الاقتصاد السياسي لدولة الرفاه في تنظيم مجتمع السوق
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
لفترة طويلة من القرن التاسع عشر، تم استخدام مبدأ عدم التدخّل الليبرالي ذريعةً لتبرير سياسات الحكومات التي تهدف إلى تعميق دور الأسواق في المجتمع ولكن المقاومة والدفع نحو الإصلاحات اكتسبا زخماً مع تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية بدرجة كبيرة وتطورت الصراعات الطبقية المفتوحة بين العمّال وأرباب العمل. وقد كان موقف الليبراليين الاجتماعيين وغيرهم من إصلاحيي "الطبقة الوسطى" (Middle Class) مثل "الجمعية الفابية" (Fabian Society) داعماً للعمّال في دعوتهم إلى الإصلاحات الاجتماعية المنهجية عبر الحكومة.
تمثّل الإرث المستمر لحركة إصلاح القرن التاسع عشر بولادة الديمقراطية الاشتراكية وقد عنى ذلك فعلياً السعي إلى تحقيق الأهداف الاشتراكية عبر البرلمان بدلاً من الثورة. وقد تطورت الأحزاب السياسية التي تأثرت بالديمقراطية الاشتراكية وأنشأت علاقات وثيقة مع النقابات العمالية وغيّرت العديد من المجتمعات الرأسمالية وعكست سياساتها اهتمام العمال في دعم أجور أعلى وظروف عمل أفضل ومعاشات تقاعدية للعمال الأكبر سناً بالإضافة إلى السكن والرعاية الصحية.
وقد رأى بعض الليبراليين الاشتراكيين أنه في حين يبقى مبدأ "الحكومة المحدودة" (Limited Government) محورياً للحفاظ على الحقوق الفردية، يمكن، لا بل يجب، تسخير الدولة للغايات الاجتماعية. وتشير العلاقة المتبادلة بين الأزمات الاقتصادية والإصلاحات السياسية أنه بشكل أو بآخر تُعتبر التسويات السياسية والاقتصادية جزءاً ضرورياً للحفاظ على الدولة الدستورية والاقتصاد الرأسمالي ويتجلى هذا الأمر بوضوح في دولة الرعاية.
الدور المتنامي للدولة
تحققت مكتسبات حركات إصلاح القرن التاسع عشر بعد جهد جهيد وغالباً ما تضمنت صراعاً كبيراً. ولكنها أعادت تعزيز الدور التنظيمي للدولة في النشاط الاقتصادي وأرست القواعد المؤسسية لتوسيع شكلها ومداها. وقد تجلى هذا الصراع أيضاً في النظرية الاقتصادية. ففي حين كانت المقاربة الكلاسيكية الجديدة الناشئة تدعم مبدأ عدم التدخل مفضّلة المنافسة في السوق لإعادة الاقتصاد إلى مرحلة التوازن كان المؤسساتيون والكينزيون يفضلون اضطلاع الدولة بدور أكبر.
يركّز المؤسساتيون انتباههم على الطريقة التي تتطور فيها المؤسسات في الاقتصاد وتنمو تاريخياً. وهم يرون أن المؤسسات التي نرثها تتحكم بالخيارات الاقتصادية المتوفرة لنا. يعترف المؤسساتيون بأن الدول تضطلع بدور كبير في إنشاء الأسواق وصياغة عملياتها ولكنهم يسعون أيضاً إلى فهم التداعيات الأوسع للتطوّر المؤسسي على النشاطين الاجتماعي والاقتصادي. وبالإضافة إلى تطور "الحكومة الكبيرة" (Big Government) فإنهم يحددون أيضاً تطور "الأعمال الكبيرة" (Big Business) التي تتخذ شكل الشركات و"العمالة الكبيرة" (Big Labour) التي تتخذ شكل النقابات العمالية.
وقد تولّى العديد من مؤيدي النزعة النظامية أدواراً أساسية في الدولة وأسس ويسلي ميتشل(Wesley Mitchell) المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية للولايات المتحدة في العام 1920 وهذا ما أمّن للدولة المعلومات الأساسية حول الإنتاج والعمالة والأسعار التي كانت تحتاج إليها لإدارة الإنتاج الاقتصادي بشكل أفضل.
اضطلع جون ك. غالبرايث (John K. Galbraith) بدور مهم في تنظيم الأسعار في خلال الحرب العالمية الثانية. وقد قادته ملاحظاته الثاقبة إلى فهم كيف تتصرّف الشركات الكبيرة غالباً كالحكومات مستخدمة الخطط في إدارة إنتاجها الخاص.
يركز مؤيدو النزعة النظامية على التاريخ وتفاصيل أسواق العالم الحقيقي بالمقارنة مع النظرية الكلاسيكية الجديدة التي تركز على التجريد والتفسيرات الرياضية للسلوك الاقتصادي. وقد تنافست النزعة النظامية مع الكلاسيكية الجديدة لعدة عقود على النفوذ. وحتى مع بدء اقتصاد الكلاسيكية الجديدة بالسيطرة فقد تعرّض لتحديات أكبر مع الكساد الكبير وهذا ما قاد العديد من الأشخاص إلى التساؤل حول قدرة الأسواق على التحرّك بمنطقٍ "منظِّم للذات"(Self-Regulating) . وقد كان هذا هو السياق الذي كتب فيه جون مينارد كينز مؤلّفه المؤثّر النظرية العامة (General Theory).
وكما ناقشنا في الفصل الثالث رأى كينز أن الأسواق يمكن أن تنتج بطالة مستمرة واسعة النطاق وأن النظام الرأسمالي يفتقر إلى أي آلية تلقائية لتصحيح هذا الأمر. وبذلك فقد عاين الدور الاقتصادي الذي تحتاج الحكومات إلى الاضطلاع به في مجتمعات السوق عبر مراحل الانكماش والتعافي. وقد كانت هذه الأفكار مهمة في صياغة سياسات الحكومات في مرحلة ما بعد الكساد الكبير.
إلى جانب ذلك، كان كينز ممثل بريطانيا في مفاوضات بريتون وودز(Bretton Woods) في العام 1944 التي حددت الشكل المؤسسي لاقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد عمل النظام الاقتصادي الدولي الذي انبثق ما بعد مفاوضات بريتون وودز حتى السبعينات، معززاً عصراً ذهبياً للرأسمالية. وقد كانت تلك الفترة غير مسبوقة من حيث النمو والعمالة شبه الكاملة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة.
محليّاً، تم وهب الحكومات الوطنية سلطة كبيرة على تنظيم الأسواق. أما دوليّاً، فاتّخذت الدول دوراً رئيسيّاً في بذل الجهود لإعادة الإعمار بعد الحرب، فقدّمت سياسات تجاريةً مساندةً ومواتية للاقتصاد الذي دمّرته الحرب في أوروبا واليابان. كما ساهمت في بناء النظام المالي المنبثق عن "بريتون وودز" الذي أنشأ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (سيتم شرحه في الفصل 6). واستند هذا النظام إلى مبدأ تقييد التمويل الدولي وفرض استقرار العملة من أجل تحقيق النمو الاقتصادي العالمي.
تم تحديد العملات على قيمة ثابتة بالنسبة للدولار الأميركي الذي بدوره كان مرتبطاً بسعر الذهب. كانت أونصة واحدة من الذهب تعادل 35 دولاراً أميركيّاً، وكان من الممكن استرداد الدولارات مقابل الذهب بناء على طلب لدى المصارف. هذا يعني أن الدولار الأميركي أصبح عملة احتياطيّة عالميّة (كما كان الجنيه البريطاني في الحقبة السابقة لـِ "معيار الذهب" (Gold Standard Era)). وبهدف دعم هذا النظام، قدّم صندوق النقد الدولي إلى الدول قروضاً عند الضرورة للحفاظ على قيمة عملاتها. وقد تم تقييد حركة رأس المال عبر الحدود أيضاً من خلال ما تمت تسميته "القمع المالي" (Financial Repression).
بالإضافة إلى ذلك، تصدّر كينز مفهوم إدارة الاقتصاد الكلي حيث تمكنت االدول من إدارة النمو الاقتصادي الوطني. اعتبر ذلك عنصراً هاماً في تمويل مسؤوليّات الرفاه الاجتماعي للدولة. واعتقد كلّ من كينز والمؤسساتيّين أيضاً بأن الدولة يجب أن تستثمر مباشرة في البنية التحتية، مثل السكك الحديدية والمستشفيات والمدارس. وصنعت هذه الأفكار سياسات وطنية في جميع أنحاء العالم في خلال الطفرة بعد الحرب العالمية الثانية. كما أنشأت عصراً لعبت فيه الولايات المتحدة دوراً أساسياً لتشكيل اتجاه التنمية الاقتصادية.
كينز وإدارة الاقتصاد الكلي
صرّح كينز أن الثقة قد لعبت دوراً هاماً في نمو الاقتصاد. وكلّما فقدت الشركات أو الأسر الثقة، استثمرت وأنفقت أقلّ، مما ينتج منه "نبوءة الاكتفاء الذاتي" (Self-Fulfilling Prophesy) وعلى الأرجح أزمة اقتصادية (الفصل 3). تنبع هذه النتائج من المستهلكين والشركات الفردية التي تعمل في الطرق التي تبدو لهم منطقيّة على الصعيد الشخصي. إلا أنّها غير منطقيّة من وجهة نظر الاقتصاد ككلّ. وبالتالي، اعتقد كينز أنّه يتعيّن على الحكومات اتخاذ إجراءات لتحفيز النشاط الاقتصادي ومنع زيادة الركود. هذا هو أساس سياسة الاقتصاد الكلي الذي يستهدف الحفاظ على المستوى "الكلّي" من النشاط الاقتصادي، بدلاّ من التركيز على الأسواق الفرديّة. ظنّ كينز أنه إذا كانت الدولة قادرة على تحفيز الناس على الإنفاق مرّة أخرى، فستبدأ الشركات بالتوظيف وسيبدأ الاقتصاد بالنمو.
إن السياسة المالية والسياسة النقدية هما الآليّتان الأكثر شيوعاً التي تستخدمها الحكومات لإدارة "الاقتصاد الكلي" (Macro Economy). تستخدم السياسة المالية ميزانية الحكومة لرفع أو خفض الضرائب وتخصيص الإنفاق، بينما تتمحور السياسة النقدية حول تحديد أسعار الفائدة والتزويد الكلي للنقود. تم تصميم كلّ من السياستين لتكونا "مواجهتين للتقلبات الدورية"، وهذا يعني أنهما تدفعان الاقتصاد في الاتجاه المعاكس لخلق فرص عمل في الأسواق في حالة الركود وخفض التضخم في أوقات الطفرة.
وفقاً لكينز، في خلال فترات الركود يتعيّن على الحكومات أن تُنفق أكثر من أجل التعويض عن انخفاض الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار في الأعمال التجارية. هذا من شأنه أن يحفّز الطلب ويزيد من النمو الاقتصادي. عندما يتم هذا الأمر، تستفيد الحكومة من عائدات ضريبية أعلى، وهذا يعني أن أي عجز في الميزانية سيموّل نفسه في الواقع من خلال زيادة الإنتاج. وفي الأوقات الجيّدة، سيأخذ الفائض في ميزانية الحكومة المال من الاقتصاد مما يقلّل من خطر التضخم.
يرى كينز أن السياسة المالية هي أكثر فعالية من السياسة النقدية في ما يخصّ تحفيز الاقتصاد. اقترح أن تكون السياسة النقدية مثل السلسلة التي يمكن أن تسحبها (ترفع أسعار الفائدة لوقف الاقتصاد من التدهور)، ولكن لا تدفعها. أما في الأوقات العصيبة، فحتّى أسعار الفائدة المنخفضة لا تشجّع الاستثمار لأن الشركات لا تعتقد أنّها ستحصل على الكثير من الربح، بينما الأسر تخاف من فقدان وظائفها وتصبح غير قادرة على سداد القروض. وهذا هو بالضبط الوضع الذي حدث في خلال فترة الكساد الكبير.
ومع ذلك، منذ التسعينات كثيراً ما تم النظر إلى السياسة النقدية باعتبارها الأداة الرئيسيّة لسياسة الاقتصاد الكلي. إن رفع أسعار الفائدة يقلّل من الاستثمار في الأعمال التجارية والإنفاق الأسري عن طريق زيادة تكلفة اقتراض المال. وعادة ما يتم ذلك من قبل البنك المركزي (على سبيل المثال، بنك الاحتياطي الأسترالي أو مجلس الاحتياطي الاتحادي في الولايات المتحدة). تقترض الشركات المال للاستثمار ولكن عندما تعتقد أن أرباحها ستكون كبيرة بما يكفي لتسديد الفائدة. وبالمثل، فإن الأسر تحتاج إلى أن تكون واثقة من أنها قادرة على تسديد الرهون.
ويدعو أتباع كيّنز أيضاً إلى اتخاذ تدابير أخرى للسياسة التي كانت أساس بعض دول الرفاه. على سبيل المثال، يحدّد هؤلاء الباحثون أن ذوي الدخل المنخفض ينفقون أكثر من مدخولهم لأنهم لا يستطيعون الادخار. ولذلك، يحبّذ أتباع كيّنز سياسات إعادة توزيع الدخل التي تنطوي على زيادة الإنفاق الاستهلاكي.
توفّر دولة الرفاه أيضاً عوازل آمنة للاقتصاد تسمّى "المثبتات التلقائية"(Automatic Stablisers). في خلال فترات الركود، تهبط إيرادات الضرائب والمساعدات الرعائية مما يؤدي إلى زيادة العجز في الميزانية. في أوقات الازدهار الاقتصادي، ترتفع عائدات الضرائب وتهبط المدفوعات الرعائيّة مولّدةً فائضاً في الميزانية. وهذا يحدث تلقائياً، مع تثبيت الاقتصاد من دون أي تغيير في إعدادات السياسة.
تواصل المبادئ الأساسية لإدارة الاقتصاد الكلي تعزيز ما تقوم به الدول في الواقع. ومع ذلك، في أواخر السبعينات، تم التساؤل حول المدى العام للنشاط الحكومي في الاقتصاد. منذ ذلك الحين، تم تهميش الكينزية والدعوة إلى دور اقتصادي فعّال للدولة عن طريق الترويج لليبرالية الجديدة، خاصة على مستوى "الاقتصاد الكلي"، وهو موضوع آخر نكتشفه في الفصل التالي.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]