نبذة تعريفية عن مدينة قُرطبة المتواجدة في إسبانيا
2003 موسوعة الكويت العلمية للأطفال الجزء الرابع عشر
عبد الرحمن أحمد الأحمد
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
مدينة قُرطبة إسبانيا الاماكن والمدن والدول المخطوطات والكتب النادرة
قُرْطُبَةُ مدينةٌ ذاتُ تاريخ عريقٍ، تَقَعُ في «الأَنْدَلُسِ» (أَسْبانيا حالِيّاً). علَى سَهْلٍ مُرْتَفِعٍ في جَبَلِ قُرْطُبَةَ المعروفِ عِنْدِ المؤرِّخينَ العَرَبِ باسمِ «جَبَلِ العَروسِ» من سَلاسِلِ جِبالِ «سِيَرا مُوريَنا» الّتي تَمْتَدُّ شَمالَ قُرْطُبَة. ويَتَراوَحُ ارْتِفاعُ قُرْطُبَةَ ما بَيْنَ 100 و 123 متراً فَوْقَ سَطْحِ البَحْرِ.
أمَّا جِهَةَ الجنوبِ فَتَقَعُ قُرْطُبَةُ علَى الضِّفَّةِ اليُمْنَى مِنْ نَهْرِ الوادِي الكبيرِ الّذي يَنْبُعُ مِنْ جَبَلِ «شقورة»، وهو النَّهْرُ الوَحيدُ في الأَنْدَلُسِ الّذي سُمِّيَ باسْمٍ عَرَبِيٍّ، ويَتَفرَّعُ إلَى فَرْعَيْنِ أَحَدُهُما يُسَمَّى النَّهْرَ الأَبْيَضَ، والآخَرُ يَمُرُّ في قُرْطُبَةَ ويَصُبُّ في المحيطِ الأَطْلَنطِيَّ.
وقُرْطُبَةُ مدينةُ ذاتُ أرضٍ خِصْبَةٍ حَوْلُهَا مَناطِقَ جَبَلِيَّةٍ غَنِيَّةٍ بِالمَرَاعِي والكرُوْمِ وَأشْجَارُ الزَيْتُونِ .
وَهِيَ تُعَدَّ مِنْ أَكْثَرِ المَناطِقِ الزِرَاعِيَّةِ إنْتَاجاً فِي أسبَانْيَا، وِبِخَاصَّةٍ سَهْلِ «الكَنْبَانِيَةِ»، وَهِيَ أَرْضٌ سَهْلَيِّةٌ تَمْتَدُّ جَنُوبَ المَدِيْنَةِ تَزْرَعُ فِيْهَا أَشْجَارُ الزَيْتَونِ وَتَقُومُ عَلَيْهَا صِنَاعَةِ اسْتِخرَاجِ الزَّيْتِ وِصِنَاعَةِ الصَّابُونِ.
والاسْمِ القَدِيمُ لِمَدِينَةِ قُرْطُبَةِ هُوَ «كُوردُوبَا» ، وَهُوَ اسْمٌ أيْبِيْريٌ قَدِيمٌ الأَصْلُ وَفِي أَثْنَاءُ الصِّرَاعِ بَيْنَ رُومَا وقُرْطَاجَنَةُ سَاهَمَ القَرْطِبْيِّونْ فِي حَمْلَةِ هَانِيبَال عَلى رُومَا ، وَأَصْبَحَتْ قُرْطُبَةِ عَاصِمَةِ لإِقْلِيُم أَسْبَانْيَا السُفْلَى.
وتَألَّقَت قُرْطُبَة فِي العَصْرِ الرُّوْمَانِّيِ، وَاتَّسَعَتْ قَاعِدَتِها وَازْدَهَرَ عُمْرَانِهَا، ثُمَّ كَانَتْ الغَزَوَاتِ الجُرْمَانِّيَّةِ المُدَمَّرةِ على أسْبانْيا الّتي قَضَتْ علَى معالِم الحَضارَةِ الرُّومانِيَّةِ هناكَ.
ثًمَّ سَيْطَر البيزَنْطيُّونَ علَى قًرْطُبَةَ، وأَخَذَتْ المدينةً تَفْقِدُ أَهَمِّيَتَها تَدْريجِيَّا حتَّى الفَتْحِ الإسْلامِيِّ لَها بِقيَادَةِ طارِقِ بنِ زيادٍ . ثُمَّ زَحَف المسلمونَ علَى المُدُنِ الأسْبانِيَّةِ وفَتَحوها الواحِدَة تِلْوَ الأُخْرَى.
وَأصْبَحَتْ قُرْطُبةُ بَعْدَ الفَتْحِ الإسْلامِيِّ لها حاضِرَةَ (عاصِمَةَ ) إسْبانْيا ، واحْتَفَظ أَهْلُها مِنَ النَّصارَى بِحُرِّيَّتِهِم الدِّينِيَّةِ مقابِلَ دَفْعِ الجِزْيَةِ .
وَبَدأ التَّاريخُ الإسْلِامِيُّ لِقُرْطُبَةَ مُنْذُ عَهْدِ «السَّمْحِ بنِ مالِكِ» الّذي وَلِيَ الأَنْدَلُسَ عامَ 100هـ، ورَفَعَها إلَى مَصافِّ الحَواضِرَ الكُبرَى، وبَدَأَتْ تَبْرُزُ إلَى الوُجودِ كَمدينَةٍ عالَمِيَّةٍ ذاتِ شَأنٍ كبيرٍ عنِدْمَا اتَّخَذَها الأميرُ عَبدُ الرَّحمَنِ بِنُ مُعاوِيَةَ عاصِمَةً لَهُ.
فكانَتْ قرطبةُ مَوْطِنَ الفَلاسِفَةِ والشُّعُرَاءِ ومَرْكِزاً للفُنُونِ والآدَابِ، وَكَانَتْ أَكْثَرَ مُدِنِ أُورُوبَا سُكَّاناَ. وَبَلَغَتْ أَيَامُ الخَلِيفَةَ عَبدَ الرَّحمَنِ وَابْنَهُ الحَكَمِ مُسْتَوىً كبيراً منَ الرَّخاءِ والثَّراءِ، وأَصْبَحَتْ عاصِمَةً للمُسلمينَ في الأَنْدَلُسِ وأَكْبَرَ مُدُنِ العالَمِ آنَذَاكَ بَعدَ القُسْطَنْطِينِيَّةِ.
يَفِدُ إِلَيْها الملوكُ والسُّفَراءُ يُقَدِّمونَ للخليفَةِ فُروضَ الوَلاءِ والطَّاعَةِ، كما نافَسَتْ، بأبَّهَتِها وعَظَمَتِها وعُمْرانِها وتَأَلَّقِها الثَّقافِيِّ، كُبْرَى المُدُنِ الإسْلامِيَّةِ آنذَاكَ، مثل القاهِرَةِ والإسْكَنْدَرِيَّةِ ودِمَشْقَ وبغدادَ، وأَطْلَق عَلَيْها المُؤَّرِّخونَ اسْم «جَوْهَرَةِ العالَمِ».
وقَدْ أَبْدَعَ المُؤَرِّخونَ والجغرافيُّونَ في وَصْفِها وأَشادُوا بِعَظَمِتها، فَقَدْ ذَكَر ابنُ بَشْكوال، أَنَّها تَحْتَوِي علَى إِحْدَى وعِشْرينَ رَبَضاً (أيْ ضاحيةً أو حيّاً)، وفي كلٍّ مِنْها المساجِدُ حِرَفِ سُكَّانِها، مثل رَبَضِ الرَّقَّاقينَ، ورَبَضِ النَّجَّارينَ، وغَيْرِهم.
وكانَ يَشُقُّ مدينةَ قُرْطُبَةَ طريقٌ يُعْرَفُ باسْمِ «المَحَجَّةِ العُظْمَى»، يَتَفَرَّع إلَى طريقيْن رئيسيين يُؤَدِّيانِ إلَى شَبَكَةٍ منَ الدُّروبِ والحاراتِ.
وقَدْ اشْتَهَرَتْ قُرْطُبَةُ بالكثيرِ من المعالِمِ التَّارِيخِيَّةِ الإسْلامِيَّةِ الّتي لا تزالُ موجودةً حتَّى وَقْتِنا الحاضِرِ، وأَشْهَرُها المَسْجِدُ الجامِعُ. وهو مركزٌ إِسْلامِيٌّ كبيرٌ يَقَعُ قًرْبَ نَهْرِ «الوادِي الكبيرِ»، وتَلْتَفُّ حولَهُ باقِي المراكزِ العُمْرانِيَّةِ.
وعِنْدَما قامَ عبدُ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلُ بِتَوْسِعَةِ الجامِعِ ( 168 – 170 هـ)، حَرَصَ علَى أنَّ يكونَ البِناءُ تحفةً مِعْمارِيَّةً رائِعَةً من حيثُ زخارِفُهُ ونقوشُهُ وأَرْسَلَ في طَلَبِ الأَعْمِدَةِ اللَّازِمَةِ لِبنائِهِ مِنْ بُلْدانٍ مُخْتَلِفَةٍ، ولا زَالَتْ هذه الأَعْمَدةُ قائِمَةً حتَّى وَقْتِنا الحاضِرِ.
ومِنْ معالِمِ قُرْطُبَةَ الشَّهيرَةِ أًيْضاً «قَصْرُ الزَّهْراءِ»، وهو مَدينَةٌ حكومِيَّةٌ بَناها خلفاءُ بني أُمَيَّةَ لِتكونَ قَصْراً لِلْخليفَةِ وحاشِيَتهِ، ويقعُ علَى بُعدِ خمسةِ كيلومِتْراتٍ شمالَ غَربِ المَدينَةِ علَى سَفحِ جَبَلِ «العروسِ». وطولُ القَصْرِ 1525 متراً وعَرْضُه 750 متراً. وسُمِّيَ هذا القصرُ باسْمِ جارِيَةٍ كانَ يحبُّها الخليفَةُ، ونَقَشَ اسْمَها علَى بابِ قَصْرِهِ.
وأُلْحِق بالقَصْرِ مَسْجِدُ الزَّهْراءِ، الّذي تَمَّ بِناؤُهُ بِسُرْعِةٍ قِياسِيَّةٍ، وتَأَلَّف من خَمْسَةِ أَرْوِقَةٍ مُزَخْرَفَةٍ في غايةِ الجَمالِ.
وأَشْهَرُ مكانٍ في قَصْرِ الزَّهْراءِ «قاعةُ الخِلافَةِ»، الّتي تُعَدُّ تُحْفَةً مِعْماريَّةً رائِعَةً، فَقَدْ زُيِّنَ سَقْفُ القاعَةِ وجُدْرانُها بالفِضَّةِ والذَّهَبِ والمَرْمَرِ الشَّفَّافِ وفي وَسَطِ القَاعَةِ اللُّؤْلُؤةُ الفرَيدَةُ الّتي تَلْمَعُ بَينَ سائِرِ الأَحجارِ الكَريمَةِ قُربَ بِركَةٍ مَليئَةٍ بالزِّئْبَقِ.
ويُجْمِعُ المُؤَرِّخونَ علَى أنَّ هذا البناءَ العجيبَ لا يوجدُ مِثْلُه في التَّاريخُ، وقَدْ تَهَدَّم هذا القصرُ ولَمْ يَبْقَ منه سِوَى الأَطْلالِ.
واشْتَهَرَتْ قرطبةُ في العهدِ الإسْلامِيِّ بِكَثرَةِ أَسواقِها الّتي اعتَمَدَت نظامَ التَّخَصُّصِ: فهناكَ سوقُ العطَّارينَ وسوقُ القصَّابينَ وسوقُ السَّرَّاجينَ، وهكذا.
وتمتازُ مدينةُ قرطبةَ بِكَثرَةِ حمَّاماتِها، لأنَّها تَلِي المساجدَ في الأَهَمِّيَّةِ. ويُذكَرُ أنَّه بَلَغَ عَدَدُها في عهدِ ابن أبي عامِرٍ تِسْعَمِئَةِ حمّام. وتَقَعُ هذه الحمَّاماتُ قُربَ المساجِدِ حتَّى يسهلَ علَى المُصَلِّينَ الاسْتحمامُ والتَّوَجُّه إلَى المَسجِدِ.
وأَهَمُّ الثَّرَواتِ الطَّبيعِيَّةِ الّتي كانَتْ في قرطبةَ قديماً هي المعادِنُ، ومنها الذَّهَبُ والفِضَّةُ وكانَا يستعملانِ في سَكِ النُّقودِ والزِّينَةِ، وقَدْ اشْتَهَرَت قرطبةُ بِتُحَفِها الذَّهَبِيَّةِ والفِضِّيَّةِ. وكَذَلِكَ الحديدُ والزِّئْبَقُ الّذي يُسْتَخْرَجُ من شَمالِ مدينةِ قُرْطُبَةَ، والرُّخامُ الأبيضُ النّاصِعُ، وأحجارُ البِناءِ.
وأَهَمُّ الصِّناعاتِ هي طحنُ الحبوبِ، وعَصْرُ الزَّيوتِ الّتي كانَتْ تُسْتَخدَمُ في الأَطْعِمَةِ والإضاءَةِ. وكذلِكَ اسْتِخراجُ الزيوتِ العِطْريَّةِ من الاَزْهارِ المختَلِفَةِ من جَبَلِ العَروسِ، وتجفيفُ العِنَبِ، وجمعُ عَسَلِ النَّحْلِ، وصِناعَةً الأَدْوِيَةِ من بعضِ الاَعشابِ المُنْتَشِرَةِ بِكَثْرَةٍ في قُرْطُبَةَ والضّواحِي التّابِعَةِ لها.
وقَد اشتَهَرَت قرطبةُ بجمالِ الطبيعَةِ واعتِدالِ الجوِّ، فَكَثُرَتْ فيها الحدائِقُ والمتنزَّهاتُ، مثل مُتَنَّزَّهِ «الرَّصافَةِ» الّذي أَنْشَأَهُ عبدُ الرَّحْمَنِ الدَّاخِل.
وقَدْ اهْتَمَّ الخلفاءً الأَمويّونَ بالثَّقافَةِ والعِلْمِ، وهذا أكْسَبَ قرطبةَ أَهَمَّيَّتَها كعاصِمَةٍ عالَمِيَّةٍ، فظهرَتْ فيها المَكْتَباتُ العامِرَةُ بِنوادِرِ الكُتُبِ والمخطوطاتِ. كذَلِكَ انْتَشَرَتْ فيها المدارِسُ، حتَّى قِيل إنَّه لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ شخصٌ في قرطبةَ لا يجيدُ القِراءَةَ والكِتابَةَ.
كما اشْتهرَت بالعُلماءِ والشُّعراءِ، مثل الخليفَةِ الحَكَمِ، والشاعرِ أبي عَبدِ المَلِكِ مَروانَ حفيدِ عبدِ الرَّحْمَنِ الثّالِثِ، إضافَةً إلَى عشراتِ العُلَماءِ والفَلاسِفَةِ مثل ابنِ رُشْدٍ وابنِ طُفَيْل والقاضِي أبو الوليدِ الباجِيِّ، وزُرْيابِ الموسيقِيِّ، وابنِ عَبدَ رَبِّه اللُّغَوِيِّ، وغيرِهم.
كما اشْتَهَرَتْ المرأةُ في قرطبةَ في مجالِ الأَدَبِ والفنِّ، ومنهنَّ الشّاعِرَةِ «وَلاَّدَةُ بنتُ المُسْتَكْفِي» صاحِبَةُ الصالونِ الأدَبِيِّ الشَّهيرِ
وقَدْ حَكَمَ المسلمونَ قرطبةَ مُدَّةَ ثلاتَةِ قُرونٍ، وظَلَّتْ خِلالَ هذه المُدَّةِ تَنْعَمُ بالرَّخاءِ والثَّراءِ علَى نَحْوٍ لَمْ تَبْلٌغه حاضِرَةٌ أُخْرَى مِنْ قَبْلُ، وتَفَوَّقَتْ علَى سائِرِ المُدُنِ الإسْلامِيَّةِ حتَّى سَقَطَتْ الخِلافَةُ الأُمَوِيَّةُ وفَتَحَها البَرْبَرُ عامَ 1010م، وهَدَموا آثارَها.
ومنذُ ذَلِكَ الحينِ، ورَغْمَ هذه العواصِفِ الّتي هَزَّتْ كِيانَها اسْتَطاعَتْ أَنْ تَحْتَفِظَ بِبَعْضِ عَظَمَتِها وتَفَوُّقِها بالجمالِ والأدَبِ والفَنِّ والصِّناعَةِ، إلَى أنْ قامَ بِفَتْحها فِرنانْدو الثالثُ عامَ 1236م.
وأثارَ سقوطُ قرطبةَ الحزنَ في نفوسِ المسلمينَ، وتحوَّلَ مَسْجِدُها الجامعُ إلَى كَنيسَةٍ كُبْرَى، وهَجَرها الشَّباب المسلمونَ، وأُزيلَ الكثيرُ من المَعالِمِ الإسْلامِيَّةِ البارِزَةِ فيها.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]