أمثلة على علماء تمتعوا بظاهرة “الاستبصار” في التفكير العلمي
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني
صبري الدمرداش
KFAS
الاستبصار لدى العلماء العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
مصطلحٌ يشير إلى معانٍ تختلف فيما بينها اختلافاً يسيراً. ونقصد به هنا تلك الفكرة الموفَّقة والحاسمة التي تطرأ على الذهن فجأة.
وكثيراً ما يحدث هذا – وإن لم يكن محتوماً – عندما يكون المرء لا يفكر في الأمر الذي يشغله! كذلك تستعمل ألفاظ "الحدس" و "الوحي" و "الإلهام" و "الاستنارة" كبدائل قريبة لمصطلح الاستبصار .
ومن العلماء من أسهم بعمقٍ في ظاهرة الاستبصار في التفكير العلمي، من مثل: الكيميائيين الأمريكيين "بلات" و "بيكر" وعالمي الرياضيات الفرنسيين "هنري" و "بوانكاريه" والفسيولوجي الأمريكي "كانون" وعالم النفس "جراهام والاس" .
ونضرب للظاهرة الأمثال من حياة العلماء .
ما حدث لأرشميدس، وهو في حوض الحمَّام، والذي خرج على إثره يجري في الشوارع وهو ما زال عارياً يردِّد: وجدتها وجدتها، يعدُّ استبصار أمده بمفتاح حل المشكلة التي استحوذت على فكره ولم يكن يعرف من قبل إلى حلها سبيلاً .
ويقول أحد العلماء: كنت أجوب الطريق مسرعاً وقد حرَّرت ذهني من كل تفكير في مشكلة كانت تشغلني، وفجأة وعند نقطة معيَّنة، أستطيع تحديدها الآن، إذ بفكرةٍ تقفز إلى رأسي وكأنها انقضّت عليَّ من السماء الصافية، أو من مصدرٍ خفى هتف لي بها!.
ويقول الفيزيقي الألماني هلمهولتز ما معناه: بعد أن يمضي وقتاً في بحث مشكلة معينة يقلبِّها من جميع الوجوه، إذ بفكرة موفقة تهبط عليه دون مشقة وعلى غير انتظار كأنها والوحي سواء!.
وقد وجد أن هذا الوحي، أو الاستبصار، لا يواتيه عندما يكون ذهنه منهكاً أو مستغرقاً في بحوثه المعملية، وإنما يتسلَّل إليه في الصباح بعد كل ليلةٍ هادئة أو أثناء صحوه ببطء .
وذات يوم كان داروين يروَّح عن نفسه، بعد أن وصل إلى الفكرة الأساسية للتطور، بقراءة كتاب مالثوش عن السكان ، وفجأة طرأت على ذهنه فكرة : في الصراع من أجل البقاء قد تنزع الأنواع الملائمة للبقاء بينما تفنى الأنواع غير الملائمة، فالبقاء إذن للأصلح . وقد كتب مذكرة حول هذه الفكرة.
ولكن كانت لا تزال هناك نقطة هامة لم تُفسَّر بعد وهي اتجاه الكائنات العضوية المنحدرة من الأصل نفسه إلى التشعب عندما تتحوَّر، وقد واتاه التفسير في الظروف التالية : "أستطيع أن أتذكَّر نفس النقطة من الطريق حين شملتني الفرحة بهبوط الحل عليَّ أثناء وجودي في عربتي!.
وبالمثل طرأت الفكرة نفسها ، فكرة البقاء للأصلح، بوصفها جزءاً من تفسير ميكانيكية التطور على ذهن والالس – مستقلاً تماماً عن داروين – بينما كان يقرأ نفس الكتاب، مبادئ علم السكان لمالثوس، في أثناء مرضه! فقد قدَّم مالثوس عرضاً مفصلاً للعوامل التي تُحد من زيادة البشر وأن هذه العوامل تستبعد الأقل صلاحية. وهنا طرأ على ذهن والاس أن هذا الأمر ينطبق على عالم الحيون إلى حدٍ كبير.
وفي ذلك يقول : "… وبينما كنت أفكر بغموضٍ فيما يتضمنَّه ذلك عن التدمير الهائل المستمر طرأ على ذهني تساؤل، لماذا يموت البعض بينما يبقى البعض الآخر؟. وكان الجواب واضحاً وهو أن أكثر الكائنات ملاءمةً هي التي تعيش .
وفجأة ومض في ذهني خاطرٌ هو بالبرق أشبه . إن هذه العملية التلقائية قد ترقى بالجنس، إذ ينزع الأصلح نحو البقاء. وبدا لي أثر ذلك كله في الحال" .
وها هي رواية "متشنيكوف" لأصل فكرة بيولوجية، فكرة البَلْعَمة : "في ذات يوم ذهب فيه جميع أفراد العائلة إلى السيرك لمشاهدة بعض القردة التي تقوم ببعض الإستعراضات المثيرة، وبقيت وحيداً إلا من مجهري أشاهد عبره مظاهر الحياة في الخلايا المتحركة ليرقة نجمة بحر شفاَّفة ، وفجأة ومضت في ذهني فكرة جديدة مؤدّاها أنه من الممكن أن تقوم خلايا مشابهة بالدفاع عن الكائن العضوي ضد الجراثيم الدخيلة.
وإذ أحسست أن هذه الفكرة تنطوي على شيء بالغ الأهمية، فقد انفعلت بها إلى حد أنني اخذت أذرع الغرفة جيئة وذهاباً ، بل انطلقت إلي شاطئ البحر لأجمع في صفوه شتات أفكاري!" .
ويروي بوانكاريه كيف أنه قام – بعد فترةٍ من العمل الرياضي المركز – برحلة إلى الريف صارفاً ذهنه عما كان يفكر فيه "… وما إن وضعت قدمي على عتبة الأجمة حتى جاءتني الفكرة، فكرة أن التحويلات التي استخدمتها لتعريف دوال فوكس كانت هي نفسها التحويلات الخاصة بالهندسة اللاإقليدية!" .
ويذكر هادامار تجربة لعالم الرياضيات والفيزيقا جاوس الذي كتب عن مشكلة حاول حلها لسنوات خلت دون جدوى قائلا : ".. وأخيراً نجحت مذ يومين فقط، وحُلّ اللغز المستعصي بسرعة البرق الخاطف. ولا أستطيع أنا نفسي أن أحدِّد الخيط الرفيع الذي ربط بين ما كنت أعرفه من قبل وبين ما جعل نجاحي ممكناً " .
ويحدث الاستبصار أحياناً في نوم . وقد استشهد "كانون" بمثلٍ ظاهرٍ على ذلك. فذكر أن "أتولوفي"، أستاذ علم العقاقير بجامعة جراتس، قد صحا من نومه ذات ليلة على فكرة رائعة سجَّلها بقلم وورق.
وفي اليوم التالي ذهب إلى معمله حيث أثبت – بتجربة من أكثر التجارب بساطة وإتقاناً وحسماً في تاريخ علوم الحياة – ظاهرة المتوسط الكيميائي للسيَّالات العصبية" .
وقد ذكر كانون عن نفسه أنه اعتاد أن يتلقَّى مذ شبابه العون من الإلهام المفاجئ، وأنه كثيراً ما كان يذهب إلى النوم تؤرِّقه مشكلةٍ ما ليصحو في الصباح وقد أُهدى حلّها! .
ولعلَّه يتبين مما تقدم أن الاستبصار كظاهرة موجودٌ لدى علماء كثيرين. يؤيد ذلك أن من بين العلماء الذين أجابوا على استبيان "بلات – بيكر" ذكر 33% منهم أن الاستبصار كثيراً ما يفيدهم، 55% أنه يفيدهم أحياناً ، 17% لا يفيدهم .
ولكن يجب الاّ نحسب أن جميع الاستبصارات صحيحة أو مثمرة، على الأقل لأنها من نتاج الذهن البشري غير المعصوم ، فقد قال 7% من العلماء في إجابتهم على الاستبيان السابق أن استبصارهم كان صحيحاً دائماً، أما الباقون فقد قدّروا نسبة الاستبصارات التي ثبتت صحتها بما يتراوح بين 10 و90% .
وقد تكون هذه الأرقام مفرطة أو على الأقل نزَّاعة للتفاؤل ، لأن المرء يميل عادةً إلى تذكر الخبرات السارة أو الحالات الناجحة أكثر من تذكره المؤلم والفاشل منها .
وقد ذكر كثير من العلماء البارزين أن أغلب استبصاراتهم قد ثبت فيما بعد خطؤها، فكان مآلها في النهاية النسيان .
وإذا ما ناقشنا سيكولوجية الاستبصار من الناحية النفسية لوجدنا أن أكثر الظروف ملاءمة له هي فترة من التعامل المركز في المشكلة مصحوبة برغبة ملحة في حلها، ثم التخلي عن التفكير فيها وربما مع الاهتمام بشيء آخر، وأخيراً ظهور الفكرة بطريقة فجائية غير متوقعة. وكثيراً ما يصاحب ذلك شعورٌ بالابتهاج والارتياح وربما الدهشة ايضاً من عدم التفكير في تلك الفكرة من قبل ! .
وسيكولوجية هذه الظاهرة غير مفهومة على وجه التدقيق، غير أن هناك اتفاقاً شبه عام – وإن لم يكن اجماعياً – على أن الاستبصار ينشأ من النشاط شبه الواعي للذهن الذي يكون قد استمر في تقليب المشكلة من جميع نواحيها على الرغم من أن الذهن الواعي ربما يكون قد كفَّ عن الاهتمام بها .
ويتفق مدلول سيكولوجية الاستبصار مع ما هو معروفٌ عن الظروف التي تؤدي إلى حدوثه. فعن طريقه يمكن تبين أهمية التحرر من المشاكل والشواغل الأخرى التي تتصارع معاً في ذهن الإنسان، وكذلك تبين فترات الاسترخاء في التمهيد لحدوث الاستبصار. إذ قد لا يستطيع الذهن الواعي استقبال الرسائل الصادرة من الذهن شبه الواعي إذا كان الأول في انشغالٍ دائمٍ أو إجهادٍ عظيم .
وإن كان من المعروف أن أفكاراً ثمينة شهيرة قد واتت علماء وهم مرضى في فراشهم. فقد طرأت فكرة الانتخاب الطبيعي على ذهن والاس أثناء نوبة من الملاريا.
وذكر آينشتاين أن معادلته العميقة والشاملة التي تربط الزمان بالمكان في متَّصلٍ واحد قد جاءته وهو عليل. كذلك ذكر كانون وبوانكاريه أنهما اهتديا إلى أفكارٍ رائعة أثناء استلقائهما في فراشهما، وقد تجافت جنوبهما عن المضاجع من أرق!.
ويقال أن "جيمس برندلي"، المهندس الكبير، كان يلزم فراشه أياماً كلما عنَّت له مشكلة أثقلته حتى يحلها! ويقال كذلك أن "ديكارت" قد توصَّل إلى الكثير من كشوفه بينما كان مضطجعاً صباحاً في فراشه . كما أشار "كاهال" إلى تلكم الساعات الهادئات التي تعقب الاستيقاظ، والتي عدَّها "جوتة" وغيره كُثُر، مواتية للاستبصار.
وكتب "والترسكوت" إلى صديقٍ له يقول : ثبت طوال حياتي أن نصف الساعة الواقع بين اليقظة والغفوة ملائم تماماً لأي عمل يتطلب قدرة ابتكارية ، فلقد كانت الأفكار المطلوبة تنهمر عليَّ دائما عندما أفتح عينيَّ لأول مرة ! .
أما "بيكر" فقد رأى أن الاستلقاء في حوض الاستحمام هو الوقت الأمثل وعنده أن أرشميدس قد كشف عن قاعدته المشهورة وهو في الحوض لأسباب عديدة ليس منها عبقريته العلمية وحدها، وإنما لكون الظروف كلها في تلك اللحظة كانت مواتية .
ويؤكد آخرون أهمية وقت الفراغ والأعمال الخفيفة المُهدِّئة للأعصاب، كنُزهةٍ في ريف أو جولةٍ في حديقة، في صفاء الذهن الذي يهيؤه للاستبصار .
وقد اعتاد "هيولنجز جاكسون" أن ينصح تلاميذه بالاستلقاء في معقدٍ مريحٍ بعد طول عناء وإطلاق العنان لتصوراتهم، حول ما عرض لهم في يومهم وتدوين الأفكار التي تطرأ على أذهانهم .
ومن الواضح أن العالم محتاجٌ دائماً إلى وقفة مع النفس بل وقفاتٍ متأمَّلة ليحصل على أفكار نيِّرة. ولعل ميزة التخلي المؤقت عن المشكلة أنه يحرِّر الذهن من التفكير المقيَّد غير المثمر، لأن التركيز الشديد على المشكلة لمدة أطول من اللازم قد يُحدث حالة من التعطل الذهني، كتلك التي تصادفنا أحياناً عندما نلحُّ جاهدين في تذكر شيءٍ غاب في هذه اللحظة عن ذهننا .
ويرى والاس أن الاستبصار يظهر دائماً عند حافة الشعور لا في بؤرته، وأنه يتعيَّن – والحال كذلك – بذل الجهد لإدراكه. كما ينبغي رصد الأفكار القيَّمة في "الدوَّامات" "والمياه الجانبية" للفكر لا في "مجراه الرئيس" .
ويُقال إن بعض الناس قد يتلقون نوعاً من الإنذار قبل الاسبتصار، فيفطنون إلى أن شيئاً من هذا القبيل سيقع دون أن يدروا ما هو بالضبط. ويطلق والاس على هذه الظاهرة – النادرة على كل حال – اسم "الإيعاز" .
هذا، وقد حلَّل "ديوي" التفكير الواعي إلى مراحل عدَّة : فهو يستهل بالشعور بمشكلة معينة بتكون بمثابة الحافز، يتبعها انبثاق حل مقترح في الذهن الواعي. وهنا فقط يظهر "العقل"، العقل المجرد الذي يحاول كشف الحقائق بقوته الذاتية دون ما اعتماد على خبراتٍ سابقة، يظهر على المسرح ليمحَّص الفكرة ويقلَّبها فينبذها أو يقبلها. فإن نبذها عاد سيرته الأولى في مرحلته السابقة.
وتتكرَّر العملية، ومن المهم أن نُدرك هنا أن استحضار الفكرة ليس عملاً إرادياً يمكننا القيام به أنّى نشاء، وإنما هو في الواقع غير ذلك تماماً، إذ يطرأ علينا من غير أن نقوم به ! .
وفي التفكير العادي "تطرأ" علينا الأفكار باستمرار على هذا النحو لتربط بين خطوات الإستدلال العقلي. والحق أننا اعتدنا هذه العملية إلى الحد الذي لا نكاد معه أن نشعر بها .
والأفكار الجديدة تظرأ عادة لما يقوم به التفكير الذي يسبقها مباشرة من استدعاء لارتباطات تكونَّت في الذهن من قبل عن طريق عبارات سابقة .
ومع ذلك، فقد يحدث أحياناً أن تُومض في الذهن فكرةٌ أصيلة بحق، لم تقم على ارتباطاتٍ سابقة على الأقل للوهلة الأولى .
وهنا قد نُدرك فجأة، ولأول مرة، العلاقة بين كثير من الأشياء أو الأفكار، فنقفز إلى الأمام قفزاتٍ بدلاً من تلك الخطوة القصيرة العادية التي تكون فيها العلاقة بين كل زوج أو مجموعة من الأفكار قد تأكَّدت وأصبحت "واضحة"، وهذه القفزات أو الاندفاعات الكبيرة المفاجئة لا تحدث عندما يكون المرء – كما قدَّمنا – منهمكاً في حل المشكلة بوعي،، بقدر حدوثها عندما يكون لا يفكر في أي شيءٍ على التخصيص أو حتى عندما يكون منشغلاً – دون انهماك – بشيءٍ آخر .
وتلك الأفكار الفجائية وما يترتَّب عليها من قفزات في الطريق إلى إفضاء المشكلة واندفاعات، هي التي يشار إليها بالاستبصار، أو الاستنارة ، أو الحرص ، أو الوحي ، أو الإلهام ! .
وبناءً على ما تقدم فالظروف الملائمة لحدوث الاستبصار هي:
1- تهيئة الذهن أولاً عن طريق التفكير الواعي في المشكلة موضع البحث لفترةٍ طويلة .
2- استبعاد المشاكل والشواغل المنافسة في اهتمام الذهن إذ لها تأثير على الاستبصار معادٍ ومُعاكس .
3- يحتاج أغلب الناس إلى التحرر من عوامل الإزعاج التي تقطع حبل التفكير وتشرد بالذهن .
4- كثيراً ما يحدث الاستبصار عندما لا يكون المرء منشغلاً تماماً بحل المشكلة .
5- من المثيرات الإيجابية للاستبصار أو الاتصالات الذهنية بالآخرين من خلال المناقشة أو القراءة.
6- كثيراً ما تختفي الأفكار الطارئة على الذهن إلى غير رجعة بنفس السرعة التي أتت بها ! لذا فالتسجيل السريع لها هو خير الوسائل لاقتناصها .
7- فضلاً عن المشاكل والشواغل المنافسة، توجد مؤثرات أخرى غير ملائمة مثل الإجهاد الذهني والجسمي ، والاستغراق في التعامل مع المشكلة والضوضاء ، والمثيرات التافهة المشتَّتة .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]