العلوم الإنسانية والإجتماعية

أمثلة على علماء تميزّوا بصفة “الإنسانية”

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

صفة الانسانية لدى العلماء العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

مما يُميِّز كثيراً من العلماء "إنسانيتهم" . فقد كان ماكسويل  مثلاً لطيفاً حنوناً ودوداً متفانياً مخلصاً ومنكراً لذاته.

ونذكر له في هذا الخصوص موقفه مع نسيبه الذي جاء إلى لندن لإجراء عملية جراحية، حيث آثره على نفسه مع أنه كان به خصاصة، وموقفه الإنساني النبيل من مرض زوجته الطويل الخطير حيث أصرَّ – وهو العليل – على تمريضها ! .

وأما آينشتاين فكان عالماً فذاً بقدر ما كان إنساناً رقيقاً. وهو إن كان قد شجَّع الحكومة الأمريكية على التعجيل بإكمال القنبلة الذرية، فقد أبدى الندم وكاد أن يقبل القدم على غلطته في حق الإنسانية.

وهو إن كان صهيونياً متطرفاً إلاّ أنه كان يكره الإرهاب، وكان إيمانه الديني أقرب إلى التصوف! وكان مرهف الحس ذواقاً للشعر والموسيقى ويعتبرها توأماً للرياضيات، وكان يُهرع إليها عندما يشق عليه فهم مسأله.

 

وكان دائما يحس بعجزه الإنساني القاصر عن الوصول إلى الحقيقة، ويحسد مؤلفي الروايات البوليسية لأنهم يعرفون الحقيقة وإن أخفوها! . وفضلاً عن هذا كان آينشتاين – كإنسان – يكره الشهرة كرهه للثروة .

كما كان محباً للسلام ويرى أنه مطلب عزيز لا يمكن شراؤه بالمال، وقد لعب بالفعل دوراً ما بعد الحرب في محاولات التوفيق بين بلده ألمانيا والبلاد المعادية لها .

ولعلنا نذكر موقفه عندما زار الهند ورأى ملايين البشر وهم يعملون عبيداً، وإن شئت دواباً، حيث كانوا يحملون زملاءهم في البشرية فوق ظهورهم لينقلوهم من مكانٍ لاخر، ورفض هو أن يشارك في مثل هذا الامتهان لكرامة الإنسان، فلم يمتط ظهراً ولم يركب عربة يجرها رجال بدلاً من الخيول.

وكم كان يتألم لما رأى من هوان الإنسان كذلك في الصين واليابان. وكان يحث دائماً على عدم تربية الصغار وتنشئتهم على الكراهية والحقد وإساءة استخدام الانتصارات التي أحرزها الجنس البشري وأفرزها بعد طول عناء .

 

وبعدما وقع التفجير الذري الأول في كل من هيروشيما ونجازاكي وما نجم عن ذلك من مآسٍ وكوارث، صحا ضمير أوبنهايمر، أبو القنبلة الذرية، وعارض اقتراح العالم الأمريكي "تيلر" الاستفادة من الحرارة الهائلة الناجمة عن الانشطار في القنبلة الذرية لتفجير ما عرف فيما بعد بالقنبلة الهيدروجينية .

ووقف ضد تيلر بكل قوة وعارضه على أسسٍ فنية وسياسية وإنسانية. وحقاً قد خَسِرَ الصراع عندما تقرر بناء القنبلة الهيدروجينية وتقديمه هو للمحاكمة. ولكن حسبه أنه أرضى ضميره لعدم تكرار مآسي القنبلة الذرية .

ولنا أن نتوقف أمام قسم أبقراط، وما يتضمنه من معانٍ إنسانية جميلة. فهو يحث الطبيب على مساعدة مرضاه دون ما ضررٍ أو إساءةٍ ، يكتم سرَّهم، ويصون حرماتهم ، ويكون لهم الستر والبلسم.

وكان مندل رقيقاً حساساً. وقد جنت عليه رقَّته ورهافة حسه، فقد كانتا السبب في جعل رؤسائه يعفونه من عمله كقس، لأنه كان يصاب بعذابٍ وألم لا يطاقان كلما عاد مريضاً أو رأى محتضراً، وأن ضعفه الإنساني هذا قد جعله هو نفسه مريضاً!

 

كما أنه كان مرحاً لطيفاً محبوباً من زملائه وتلاميذه . كما كان كريماً جواداً محباً للحياة . يستضيف أصدقاءه في الدير على حسابه الخاص، ويفتح لهم منزله في أيام الأعياد .

وكان باستير إنساناً ، هدفه الأسمى مساعدة الجنس البشري، آملاً مجيء ذلك اليوم الذي يتفاهم فيه الإنسان ويتعاون مع أخيه الإنسان .

ومينو، الطبيب الودود، اشتهر بصداقته لمرضاه وكان يُدقِّق في فحص كل مصاب منهم بالأنيميا الخبيثة، ويوليه الرعاية الخاصة وكأنه المريض الوحيد في المستشفى ! .

وكذلك كان البيروني. إذ لما أهدى كتابه "القانون" إلى السلطان مسعود أرسل إليه السلطان مكافأة ضخمة حمل فيلٍ من قطع الفضة فردَّ البيروني إلى صديقه السلطان مكافأته،  فقد كتب كتابه من أجل العلم لا المال ! .

 

ومع أن هوك كان سريع الغضب ، إلاّ أنه كان شجاعاً معتداً بنفسه وعلى استعداد تام لتقديم كل معونة، كما أنه كان عفوَّاً عن أي ضررٍ أصابه من جانب عظماء الرجال الذين يقدِّرهم حق قدرهم .

وكان فاراداي حفياً وفياً بأستاذه ديفي حتى بعد اختلافه معه، يُجلِّهُ ويشير إليه دائما على أنه أحد الرجال العظام . وما يؤثر عن فاراداي أنه كان يختار العلم دائماً ويفضله على المال .

وكان مايكلسون رقيقاً مشغوفاً بالفنون إلى جانب افتتانه بالعلم، فكان عازف كمان ماهر كما كان رساماً بارعاً، وكان يؤمن دائماً بأن العلم أرقى تعبير عن الفن .

 

وهذا موقفٌ يحسب لديفي عندما رفض مشورة بعض صحبه برفض جائزة المعهد الفرنسي لصاحب أفضل تجربة في الكيمياء الكهربائية بدعوى أن فرنسا تقاتل بلده إنجلترا. وكانت وجهة نظره أنه إذا كانت الحكومات تتقاتل فينبغي أن يكون رجال العلم غير ذلك .

وتلكم صورة مشرفة لإنسانية الإنسان صورة الكوريين، بييروماري، وهما يتنازلان عن حق تسجيل عملية استخلاص الراديوم لنفسيهما ، ولو فعلا لأصابا أموالاً طائلة وثروات ، بيد أنهما رفضا الحصول على أي ربح من كشفهما الذي اعتبراه  أداة للرحمة، أي لعلاج لأمراض وليس للتجارة والارتزاق.

وعلى الرغم من فجيعة الزوجة وحزنها على فقد شريك الحياة ، في البيت والعمل، كانت مستعدة دائماً للترفيه عن الجرحى بابتسامةٍ مشجِّعة ولمسةٍ حانية وكلمةٍ طيبة ونظرة ود .

ومع إنسانية العالم فإنه لا يتخلَّى عن بشريته التي قد تكون فيها بعض الصفات المرذولة .

 

فذلكم لابلاس. كان شخصاً يدعو للدهشة حقا، إذ يجمع في سلوكه المتناقضات . كان طموحاً دون أن تنقصه المودة وكان لامعاً.

ولكنه لا يتورَّع عن سرقة أفكار غيره! وكان مرنا بحيث يصبح جمهورياً مع الجمهوريين وملكياً مع الملكيين. لقد كان حقاً راكباً للموجة من طراز عجيب ! .

والكندي، فيلسوف العرب، كانت سيئته الكبرى البخل . فقد كان شحيحاً يستخدم ذكاءه في الحصول على ما يريد دون أن يدفع مالاً ، ولكن بحيلٍ شريفةٍ وأساليب مشروعة ! .

وها هم بنو موسى ، محمد وأحمد وحسن، عباقرة في الفيزيقا والهندسة الميكانيكية والفلك ، ولكنهم كانوا يكيدون لكل من كان لامعاً من العلماء ونابغاً.

 

فقد باعد اثنان منهما ، الأكبر والأوسط ، بين سند بن علي والخليفة المتوكل ليخلو لهما الجو، كما دبَّرا للكندي حتى ضربه الخليفة وذهبا إلى داره ونهبا كتبه ومخطوطاته ! .

وعندما علم هوك أن كتاب "المبادئ" لنيوتن يتضمن عرضاً للنظام الشمسي على أساس من القواعد والأفكار التي وضعها هو دون أي إشارة له، تضايق كثيراً. ولما علم نيوتن بذلك، وكان بدوره سريع الغضب ، أصرَّ على عدم ذكر اسم هوك لا في "المبادئ" ولا في "الظواهر الضوئية" الذي نشره بعد وفاة هوك ! .

وبعدما تبوَّأ فاراداي، تلميذ ديفي، منزلة علميةً رفيعةً ورُشَّح لعضوية الجمعية الملكية في لندن، خذله أستاذه فلم يُعطه صوته لعوامل كثيرة من أهمها غيرة الأستاذ من تلميذه .

وكان الكونت رمفورد عالماً ومخترعاً شهيراً، إلاّ أنه كان – وبنفس الدرجة – مغامراً ووصولياً ونفعيا وزوجاً غير مريح سيئ المعاشرة، وتشهد أرملة لافوازييه على ذلك ! .

هؤلاء هم العلماء في صورتهم الحقيقية، في ثوبهم البشري، ليسوا ملائكة منزَّهين وعن الزلل معصومين، وإنما هم آدميون، يحبون ويكرهون، يعضِّدون ويغارون، ويُحنون ويكيدون، ويتصالحون ويتخاصمون، ويؤثرون ويستأثرون .

 

ومن إمارات بشرية العلماء كذلك إمكانية وقوعهم في الخطأ رغم عبقريتهم، فهم بشر يصيبون ويخطئون .

فهذا أرسطو، قيِّم المعرفة الإنسانية ومعلمها الأول، كانت له سقطات . ومن سقطاته في الفلك : اعتقاده بأن الأجرام السمائية تسير في حركة دائرية ، وقد خطَّأ كبلر في عام 1609 هذا الاعتقاد إذ مدارات الأجرام إهليلجية وليست دائرية، ومن سقطاته في الفيزيقا اعتقاده أن الأجسام الثقيلة تسقط قبل الخفيفة إذا ما ألقيتا معاً في نفس اللحظة ومن نفس الارتفاع .

وقد خطَّأ جاليليو في القرن السابع عشر هذا الاعتقاد ، حيث أثبت سقوطهما معاً في نفس اللحظة إذا ما ثبَّتنا مقاومة الهواء. 

ومن سقطاته في الكيمياء قوله إن المعادن تتكون في باطن الأرض نتيجة البخار والماء حتى جاء ابن حيَّان وخطًّأه في القرن الثامن الميلادي، وقوله بتحول الماء إلى تراب ، والذي خطَّأه لافوازييه في القرن الثامن عشر للميلاد .

 

وكوبرنيكوس، رغم ثورته الفلكية ونظامه الذي ثلَّ به عرش نظام بطليموس قد وقع في خطأ أن أفلاك الكواكب دائرية. كما لم ينجح، مثل من سبقه من الفلكيين، في تقدير اتساع المجموعة الشمسية. وكانت نظريته بصفة عامة، رغم ما أحدثته من ثورة، لا تخلو من أخطاء .

وموزلي وقع في الخطأ عندما قال  أنه لا يوجد في الكون عنصر آخر غير العناصر الاثنين والتسعين التي تضمنها جدوله للأعداد الذرية الذي وضعه في عام 1912، والآن يتجاوز عدد العناصر المعروفة هذا الرقم بكثير .

ورغم أن جالينوس يعتبر أباً لطب الإغريقي، إلاّ أنه وقع في أخطاءٍ كثيرة منها: أن الفك السفلي في الإنسان يتكون من عظمتين ومفصل، وقد صحَّح هذا الخطأ البغدادي عندما أثبت أنه يتكون من عظمة واحدة فقط، وذلك بعد أن قام بفحص أكثر من ألفي جمجمة بشرية!! .

ومنها كذلك أن الجدار البطيني يسمح بنفاذ الدم من ناحية إلى أخرى داخل القلب. وقد صحَّح هذا الخطأ ابن النفيس بأن أكَّد أن الدم يذهب أولاً إلى الرئة ليختلط بالهواء وبعدها يعود إلى القلب .

والخازن، رغم عبقريته، وقع في الخطأ عندما قال بتناسب الثقل طردياً مع البعد، وقد صحَّح هذا الخطأ نيوتن عندما بيَّن، في معادلته لقوة الجذب، أن الثقل يتناسب عكسياً مع مربع بعد الجسم عن مركز الأرض .

 

كذلك وقع كافندش في الخطأ عندما صمم على عزل الفلوجستون فتوصل إلى أن "الهواء" لا ينتج من الحمض الذي استخدمه وإنما من المعدن. ولكن لافوازييه حطَّم هذا الكشف الخاطئ عندما أعلن أن "هواء" كافندش ما هو إلاّ هيدروجين ! .

نعم لقد وقع العلماء في خطأ أو أخطاء. ولكن ليس معنى هذا أن يحجموا عن اقتحام المشكلات. إذ ليس العالم بحق من يخشى المجازفة – فالربح – كما يقول الاقتصاديون – هو عائد المخاطرة – ولكنه من يقوم باختبار قاس لكشف الخطأ قبل أن يعلن نتائجه.

وقد صرَّح أحد علماء الرياضيات (هادامار) بأن علماء الرياضيات البارعين، كثيراً ما يقعون في أخطاء، بيد أنهم سرعان ما يتداراكونها ويصحِّحونها، وأنه هو نفسه يرتكب من الأخطاء اكثر مما يرتكب تلاميذه! وقد علَّق "فردريك بارتليت" أستاذ علم النفس بجامعة كمبردج على هذا التصريح بقوله : "إن افضل مقياس متفرد للمهارة الذهنية قد يكمن في السرعة التي يمكن بها كشف الأخطاء واستبعادها" .

 

وقد أشار "ليستر" إلى هذا المعنى ذات مرة قائلاًك "في اعتقادي أن أفضل شيء يستطيع الإنسان عمله – بعد إعلان الرأي – هو المجاهرة بالرجوع عن الخطأ " .

كما أوضح "و . ه . جورج" أنه على الرغم من أن معدل "ولادة" الفروض بين العلماء مرتفع جداً، فإنه لا يكاد يزيد على معدَّل "وفاتها"! مما يعني أن أكثر الفروض التي يضعها العلماء خاطئ .

وقال بلانك : "عندما أتطلع إلى الماضي مروراً بالطريق الطويل المتشعب الذي أدَّى بي في النهاية إلى كشفي نظرية الكم،  أتذكر بوضوح قول جوته: إن الإنسان يقع دائماً في الخطأ طالما كان يبحث جاهداً وراء شيء ما" .

ولنستمع إلى ما كتبه "هرمان فون هلمهولتز" في هذا الصدد: "في عام 1891 تمكنت من حل عدد قليل من المشكلات التي يئس عظماء الرياضيين – بدءاً من أويلر ومن تلاه – من حلها. ولكن أي شعور بالفخر كان يمكن أن ينتابني لما وصلت إليه من نتائج، كان يعلله أن حل هذه المشكلات إنما جاءني في أغلبها تقريباً من خلال سلسلة من التخمينات الموفقة بعد العديد من الأخطاء.

 

وإنه ليحلو لي أن أقارن نفسي بجوَّال للجبال يدفعه جهله بالطريق إلى التسلق ببطء ومشقة، وكثيراً ما يضطر إلى التقهقر لأنه لا يستطيع المضي أبعد من ذلك، ثم يكتشف، بالحظ أو بإعمال الفكر، طريقاً جديداً يقوده إلى أعلى قليلاً .

 وعندما يصل إلى القمة أخيراً ، سرعان ما يكتشف والخجل يكسوه أن هناك طريقا "ملكيا" واحداً كان يمكنه ارتقاؤه، لو أنه كانت لديه الفطنة للاهتداء إلى الطريقة الصحيحة لارتقائه، وبديهي أنني لم أذكر للقارئ – في مؤلفاتي – شيئاً عن أخطائي، وإنما قصرت على وصف الطريق الممهِّد الذي يستطيع أن يرتقيه هو الآن ليصل إلى الارتفاع نفسه دون عناء .

تحليلٌ جميلٌ واعترافٌ صريحٌ بأن طريق العالم للحقيقة ليس في الغالب ممهداً وإنما به متاهات قد تصرف عن المسلك الصحيح ولو إلى حين .

 

وعلى كل الأحوال فليس ثمة ما يدعو إلى الخوف من الوقوع في الخطأ، شريطة أن يعرف المرء هذا الخطأ في الوقت المناسب ويعمل جاهداً على تصحيحه، ذلكم أن العالم الذي يسرف في الحذر لا ينتظر منه أن يفعل شيئاً. وقد عبر "وايتهيد" عن هذا المعنى ببلاغة بقوله "الخوف من الخطأ مقبرة التقدم"

كما قال ديفي "لقد أوحى إلي الفشل بأهم كشوفي!" والحق أن طريقة استجابة الشخص المدرب للكشف عن خطأ فكرته تعطيه ميزة عل غير المدرَّب، ذلك أن الأول سينتفع من أخطائه قد انتفاعه من نجاحاته .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى