العلماء الذين ساهموا في اكتشاف “علم الوبائيات”
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
علم الوبائيات البيولوجيا وعلوم الحياة
نأخذ من هذا العلم فكرتين رئيستين : العدوى والمناعة .
ولا يزال كتاب علم الحياة مفتوحاً أمامك لتسأل مؤلَّفه: إلى من تُنسب الفكرة الأولى، العدوى، فيجيبك غير هيَّاب: باستير في القرن التاسع عشر عندما أعلن نظريته التي تقول أن البكتيريا تسبب المرض.
والحق أن باستير لم يكن أول من توصل إلى تلك الفكرة، فقد سبقه علماء كثيرون وباحثون بيد أن المناخ العام في الدوائر العلمية لم يكن مهيَّئاً لتقبل ما يقولون .
فحتى عام 1853 كانت الجمعية الطبية في لندن تصر على رفض نظرية الباحث الوبائي سنو التي تقول بأن الكوليرا تنتقل بواسطة الماء!.
وقبل باستير وسنو بقرونٍ وقرون، نادى علماء العرب بفكرة العدوى، عندما أكدوا أن هناك أمراضاً عديدة تنتقل عن هذا الطريق من مثل: الجدري، والحصبة، والدرن، والطاعون، والجذام، والجرب، والحمرة، والالتهاب السحائي.
وإن كانوا أخطأوا بشأن مرضٍ واحدٍ حيث ظنوا أن الصرع كذلك ينتقل بالعدوى. ولهم في ذلك عذرهم لأن التشنجات العصبية، وهي من أعراض الصرع، كانت تصاحب الكثير من الحميات والأمراض المعدية الحادة فظنوها مُعدية كذلك.
وتعتبر الدراسة التي أجراها أبو بكر الرَّازي عن "الجدري والحصبة" أول دراسة متعمقة للأمراض المُعْدية.
فقد كان الرَّازي أول من ميَّز في رسالته هذه بين هذين المرضين وكانا قبله يعتبران مرضاً واحداً .وكان عمله من الدقة بحيث أن هذه الرسالة الصغيرة المشهورة اعتُبرت درةً في الطب العربي، وبذا يعتبر الرَّازي الأب العربي لعلم الوبائيات .
كما يبيَّن ابن سينا أن هناك أمراضاً تنتقل عن طريق الماء، وذلك قبل سنو بقرونٍ ثمانية، ولاحظ أن الفئران تخرج من مخابئها قبل انتشار الطاعون وتترنَّح كالسكارى قبل أن تموت. وكانت هذه الملاحظة الثاقبة أول ربط بين الفئران ومرض الطاعون .
وقد أكّد ابن الخطيب، في القرن الرابع عشر، في مولَّفه عن "الطاعون" : "أن وجود العدوى حقيقة تؤكدها التجربة والتقارير الدقيقة الخاصة بانتقال الأمراض عن طريق الثياب والأواني والأقراط.
ويشهد عليها انتشار المرض عن طريق أفراد العائلة الواحدة، وانتقاله إلى ميناءٍ سليمٍ فور وصول بعض السفن من بلاد موبوءة، كما يدل عليها عزل الأفراد محافظةً عليهم". وهو كلام في صلب فكرة العدوي حيث يقيم الشواهد على وجودها والوسائل اللازمة لانتقالها .
وكتب ابن خاتمة، في القرن الرابع عشر أيضاً ، كتاباً عن "انتشار وباء الطاعون في أسبانيا عام 1348-1349" جاء فيه ما يؤكد انتقال المرض من المريض إلى السليم بالمخالطة.
يقول : "كانت نتيجة تجاربه الطويلة أنه إذا خالط سليم مريضاً، أصابه مرض له نفس الأعراض. فإذا بصق الثاني دماً فعل الأول، وإذا كان لدى الثاني ورم ظهر على الأول وفي نفس الموضع، وإذا كان الثاني مصاباً بقرحة أصيب بها الأول. وينقل المريض الثاني المرض إلى غيره بالطريق ذاته" .
هذا عن فكرة العدوى، وأما عن فكرة المناعة فقد تنبَّهوا إليها كذلك، فهناك أمراض تهبُها لضحاياها! فقد لاحظ ابن رشيد مثلاً أن أولئك الذين أصيبوا بالجدري مرة لم يعودوا يصابون به بالمرة .
ولم يمكن ابن رشد بالطبع أول من لاحظ هذا، وإنما كان معروفاً لدى القدماء من الشعوب المختلفة أن الذي يصاب بمرض من أمراضٍ معيَّنة لا يصاب به مرة أخرى، أي أنه يكتسب مناعة ضد هذا المرض.
فمثلاً عرف الصينيون والهنود منذ القدم أن الذي يصاب إصابة خفيفة بمرض الجدري لا يُصاب به مرة أخرى حتى لو تعرَّض لعدوى شديدة. وقد استخدم الصينيون طريقة "التجدير" للوقاية من مرض الجدري حيث كانوا يطحنون قشور الجدري وينثرونها في الأنف فتحدث مرضاً خفيفاً يقي الشخص من الإصابة بمرض الجدري الثقيل.
أما الهنود فكانوا يضعون القشور في ثنية المرفق أو أعلى الذراع. وكانت هذه هي أولى طرق التطعيم ولكنها لم تكن تخلو من أخطار .
ومن بعد ابن رشد توالت المسيرة …
ففي عام 1721 مثلاُ نقلت سفيرة المملكة المتحدة في تركيا، اللّيدي مونتاجو، طريقة التجدير المشار إليها إلى أوروبا ثم انتقلت فيما بعد إلى أمريكا .
وفي عام 1796 استخدم إدوارد جنر من علماء الموسوعة) جراثيم جدري البقر كطعم واقٍ من جدري البشر .
وما بين عامي 1879 و 1881 وضع باستير النظرية الجرثومية المسبَّبة للأمراض وأطلق مصطلح "تطعيم" Vaccination على الجراثيم الضعيفة أو سمومها التي تُحقن في جسم الكائن الحي ليكتسب مقاومة ضد المرض. ونجح في تطعيم الحيوانات ضد كلٍ من الكوليرا والحمى الخبيثة .
وفي عام 1883 كشف متشنيكوف Metchnikoff عن دور اللاّ قمات (البلاعم) Phagocytes في المناعة. حيث اكتشف أن هناك نوعاً خاصاً من كريات الدم البيض يحيط بالأجسام الغريبة ويحتويها داخله بالحركة الأميبية ثم يهضمها.
وقد فتح هذا الباب لظهور علم "المناعة الخلوية" Cellular Immunity كأحد فروع علم الميكروبات. وكان يختص في البداية بدراسة طرق مقاومة الجسم لجراثيم الأمراض وسمومها .
وفي عام 1888 اكتشف روش ويارسن Roux & Yersin من معهد باستير المواد المضادة للسموم البكتيرية في دم الحيوانات التي أُصيبت بمرض الدفتريا ، وقد عزلا سموم بكتيريا الدفتريا وحقناها في بعض حيوانات التجارب فأنتجت الحيوانات في أمصالها مواد مضادة لهذه السموم.
وقد اعتُبر هذا إنجازاً رئيساً في مجال المناعة وخصوصاً ما يُعرف منها بالمناعة المصلية الخلطية الكيميائية .
وفي عام 1889 اكتشف فيفر Pfiefer أحد تلاميذ كوخ (من علماء الموسوعة) نوعية المناعة أو خصوصيتها، بمعنى أن الأجسام المضادة التي تحارب جرثومة معيَّنة لا تصلح لمحاربة جرثومة أخرى من نوع آخر .
وفي عام 1890 أطلق فون بيرنج Von Behring وكيتاساتو Ketasato مصطلح "أجسام مضادة" على المواد التي ينتجها الجسم لمحاربة الجراثيم التي تهاجمه. كما قاما باستخدام هذه الأجسام كأمصال ضد مرض التيتانوس. كما أكدا ما سبق أن قاله فيفر من أن المناعة نوعية .
وفي عام 1895 كشف دينيس وليكليف Denys & Leclef أن اللاّقمات تزداد بالتطعيم بمعنى المناعة المكتسبة كماً وكيفاً أي عدداً ونشاطاً .
وفي عام 1897 وضع بول إيرليش Paul Ehrlich نظرية "المستقبل ذو السلسلة" Chain Receptor أوضح فيها أن كريات الدم البيض يوجد في غشائها الخارجي سلسلة بروتينية ذات تركيب كيميائي خاص ترتبط بها الأنتجينات وبها يتم تدمير الأنتجينات.
كما أوضح أن وجود الأنتجينات يكون حافزاً لتكوين سلاسل جديدة تنفصل عن الخلية الأصلية لتحارب الأنتجينات في المصل. وهو تفسيرٌ يشبه التفسير الحديث لارتباط جلوبيولين المناعة بالإنتجينات .
ثم جاء كارل لاندشتينر Karl Landsteiner ليكتشف التفاعل الحسَّاس Anaphylatic . بمعنى أن الأجسام المضادة ليست دائما شافية بل أحيانا ما تُسبِّب ردود أفعال وصدمات مصلية مميتة. كما اكتشف فصائل الدم .
كما أوضح هنري ديل Henry Dale وباتريك ليدلادا Patriec Leidlada دور الهستامين في أمراض الحساسية . وفي عام 1921 اكتشف كالمت Calmet وجورن Gorne لقاح B.C.G المضاد للسل .
وفي عام 1922 اكتشف ألكسندر فلمنج Alexander Fleming (وهو من علماء الموسوعة) إنزيم الليزوزيم Lyzozym في الدموع وأوضح دوره في هضم البكتيريا .
وفي عام 1925 كشف زينسر Zinsser عن أن هناك نوعين من فرط الحساسية أحدهما سريع وفوري والآخر بطئ كما فرَّق بينهما.
وبين عامي 1930 و 1935 عزل كلاً من هلدبيرج Heldberg وكندال Kendal الأجسام المضادة وأثبتا عملياً أن التركيب الكيميائي لها عبارة عن بروتينات تسمى جلوبيولينات Glubulines .
وفي الفترة من 1935 – 1960 أي على مدى نحو ربع قرن أجرى بيتر مداور Pieter Medawer، وهو بريطاني الجنسية لبناني الأصل، تجارب على زراعة الأعضاء ومدى تقبل جهاز المناعة لها. ونجح في زراعة الجلود في الفئران شديدة القرابة .
وفي عام 1938 حدَّد تسيلباس Tsilbass وكبات Cbatt أن الأجسام المضادة في جسم الإنسان هي جاما جلوبين.
وفي عام 1962 كشف كلاً من بيرنت Bernet وميللر Miller وجود Good ، كلٌ مستقل عن الآخر ، عن الدور المهم الذي تلعبه الغدة الثيموسية في إنضاج الخلايا الليمفاوية التائية T.Cells وتنشيطها وبرمجتها .
وما بين عامي 1970 و 1972 قام علماء من أنحاء متفرَّقة من العالم ، كلٌ بمعزل عن الآخر، بتحديد دور كل من الخلايا الليمفاوية البائية والخلايا الليمفاوية التائية، وكذلك دور كلٍ من اللاّقمات والمتمِّمات أو المكمِّلات في المناعة من خلايا التآزر فيما بينها .
وفي عام 1982 أكد روبرت جالو Robert Galo من الولايات المتحدة ولوك مونتانييه من فرنسا الدور الأساسي والحاسم للخلايا التائية كخلايا منظمة وفعّالة ومساعدة في جهاز المناعة. كما أنهما اكتشفا فيروس الإيدز في العام نفسه .
ولا تزال مسيرة الاكتشافات في مجال المناعة تتوالى حيث البحوث على قدم وساق والمؤتمرات تنعقد كل عام لحل الكثير من المشكلات المرتبطة بالمناعة والتي يمكن أن تسهم بإذن الله في القضاء على أمراضٍ عضال كالسرطان والإيدز والحساسية وغيرها .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]