أمثلة على علماء تحلّوا بصفتي “الأمانة العلمية والتواضع”
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
صفة الامانة والتواضع لدى العلماء العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
صفة نبيلة واتجاهٌ علميٌ مطلوب تحلَّى به واكتسبه علماءٌ كثيرون .
فابن سينا اشتُهر بأمانته العلمية، حيث كان يحب التوثيق العلمي ، وقد نسب كثيراً من المعلومات عن النبات التي وردت في كتابيه "القانون في الطب" و "الشَّفاء" لأرسطو وثيوفراستس وديسقوريدس وأبقراط وجالينوس وغيرهم .
وكان الإدريسي عالماً نزيهاً، نبراسه الأمانة العلمية، فدائماً يذكر المراجع التي استقى منها معرفته في كل مصنَّفاته .
كذلك كانّ ابن البيطار يتحرَّى صحة النقل فيما يذكره عن الأقدمين ويُحرَّره عن المتأخرين. فما صحَّ عنده بالمشاهدة والنظر ادَّخره وما كان مخالفاً نبذه، ولم يُحاب في ذلك قديماً لسبقه ولا محدِّثا اعتمد غيره على صدقه. وقد اشتُهر بأمانته العلمية، حيث كان يضع ملاحظاته الخاصة والتعديلات التي يُدخلها على ما ينقل، ولكنه يُعطي صاحب الفكرة حقه.
كما تميَّز القزويني في كل مؤلفاته بالأمانة في النقل ، وإعطاء كل ذي حقٍ حقَّه .
ولم يدَّع الدِّميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" أنه مكتشف ظاهرة التكافل، تلك الظاهرة المهمة في عالم الحيوان ، وإنما نسبها إلى صاحبها الحقيقي القزويني الذي كان أوَّل من أشار إليها في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" .
التواضع
التواضع من شيم العلماء . ولنضرب لذلك الأمثال :
من العباقرة الأفذاذ نذكر نيوتن. كان جباراً من جبابرة الفكر وأميراً للفلاسفة الطبيعيين، وقد اعترف له أعلام العصور التالية بهذه المنزلة المتميزة من لايبنتز غريمه في الرياضيات إلى آينشتاين نده في الطبيعيات.
ورأى فيه البعض أنه لو اجتمع جميع نوابغ العالم لكان نيوتن في صدارتهم . وأن كل ما حدث في الفيزيقا النظرية بعده من تقدم إنما كان نمواً طبيعياً لما وصل إليه هو .
بل ذهب البعض إلى حد تشبيهه بنهر النيل في جُوده وغزارة عطائه! أما صاحب الشأن نفسه فكان متواضعاً ، لم يكن يرى نفسه سوى طفلاً يلهو حائراً أمام بحر المعرفة الزاخر المجهول .
ومن مواقفه في التواضع. في حقل تقليده وساماً من رتبة فارس ليحق له حمل لقب سير ، خاطبته الملكية "آن" ملكة إنجلترا : "إني لأشعر بالسعادة البالغة لأني عشت حتى هذه اللحظة العظيمة التي أقابل فيها رجلاً عظيماً مثلك يا سير إسحاق نيوتن" فما كان من نيوتن إلاّ أن أحنى رأسه قليلاً وقال للملكة في صوت خفيض : "شكرا لك صاحبة الجلالة ، إني لم أفعل حتى الآن ما استحق عليه كل هذا التكريم ، إنما أنا في بداية الطريق" .
وفي حديثه قبيل موته يؤكد ضآلة علم الإنسان إذا ما قورن بعلم الله سبحانه وتعالى .
وهذا الحديث ليشبه – في بعض معانيه وبغير محاكاة أو قياس – ما قاله سيدنا الخضر لسيدنا موسى عليهما السلام، حيث حسب سيدنا موسى أن العلم الذي حباه به الله هو النهاية. فأمره الله عزَّ وجل أن يذهب عند مجمع البحرين ليلقي عبداً من عباد الله صالحاً ليثبت له عدم صحة اعتقاده .
ولما انتهى موسى من مقابلة الخضر حطَّت عصفورة على الشاطئ وأخذت قطرة بمنقارها من الماء، فقال الخضر لموسى: إن كل ما لدى البشر من علم لا يضاهي تلك القطرة بالنسبة للمحيط اللانهائي لعلم الخالق الأعظم جلَّت صفاته وتقدَّست أسماؤه .
والحق أن نيوتين كان فعلاً من أشد العلماء تواضعاً، وكان يكره ما يُوجَّه إليه من ثناء ومديح ، حتى إذا ما سمع شيئاً من هذا او ذاك احتقن وجهه بالدماء كعذراءٍ يتورَّد وجهها وهي تسمع، لأول مرة، عبارات الغزل! .
وها هو آينشتاين يقول في سماحة من عرف حدَّه وقدره : "المؤمنون هم الذين يعلمون يقيناً أن هناك أشياء كثيرة تخفى عليهم وتفوق علمهم". كما يقول : "إذا أردنا أن ننظر إلى علم خالق الكون فإننا جميعاً نكون أشبه بجرثومة لا تكاد تُرى بأقوى المجاهر تتطلع إلى عملاق".
وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل : " وما أوتيتم من العِلْم إلاّ قليلاً". ( الإسراء : 85 ). كما يقول آينشتاين في تواضع عند استعراضه نشأة نظريته النسبية : "… كانت تلكم أخطاء فكرية كبرى كلَّفتني عامين من العمل الشاق، قبل أن أعرفها في النهاية – في عام 1915 – على حقيقتها، وتبدو النتائج المستخلصة بسيطة إلى حدٍ م ، فبوسع أي طالب جامعي ذكي فهمها بغير عناء كبير!!
ولكن سنوات البحث في المجهول عن الحقيقة الغائبة وتردد الأمل بين اليأس والرجاء والإقدام والإحجام، كلها أمورٌ لا يدركها إلاّ من كابدها" .
واذكر في قاهري الأمراض باستير ، إذ يقول قُرْبَ نهايته : " لقد ضيَّعت عمري هباءاً" . وذلك حين خطرت له الأشياء التي كان يمكنه إنجازها وتُسْفِر عن فائدة أعظم للإنسانية ، وهو تواضعٌ جم من عالمٍ أسدى للجنس البشري إنجازاتٍ كثيرة وهبات .
وإذا ما انتقلنا إلى روَّاد الفيزيقا، نجد أنه كان يؤخذ على ابن ملكا، في يهوديته، تكبره وتعاليه. ولكن الإسلام، الذي دخله فيما بعد ، قد صقل شخصيته وهذَّب طبعه وغسل عنه تكبره وتعاليه وألبسه ثوب التواضع .
وانظر ما كتبه فرانكلين إلى صديق له، فهو لا يمانع – في مكتوبه – من أن يُطلع صديقه على بعض أفكاره الفجّة لأن هذا قد يثير حماس آخرين لبلورتها واستكمالها .
كما أنهُ يُفضِّل أن تثرى المعرفة ذاتها على أن يُكتب له المجد والشهرة الشخصية، وما هذا في الواقع إلا تواضعٌ وإنكار ذات.
وفاراداي انهالت عليه الأوسمة وخُلعت عليه الألقاب من جامعات شتَّى وحكومات وملوك ، إلاّ أنه كان كعادته دائماً بسيطاً متواضعاً لم يسع إلى لقبٍ قط أو وسام .
كتب في عام 1831 إلى صديق له يقول : "عُدت ثانية إلى الانهماك في موضوع المغناطيسية الكهربائية، واعتقد أنني وضعت يدي على شيء يتسحق . ولكني لا أستطيع أن أُجزم ، فقد أصيد في النهاية قشَّة بدلاً من سمكة أبحث عنها ، بعد كل ما أنفقت من وقت وبذلت من جهد".
وهو قولٌ يقطر تواضعاً، إذ لم يصِدْ عالمنا في النهاية قشَّة بل سمكة وسمكة كبيرة. لقد صاد "المولِّد الكهربائي (الدينامو)!" .
وكان بويل، من روَّاد الكيمياء، فضلاً عن ألمعيته وكرمه، متواضعاً يقول ما يقول به العالم الحق : "… بقدر ما نعلم حتى الآن" .
هذا، وقد كتب السير "هوارد فلوري" في عام 1940 إلى مؤسسة روكفلر طالباً معونتها المالية في بحثه الخاص بالبنسلين، وكانت لديه آنذاك أسباب قوية للاعتقاد بإمكانية تطويره إلى مادة علاجية أكثر فعالية حتى من مركبات السلفوناميد ذاتها.
والمتوقع في رسالة كهذه أن يمتدح المرء بحثه، ولكن ها هو ذا كل ما سمح فلوري به لنفسه أن يقول : "لعلي لا أكون مفرطاً في التفاؤل إن اعتقدت أن هذا البحث يمكن أن يُرجى منه خيراً".
وقد أثبتت النتائج أن هذا القول كان مثلاً نموذجياً لتواضع العلماء، إذ بهذا البحث تم تطوير البنسلين بالفعل إلى مادة علاجية فيها الخير الكثير .
ومن تواضع العلماء أنهم لا يفتون الاّ ما كانوا يعلمون . ومما يُروى عن الكيميائي الكبير جاك لوب أنه أجاب، عندما استفسره أحد طلابه عن أمرٍ لم يكن لوب حقيقةً يعرفه، إجابةً لها دلالتها الأمينة المتواضعة : "لا أستطيع أن أفتيك الآن فيما سألت، ولكني سأحاول من جانبي فهمه ومعرفته، وقد يتسنَّى لي بعد ذلك أن أُفتيك!" .
والواقع أن الطلاب يعتقدون أحياناً، وهم في ذلك واهمون، أن معلميهم عالمون بكل شيءٍ تقريباً في مجال تخصصهم على الأقل. وفاتهم أن المحاضرين البارعين، حتى لوكانوا من العلماء، يقضون عادةً وقتاً ليس باليسير في إعداد محاضراتهم، وأن معلوماتهم خارج نطاق موضوع المحاضرة كثيراً ما تكون أقل بكثير مما يظنون.
ومؤلِّف أي مرجع لا يحتفظ في ذهنه بجميع المعلومات الواردة في كتابه، وكذلك الحال بالنسبة لصاحب البحث العلمي المنشور، إذ لا بد له من الرجوع إلى ما كتب لتذكر تفاصيل معيَّنة يريدها .
والتواضع، كما تبيَّن، صفةٌ حميدة واتجاهٌ علميٌ مرغوب فيه، ويتمير الشخص المكتسب لهذا الاتجاه بأنه :
1- لا يغتر ولا يتعالى ولا يتكبر لأنه يعرف في مجال العلم ما لا يعرفه الآخرون .
2- يعرف حدوده وقدراته ، كما يُدرك أن لقدرات العلم ذاته حدوداً .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]