الحماية الاجتماعية والسوق
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
كما ناقشنا في الفصلين 4 و 5 أصبح دور الدولة في تأمين الحماية الاجتماعية موضوع حملات لـ "إرجاع الدولة إلى الخلف". وفيما كانت هذه الحملات بشكل جزئي أيديولوجيةً بطبيعتها، كانت أيضاً بمثابة ردّة فعل على ضغوط التنافس التي تسببها العولمة. فقد شجع المدافعون عن الكلاسيكية الجديدة على تخفيض إنفاق الحكومة ومعدلات الضرائب كما على تحرير أسواق العمل. انخفضت بشكل كبير معدلات الضرائب على أصحاب الدخل العالي والشركات في العديد من البلدان بحيث انخفض متوسط معدل ضريبة الشركات في منظمة التعاون والتنمية من 44 % الى 31 % بين 1985 و 2004 (Kelly and Graziani 2004).
تمكّن الليبراليون الجدد من تحقيق نجاح كبير من خلال الحدّ من الدور المباشر للدولة في إنتاج العديد من البضائع والخدمات. على سبيل المثال تم نقل ملكية العديد من الصناعات من ضمنها مناجم الفحم ومعامل الفولاذ من الدولة الى ملكية خاصة في بريطانيا. وبصورة مماثلة في أستراليا تمت خصخصة البنوك وخطوط الطيران والاتصالات السلكية واللاسلكية العامة. غير أن عمليات الخصخصة الأسوأ حصلت في الدول التي هي بطور النموّ.
أحدثت الليبرالية الجديدة تغييرات في تنظيم أسواق العمل. في أستراليا على سبيل المثال تم استبدال نظام المكافآت المركزي (فصل 5) تدريجياً بنظام المساومة في الأجور غير المركزي. وكان هذا تغيير مؤسساتي جذري مع تحديد الأجور والشروط على مستوى المؤسسة (الشركة) أو مع كل فرد موظف بدل أن يكون على مستوى الصناعة (Castles 2001, Mendes 2009). فقللت هذه التغييرات بشكلٍ عام من دور العمل المنظم في تنظيم الأجور والشروط وزادت من دور المنافسة في الأسواق. وتراجع عدد أنواع العمل الذي يمنح أماناً أكبر للعمال كالتثبيت الدائم مقارنةً مع أنواع أقل أماناً وأقل مرونة من التوظيف كالعمالة المؤقتة والعمالة بموجب عقد. إذ تغير هذه الممارسات التوظيفية المرنة طرق إدارة المخاطر في مجتمع الأسواق. ويستجيب المستخدمون بصورة أفضل لشروط الأسوأق المتغيرة من خلال التغيير المباشر لعدد العمال المستخدمين وعدد ساعات عملهم، ما يساعد الشركة على ادارة المخاطر ولكن يزيد المخاطر التي يواجهها العمال بحيث يتم تقويض الدخل والأمن الوظيفي. أسفرت هذه التغييرات عن زيادة التفاوت في الدخل وأنتجت أيضاً عدم تساو جديداً مبنياً على طبيعة التوظيف لشخصٍ ما.
لدى العمالة المؤقتة والعمالة بموجب عقد فرص أقل للوصول الى الفوائد الوظيفية كالعطل والإجازة المرضية وإجازة الوالد/ الولدة وغالباً ما لديهم فرصة أقل للتقدم الوظيفي. يجادل البعض بأن هذه الأمر يُنشئ نوعاً جديداً من "التوظيف غير الثابت" (Precarious Employment) ومن المحتمل أن يُنشئ فئة جديدة من العمال غير الثابتين (انظر فصل 8). علاوة على ذلك، غيّر تراجع دور النقابات وانخفاض عدد المنتسبين للنقابات والتحديد الأقل مركزية للأجور توزيع الدخل. ففي الولايات المتحدة لم تتغير الأجور الحقيقية منذ سبعينات القرن الماضي على الرغم من أن الإنتاجية ارتفعت بشكل كبير (Krugman 2007). وكذلك ارتبطت إعادة التنظيم الاقتصادي في أستراليا بانخفاض كبير في حصة العمال من إجمالي الدخل الذي يتم الحصول عليه من خلال الأجور وزيادة نسبة الدخل القومي الذي يذهب إلى رأس المال من خلال الأرباح (Pusey 2003, Appendix A).
ويتجلى تغير طريقة مواجهة الأشخاص يومياً للمخاطر خلال العقود الأربعة المنصرمة من خلال تغييرات السياسات النقدية التي خفضت من منزلة التوظيف الكامل لصالح استهداف التضخم. فخلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أي مرحلة بريتون وودز عملت السياسات النقدية على حماية المواطنين من العديد من مخاطر السوق. وحملت الاتفاقات الدولية المصارف المركزية مسؤولية الحفاظ على قيمة العملة الوطنية عند معدل متفق عليه وبذلك تحمي الاقتصاد المحلي من تقلبات أسواق العملات العالمية. أحكمت الحكومات في حينها السيطرة على العديد من المصارف المركزية ( وكان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي استثناء جديراً بالذكر).
عملت السلطات النقدية مع الحكومات لتحقيق توظيف كامل بينما حمى وضع سقف لمعدلات الفائدة في العديد من البلدان أصحاب الرهن العقاري من زيادات كبيرة في دفعات رد الدّين. ولكن، مع الأزمة وانهيار النظام الاقتصادي ما بعد الحرب، بدأت هذه التدابير تتغير من سبعينات القرن الماضي. وهكذا حددت معدلات الفوائد بواسطة مصارف مركزية "مستقلة" بدل أن تحددها الحكومات لأهداف السياسة (كالتوظيف الكامل). ففقدت الحكومات واحدة من رافعاتها السياسية بينما انتقل هدف السياسة النقدية أيضاً من تأمين توظيف كامل لتأمين استقرار الأسعار في العديد من البلدان.
أثارت تعديلات معدلات الفوائد شكوكاً جديدة حول الرهون العقارية والمؤسسات التجارية، كما زادت عدم الأمان الوظيفي لدى العمّال. تعلو معدلات الفوائد وتنخفض للسيطرة على التضخم بينما بات معدل البطالة المرتفع ظاهرة متكررةً في الأنظمة الاقتصادية. وبذلك ازدادت مخاطر السوق بالنسبة للكثيرين. وصودفت هذه التغييرات في أوروبا مع تقييدات تحت إطار معاهدة ماستريخت(Maastricht Treaty) والتي تم إقرارها سنة 1992 وألزمت الدول الأعضاء بإبقاء العجز دون 3% من الناتج المحلي الإجمالي. ورافقت هذه التغييرات في السياسات تطبيق منطق السوق على العديد من جوانب الدولة نفسها.
منطق السوق في الدولة
تنظّم مؤسسات الدولة بطرق مختلفة دعم الشركات الخاصة وتحفظها عادةً أهداف ثلاثة. داخلياً، استمتع العديد من موظفي القطاع الخاص بفوائد الاحترافية والاحتفاظ بسيطرة أكبر على عملهم وعلى التطور الوظيفي. وعزز روح الخدمة العامة خاصةً في أنظمة وستمينستر نظام خدمة عامة مستقل يُمكنه تقديم نصائح "صريحة ومن دون أي خوف" للسياسيين لأنهم لم يضطروا للاعتماد مباشرةً على مستخدمهم (الوزير) للحصول على الأجور وشروط العمل. فعلى سبيل المثال كان يتم تأمين الخدمات الصحية على أساس تقييم الحاجة بواسطة موظفين متمرسين في الحقل الطبي بدلاً من القدرة أو الرغبة بالدفع.
ساهمت أفكار مستحدثة أبرزها نظرية "الإدارة العامة الجديدة" (New Public Management) في دعم هذه التغيرات. وقد طبقت التقنيات الإدارية المعتمدة في المؤسسات الخاصة على القطاع العام بحجة أنه ينبغي على موظفي القطاع العام أن يكونوا أكثر استجابة لمتطلبات السوق وأكثر تنظيماً. قللت نظرية الإدارة العامة الجديدة من سيطرة الخدمة العامة على الترقيات وأخضعت موظفي القطاع العام لإدارة الأداء وأدخلت مفهوم مكافآت الأداء لكبار الموظفين كما عند المدراء التنفيذيين في عالم الشركات. وأعتبر النقاد بأن هذه التغييرات قوضت الاستقلالية وشجعت موظفي القطاع العام على اطلاع السياسيين ما يريدون سماعه (McDermott 2007).
وعلى نطاق أوسع شجعت نظرية الإدارة العامة الجديدة على المنافسة من خلال السماح للشركات الخاصة بالتنافس مع القطاع العام في تقديم الخدمات العامة. وبدأت الحكومات في العديد من البلدان بالاستعانة بمصادر خارجية لتقديم الخدمات إن كان مباشرةً من خلال القطاع الخاص أو من خلال ابتكارات جديدة كالشراكات العامة – الخاصة. والذي كان عبارة عن تمويل مشترك بين الحكومة وشركة خاصة لبنية تحتية جديدة (كطريق أو سكة حديدية) وتُشغل الشركة الخاصة البنية التحتية بموجب قواعد يتم تحديدها في عقد. خلقت هذه المشاريع فرصاً جديدة ليحقق القطاع الخاص الأرباح ولكن المخاطر الفعلية كانت تواجهها الدول التي تتحمّل مسؤولية المشاريع(مربع 5.6). وعنت هذه التغييرات بأنه حتى لو استمرت الحكومات بانفاق كميات طائلة من المال، فهذا الانفاق يخضع على نحو متزايد لضرورات تحقيق الأرباح.
المربع 5.6 "أشباه الأسواق"
ظهرت في إطار الخدمات الاجتماعية، منطق سوق تخطى أهميةً أكبر ضمن حكومات "الطريق الثالث" في بريطانيا (بلير) وأستراليا (هاوك، كيتينغ) وألمانيا (شرودر). واعتبر منظّر السياسة جوليان لوغراند (Julian Le Grand) (2003) بأن المثال التقليدي لتأمين الخدمات الحكومية وضع الكثير من الثقة في تصرف المهنيين بطريقة غير أنانية والقليل من الثقة في متلقي الخدمات. وشددت المقاربة الجديدة على استعمال هيكلية الحوافز الداخلية لتشجيع المنافسة بعد تأثرها بالمفهوم الاقتصادي للمصلحة الذاتية العقلانية ومفهوم الحكم الذاتي الذي روج له من قبل المنظرون لحقوق العجز.
وكان إدخال ما يُسميه البعض أشباه الأسواق التقنية الرئيسية لتحقيق كل هذا. واعتبرت هذه أسواق لأنها أدخلت أوجه من المنافسة ولكنها كانت "شبه" لأن الحكومات احتفظت بالسيطرة على التمويل. فعلى سبيل المثال من الممكن إعطاء الأهل مجالاً أكبر في قطاع التربية من خلال اختيار المدرسة التي سيرتادها طفلهم ما سيخلق منافسة بين المدارس. ومن الممكن أن تخضع الخدمات الى مناقصات مما يُخول مزودين من القطاع الخاص ربح عقود من الدولة لتأمين خدمات كرعاية الطفل.
ادعى داعمو أشباه الأسواق أنه يمكن تخفيض التكاليف ورفع المعايير عبر إخضاع موظفي قطاع الخدمات لضغوطات التنافس. ولكن النقاد جادلوا بأنه غالباً ما شجعت الحوافز مقدمي الخدمة على خدمة الزبائن الأسهل والأربح، بدل خدمة الأشخاص الأكثر حاجة (على سبيل المثال العاطل عن العمل لمدة طويلة)، فيما يعرف بـ "وضع الغلاف الخارجي". وتم ربط التغييرات أيضاً بالابتعاد عن الشمولية ليتم تركيز انفاق مال الدولة على الأشخاص المحتاجين. ولكن يمكن أن يؤدي ذلك الى نظام من مستويين حيث يتقيد المواطنون الأكثر فقراً باستعمال الخدمات الاجتماعية بينما يمكن أن يختار المواطنون الأكثر ثراء بدائل من القطاع الخاص ممولة بطرق أفضل.
ويعتبر منظرو الحاكمية أنه يمكن أن تنشر هذه التغييرات سلطة الدولة. فمن الممكن أن تجبر الحكومات المواطنين على التصرف بطرق معينة من أجل الوصول الى فوائد أو خدمات من خلال السيطرة على التمويل والحوافز. خلقت الأنظمة الجديدة المزيد من البيانات ما أعطى الدولة امكانية الوصول الى تفاصيل الحياة اليومية للأشخاص. وسمح التركيز على الفئات المهمشة بإحداث استراتيجيات قسرية أكثر كإدارة الدخل بحيث الأشخاص الذين يتلقون المساعدات يستطيعون فقط إنفاق مالهم بطرق موافق عليها من قبل الدولة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]