بنية الذرة
2013 الرمل والسيليكون
دنيس ماكوان
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
يعتمد فهمنا لنواة الذرة بشكلٍ كبير على تجارب يُسرَّع فيها أنواع متعددة من الجسيمات المشحونة إلى سرعات عالية كي تضرب هدفاً أو تصطدم مع جسيمات مشحونة معاكسة في الاتجاه.
وفي يومنا الراهن، تأتي الاكتشافات الجديدة في الطاقات العالية والفيزياء النووية من مُسرِّعات عملاقة مثل المُصادم الهادروني الكبير (Large Hadron Collider LHC) في مركز CERN والتيفاترون (Tevatron) في مختبر فيرمي (Fermi) ومُصادم الإيونات الثقيلة النسبوي في بروكهافن.
وتستعمل هذه التجارب "العلمية الكبيرة" أحدث التطورات في المُسرِّعات الأكبر والأفضل التي شُيدت على مدار القرن الأخير، لكن منشأها يعود إلى تجارب صغيرة رائعة جرت منذ مطلع القرن.
في بداية القرن العشرين، ساد الاعتقاد أن الذرة كانت عبارة عن نوع ما من كرة مستقرة، ولم يكن وجود النواة وبنيتها معروفين. ولقد أدى اكتشاف الأشعة السينية والإلكترون والنشاط الإشعاعي في مطلع القرن العشرين إلى نسف هذه الصورة المبسطة. وكان ما أُطلق عليه في البداية أشعة ألف وبيتا وغاما ينبعث من بعض المواد المشعة. فمن أين جاءت هذه الجسيمات والأشعة؟
لم تستعمل التجارب المبكرة لجلاء بنية الذرة مُسرِّعات وإنما حزمات من جسيمات ألفا، واكتشفت عائلة كوري عنصر الراديوم وعندما يتحلل الراديوم إلى الرادون، يُصدر جسيمات ألفا عالية الطاقة، وتتشكل حزمة جسيمات ألفا بواسطة طريقة مناسبة تجعلها مستقيمة (Collimation). كان إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) أول العلماء في استعمال حزمات جسيمات ألفا لدراسة النواة.
وُلد رذرفورد في 30 آب 1871 في مزرعة في نيوزيلندا، وتلقى بداية تعليمه في معهد كانتربري في كريستشيرش (Christchurch) ونال بعدها منحة مرموقة للدراسة في جامعة كامبريدج في بريطانيا عام 1895. وبعد العمل مع ج. ج. تومسون (J. J. Thompson) الذي اكتشف الالكترون، أصبح رذرفورد أستاذ فيزياء في جامعة ماكجيل (McGill) في كندا عام 1899 (Reeves 2008).
وفي ماكجيل، تعاون مع الكيميائي فريدريك سودي (Frederick Soddy) في مجموعة تجارب أساسية حول النشاط الإشعاعي
ولقد قاسا في البداية كيف يتغير الإشعاع مع الزمن حيث تناقصت إصدارات الثوريوم إلى نصف قيمتها خلال 60 ثانية، ثم تناقص الإشعاع المتبقي إلى نصف قيمته خلال الثواني الستين اللاحقة وهكذا. وتعتبر الثواني الستين نصف عمر الثوريوم.
ولقد توصلا فيما بعد إلى وجود سلاسل من عمليات التحلل. وفي ذلك الوقت، لم يكن مفهوم النظائر معروفاً، لكنهما تمكنا من القول بوجود سلاسل من الإصدارات غير المستمرة التي يُظهر كل منها نصف عمر خاص. بينت الدراسات الكيميائية أن الإصدارات المختلفة تأتي من مواد تتمتع بخواص أجهزة كيميائية أخرى مثل الأكتينيوم والرادون والبزموت والرصاص.
لقد أقاما الدليل على تحول الأجهزة المشعة من خلال سلاسل من التفكك. ولقد نال رذرفورد جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908 من أجل اكتشافاته، فقال متهكماً أن سرعة التحولات التي عاينها كانت أقل من السرعة التي حولته فيها لجنة نوبل من فيزيائي إلى كيميائي.
وكنتيجة ثانوية لسلاسل التحول، أدرك رذرفورد أنه يمكنه تحديد عمر أية عينة معينة من مادة مشعة، ولقد حدد نصف عمر كل من منتجات التحلل، وإذا ما قاس شدة إشعاع كل منها عند أي زمن معين، فيمكنه الحساب العكسي متى تشكلت الصخرة واحتوت فقط المكون الأم. لقد اخترع التأريخ الإشعاعي.
في عام 1907، انتقل رذرفورد إلى جامعة مانشستر في بريطانيا حيث أثبت هناك أن جسيمات ألفا ليست إلا ذرات هليوم فقدت إلكترونيها، وخلال هذا الوقت، بدأ يستعمل حزمات جسيمات ألفا لسبر بنية المادة وطلب من إرنست مارسدن (Ernest Marsden) وهانس غيغر (Hans Geiger) دراسة انتثار جسيمات ألفا عن ورقة الذهب (يعتبر غيغر مخترع عداد غيغر الشهير الذي يستعمل لكشف الإشعاع)، فأقاما تجربة رائعة لكنها بسيطة يبينها شكلياً الشكل 7.4. يحدد موجِّه الحزمة (collimator) حزمة من جسيمات ألفا توجه نحو ورقة رقيقة من الذهب ترسب حولها كواشف متألقة من طلاء كبريت الزنك على شاشة. وعندما تسقط جسيمة ألفا على الشاشة، تتولد ومضة ضوء صغيرة يمكن رؤيتها بواسطة مجهر في حجرة عاتمة.
أمضى مارسدن ساعات في الحجرة لمعاينة مكان ظهور الومضات على الشاشة ووجد أن معظمها يشاهد خلف الشاشة مما يشير إلى أن جسيمات ألفا تعبر الورقة دون انحناء أو مع انحناء صغير فقط. كانت المفاجأة أنه، حتى أمام الورقة، كان يلاحظ عدد صغير من الومضات عند الزوايا الكبيرة.
علَّق إرنست رذرفورد لاحقاً أن " ذلك كان لا يصدق كما لو أنك تُشعل قوقعة من 15 بوصة عند قطعة ورقة نسيجية وأنها تنعكس لتضربك". ثم مضى أكثر من سنة عندما أدرك رذرفورد الآثار الكاملة للتجربة واقترح نموذجاً جديداً لبنية الذرة.
في ذلك الوقت، كان السائد أن الشحنة الموجبة المعادلة لشحنة الإلكترونات السالبة كانت تتوزع بانتظام على الذرة، وهذا ما سمي نموذج "خلطة الحلوى". وإذا كان هذا النموذج صحيحاً، فيمكن لجسيمات ألفا المرور ببساطة عبر الورقة. لكن إذا كانت الشحنة الموجبة تتركز في ما نسميه اليوم النواة، فعند ذلك، يمكن أن تنحرف جسيمة ألفا بزاوية كبيرة، ويتشابه ذلك مع ضرب كرة البيليارد مباشرة حوض كرات وانعكاس الاتجاه.
من أجل تفسير هذه المشاهدات، اقترح رذرفورد أن الذرات ليست كرات متجانسة وأنها تتألف من نواة مركزية كثيفة جداً تتوزع حولها الالكترونات الأكثر صغراً، كما طور نظرية ما يسمى الآن انتثار رذرفورد.
في هذه النظرية، تقترب جسيمات ألفا من الذرة وتتنافر جسيمة ألفا والنواة موجبتي الشحنة. وإذا ما مرت جسيمة ألفا على مسافة من النواة، فإنها تنحرف قليلاً، أما إذا جاءت جسيمة ألفا قرب النواة، فإنها تنحرف ،عندئذ، بزاوية كبيرة حتى أنها قد تساوي 180° بالنسبة لاتجاهها الأصلي. وهكذا، قادت التجربة المضنية في تعداد ومضات الضوء خلال ساعات في حجرة مظلمة إلى النموذج الحالي للذرة مع نواة موجبة الشحنة في مركزها (Reeves 2008 and Lightman 2005).
لم يُستكمل النموذج بعد لأنه كان ينبغي تفسير ماذا كانت تفعل الإلكترونات. ولماذا لا تفقد الإلكترونات سالبة الشحنة الطاقة ببطء وتتابع مسار حلزوني إلى النواة موجبة الشحنة؟ حُلَّت هذه المسألة من قبل نيلس بور (Niels Bohr) الذي جاء للعمل في مختبر رذرفورد عام 1911 ونال جائزة نوبل عام 1920 من أجل عمله.
اقترح أن الإلكترونات تتحرك على مدارات ثابتة دون إصدار طاقة وأن المدارات مكممة مع كون عزمها الزاوي مساوياً إلى مضاعفات ثابت بلانك مقسوماً على 2π. وكما نوقش أعلاه وفي الفصل 5، يمكن للإلكترونات أن تتحرك من مدار إلى آخر بامتصاص طاقة تساوي الفرق بين طاقة المدارات المتجاورة.
علاوة على ذلك، يتحدد عدد الإلكترونات في كل مدار بواسطة تناظر المدارات ولا يمكن للإلكترونات أن ترتفع إلا إلى مدارات غير ممتلئة تماماً. يعتبر نموذج بور لبنية إلكترونات ذرة الأساس الذي بُني عليه وصف الميكانيك الكمي الحديث لبنية الذرة من قبل أرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) وفيرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) في سنوات العشرينات.
شكلت التجارب التي عُرضت أعلاه الأساس من أجل فهم كيف تتبادل جسيمات ألفا موجبة الشحنة الأفعال مع النواة، كما تتبادل جسيمات ألفا الأفعال مع الإلكترونات في ذرة. وتمتلك جسيمات ألفا طاقة حركية أكبر بكثير منها في الإلكترونات كما تعتبر أثقل منها. ونتيجة ذلك، هناك فقط تغير صغير في عزم جسيمات ألفا. ويمكن للمرء التفكير في بحر الإلكترونات على أنه يُشبه مائعاً لزجاً يُطبق متانة عامة على جسيمات ألفا مسبباً فقدانها البطيء لبعض طاقتها.