم يسلك الطبيب الشرعي الطريق السليم في التشريح في مثل هذه الحالات .
2- حدوث أخطاء أو هفوات في أثناء الكشف الظاهري :
كثيراً ما يؤدي عدم الاهتمام بالفحص الظاهري للجثة ، وعدم مراعاة الدقة التامة في هذا الفحص إلى عدم التنبه إلى العلامات التي قد يكون لها أهمية بالغة في الإرشاد عن سبب الوفاة .
ويجري تشريح الجثث طبيباً في بعض الدول العربية بإتباع إجراءات تتعلق بضرورة موافقة ذوي المتوفي وموافقة الجهات المسؤولة العليا على إجراء التشريح ، ويحتاج هذا الإجراء إلى بعض الوقت فتحفظ الجثث بثلاجات لحفظ الموتى.
ومهما كان لهذه الثلاجات من كفاءة ممتازة فإن بقاء الجثث بها لفترة طويلة ، قد يغير كثيراً من معالم ما عسى أن يكون بها من إصابات ، وعلى سبيل المثال فإن الراضة السطحية التي تصطحب بوجود انسكابات بالأنسجة التحت جلدية ، قد تبدو معالمها واضحة فيما لو شرحت الجثة بعد حدوث الوفاة ببضع ساعات .
أما فيما لو وضعت الجثة بالثلاجة وحفظت بداخلها لفترة طويلة قبل التشريح ، فإن معالم هذه الانسكابات قد تتضح بجلاء ووضوح ، لذلك يتحتم إجراء الفحص الظاهري بدقة قبيل إدخال الجثث بالثلاجات لإيضاح المعالم الخارجية للإصابات الراضة ، وتحديد مواضعها وأبعادها على وجه الدقة ليمكن الاهتداء إلى ما عسى أن يكون مقابلها من انسكابات عند تشريحها بعد فترة طويلة من بقائها بداخل الثلاجات .
وقد تكون هذه التكدمات والأنسكابات المقابلة لها الدليل الوحيد على حدوث الوفاة نتيجة لسبب معين ، مثلما يحدث في حالات الخنق بالضغط على العنق ، وباستعمال جسم ناعم مرن قد لا يترك أثراً عنه أو ترك أثراً بسيطاً ، قد تضيع معالمه ومعالم الانسكابات المقابلة له نتيجة لحفظ الجثة بالثلاجة .
وقد تكون الوفاة ناشئة عن تعاطي مواد مخدرة حقناً ، ومن المنتظر في مثل هذه الحالات أن يشاهد الطبيب الشرعي آثاراً وخزية دقيقة بالجلد تخلفت عن وخز إبرة المحقن ، ويكون لمشاهدتها قيمة في تكوين فكرة مبدئية عن إمكانية حدوث الوفاة نتيجة لهذا السبب.
فيسلك الطبيب الشرعي في هذه الحالة مسلكاً معيناً في تشريحه للجثة ، ويقوم بأخذ عينات من مواضع الجثة التي يترسب فيها المخدر لفحصها كيميائياً ، وإذا لم ينتبه الطبيب الشرعي إلى وجود هذه الآثار الوخزية أو أن الطبيب الشرعي لم يهتم لوجودها ، فإن ذلك قد يقوده إلى طريق خاطئ مما يفوت عليه فرصة الوصول إلى السبب الحقيقي للوفاة .
ومن أهم العلامات الظاهرة الجديرة بالأهتمام هي تلك الآثار المتخلفة عن الصعق بتيار كهربائي ، فإن لم ينتبه الطبيب الشرعي إلى وجود هذه الآثار ، فقد لا يتجه تفكيره إلى أن الوفاة قد تكون نتيجة للصعق بالتيار الكهربائي .
وهناك بعض الحالات التي تبدو غامضة تماماً ويكون للعلامات الظاهرة بها دور رئيسي في معرفة حقيقة الأمر ، وذلك مثلما يحدث في حالات الوفاة الناشئة عن لدغ الثعابين أو العقارب أو الزنابير .. إلخ ، فإن لم ينتبه الطبيب الشرعي إلى وجود آثار اللدغ ظاهرياً فإنه قد لا يصل إطلاقاً إلى السبب الحقيقي في حدوث الوفاة ، وخاصة عندما لا يكون هناك شهود لحادث اللدغ .
3- عدم كفاية الفحص التشريحي :
وعندما يكون هناك شك في حدوث الوفاة نتيجة للسدادات الهوائية ، فإن ذلك يستلزم إجراء طريقة معينة في التشريح ليتسنى إيضاح وجود هذه الفقاعات الهوائية المتسببة في عمل السدادة المميتة ، ومن أهم الوسائل المتبعة في مثل هذه الحالات هي الحرص التام على عدم إحداث أي تقطع بالأوردة حتى لا تتسرب الفقاعات الهوائية الموجودة بها إلى الخارج دون التنبه إلى وجودها ، ولضمان ذلك يراعي الحرص التام على عدم إصابة أوعية العنق أو تجويف الصدر وتجويف البطن بأي إصابة في أثناء التشريح ، وبعد الشق على مقدم جدار البطن لاستكشاف ما بداخل هذا التجويف يجري تغطية الأوعية الدموية الرئيسة بكمية وفيرة من الماء ، ثم يجري عمل شق بالوريد الأجوف السفلي ، فإن كان الوريد يحتوي على فقاعات هوائية فإنها ستتصاعد لأعلى خلال الماء المغطي للوريد.
وفي حالة وجود سدادات هوائية بالدورة الدموية فإنه سيعثر على فقاعات هوائية بالبطين الأيمن ، ولبيان ذلك يشق على غشاء التأمور ، ويملأ تجويفه بالماء ، ثم يشق على الجدار الأمامي للبطين الأيمن فيتصاعد ما به من فقاعات هوائية خلال الماء الموجود بتجويف التأمور .
وهنا يجدر العودة إلى موضوع العلامات المضللة ، فتصاعد فقاعات هوائية حين إتباع الوسائل المذكورة يكون له قيمة عندما لا يكون التعفن الرمي قد تقدم بالجثة ، وذلك لأن التعفن الرمي يصطحب بتكون غازات تعفنية ، وقد تتصاعد فقاعات هذه الغازات وتبدو وكأنها فقاعات ناشئة عن سدادات هوائية تسببت في الوفاة .
أما في حالة الشك في وجود استرواح هوائي بالصدر ، فإن إيضاح وجود هذا الاسترواح يستلزم سلخ جلد جدار الصدر بحذر ، وبطريقة تجعل من المسافة بين السطح الداخلي للجلد وبقية جدار الصدر بمثابة جيب يملأ بالماء ، ثم يمد الطبيب الشرعي مشرطة خلال الماء ليشق على الأنسجة بين ضلعية ، فإذا ما كان هناك استرواح هوائي فإن فقاعات الهواء ستتصاعد بوفرة خلال الماء .
4- عدم كفاءة الفحوص النسيجية :
من أهم العوامل التي تؤدي إلى سلبية الفحص النسيجي هو التعفن المتقدم بالأنسجة الرخوة ، إذا ما كانت الجثة في حالة متقدمة من التعفن الرمي عند فحصها ، ورفع العينات المراد فحصها منها ، أو تعفن العينات في الفترة ما بين رفعها من الجثة وفحصها مجهرياً نتيجة لعدم الحرص على هذه العينات .
وهناك عامل آخر قد يكون له دور في سلبية الفحص النسيجي ، وهو عدم التوفيق في أخذ القطاعات المراد فحصها ، فقد يلجأ الفاحص أو مساعدوه إلى أخذ عدد قليل من القطاعات ، ويكون أخذها من موضع بالعضو المراد فحصه خالٍ من العلامات المرضية أو خالٍ من حصيلة الإصابات بالأنسجة .
5- عدم وجود إمكانيات للفحوص الكيميائية :
سبق القول بأنه لا يجوز إبداء الرأي بسلبية الفحوص الطبية الشرعية ، استناداً إلى ما اتضح من الكشف الظاهري وتشريح الجثة ، من عدم وجود علامات يستند إليها في إبداء الرأي عن سبب الوفاة ، ودون الأستعانة بالفحوص المخبرية المتقدمة ، وتجرى الفحوص الكيميائية بحثاً عن السموم الممكن الحصول عليها في المنطقة التي توفي بها الشخص الجاري تشريح جثته ، ويستعان في تحديد نوعية الفحص على بعض العلامات التي قد تتضح للعين المجردة من مجرد الكشف الظاهري والتشريح ، وعلى الطبيب الشرعي أن يحصر طلباته بشأن الفحوص الكيميائية ويقصرها على أقل عدد ممكن من السموم ، حتى يتسنى للكيميائي أن يركز جهده في البحث عن هذه السموم بالذات.
وإذا ما كانت نتيجة الفحص الكيميائي سلبية بالنسبة للسموم المطلوب البحث عنها ، فعلى الكيميائي الاتصال بالطبيب الشرعي والتفاهم معه على الأنواع الأخرى من السموم المحتمل تعاطيها في هذه المنطقة.
والمحتمل أن يكون إحداها قد تسبب في الوفاة لإجراء الفحوص الكيميائية بحثاً عنها ، وذلك أنه ليس من المعقول ولا المنطقي أن يطلب الطبيب الشرعي من الكيميائي الفحص عن جميع أنواع السموم ، فهذا إجراء غير عملي ولا يؤدي إلى نتيجة حاسمة .
وفي حالات التسمم الغذائي فإن الأمر لا يقتصر على الفحوص الكيميائية ، فقد تكون الوفاة ناشئةً عن تناول طعام به تلوث ميكروبي "بكتيريا"، ومن ثم فإنه يتحتم إرسال جانب من العينات للفحص الكيميائي ، وإرسال جانب آخر للفحص البكتيري .
ولا بد من مراعاة الظروف المحيطة بالحالة ، فالتعفن الرمي قد يؤدي إلى تحلل بعض أنواع السموم ، بحيث لا يتضح لها أثر عند إجراء الفحوص الكيميائية على العينات المأخوذة من الجثة ، كما أنه يوجد بعض من أنواع السموم يتحلل بسرعة بالجسم ولا يتضح له أثر مهما كانت حالة الجثة وإن كان هذا النوع نادراً .
وإذا ما كانت نتائج الفحوص سلبية بالرغم من دقة الفحص وإتباع الطرق السليمة في أخذ العينات وحفظها ، فإنه لا يجوز النفي القاطع لحدوث التسمم أو القول بيقين بحدوثه وخاصةً عندما لا يكون بالجثة أي علامات تشير إلى حدوث الوفاة لأي سبب آخر غير التسمم ، وعندما تكون التحريات مشيرة إلى احتمال الوفاة بالسم .
6- عدم كفاية الخبرة الطبية الشرعية :
هذه المشكلة هي أم المشاكل وأعقدها ، وقد يرجع ذلك إلى قلة عدد الأطباء الشرعيين وعدم إقبال الشباب من الأطباء على الالتحاق بهذا العمل والتخصص في مجاله .
ولا تقتصر المشكلة على نقص عدد الأطباء الشرعيين ، ولكن المشكلة تتركز في صلاحية الطبيب للعمل الطبي الشرعي ، والحصول على طبيب شرعي متحلياً بالصفات الطبية أمر ليس باليسير ، فمن يصلح للعمل الطبي الشرعي لا بد وأن يتحلى بصفات أساسية أهمها مخافة الله ويقظة الضمير ، وأن يكون محباً لعمله مقتنعاً بأهمية هذا العمل بعيداً عن الأهواء ، ملماً بعلمه إلماماً طبياً حصل على خبرته بعد تدريب مكثف لفترة كافية متواضعاً لا يعرف الغرور إليه سبيلاً ، هادئ الطبع ، لا يسهل إثارته في قاعة العدالة ، مستقراً مادياً ونفسياً ، متفرغاً لعمله ولا يشغل باله سوى هذا العمل .
وإذا لم تتوفر هذه الصفات لمن يعملون في مجال الطب الشرعي ، فإن ذلك سيؤدي إلى كوارث لا حد لها ، فخطأ الطبيب الشرعي قد يصل إلى درجة لا يجدي فيها إصلاحه ، وسيكون هذا الخطأ مثاراً للجدل بين الأدعاء والدفاع في قاعات المحاكم .
ومثاراً للمناقشة الحامية الوطيس بين الطبيب الشرعي الذي اضطلع بالقضية وبين الطبيب الشرعي الأستشاري ، وستكون حصيلة ذلك كله إما أن يفلت المجرم من العقاب ويهدر دم القتيل أو يدان بريء لا ذنب له ولا جريرة .
ولا يعيب الطبيب الشرعي مهما بلغت خبرته أن يستشير زملاءه ولا يبدي رأياً قاطعاً في قضية قبل أن يستنير بآراء الزملاء ، وذلك أن كل قضية من قضايا الطب الشرعي تعتبر وحدة قائمة بذاتها ومتميزة بظروفها المحيطة بها وليس بالمستغرب أن يصادف الطبيب الشرعي الذي أمضى زهرة عمره في هذا العمل حالة لم يشاهد لها مثيلاً من قبل.
فلا غبار عليه ، ولا تثريب فيما لو استشار غيره في هذه القضية ، وذلك أفضل عند الله من أن يعتد الطبيب الشرعي برأيه وأن تأخذه العزة بالإثم ويكون ذلك على حساب العدالة ويكون في ذلك ضاع للحق .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]